كتب حمّور زيادة

على الرغم من سياسات الافقار الممنهجة التي يمارسها النظام السوداني منذ تسعينيات القرن الماضي، إلا أنه من الصعب ربط التطرف في السودان بالفقر والحالة الاقتصادية. العامل الاقتصادي يلعب دورًا بلا شك في بعض حالات التطرف. لكن النظرة العامة للوضع في السودان تؤكد أن هناك عوامل أخرى أكثر تأثيرًا على قضية الانتماء للتيارات الجهادية.

خلال الأشهر الماضية فر عدد من الشباب السودانيين، من الجنسين، إلى تنظيم الدولة الاسلامية (داعش). هؤلاء الشباب كانو طلابًا بجامعة العلوم والتكنلوجيا، المملوكة لوزير الصحة السابق (تمت اقالته بعد سفر الفوج الثالث من طلاب الجامعة). هذه واحدة من أغلى الجامعات السودانية التي يصعب دفع تكاليف الدراسة بها، إلا على الطبقة العليا من المجتمع. واحدة من الطالبات المنضمات لتنظيم الدولة ابنة موظف كبير بالخارجية السودانية.

عدد من هؤلاء الطلاب يحمل جوازات غربية. وفي حالة شهيرة لقي شاب سوداني مصرعه في سوريا مقاتلًا مع تنظيم الدولة (داعش)، بعد أن فرّ من بريطانيا حيث يقيم مع والديه. والدا الشاب شيوعيان، فرّا من السودان وحصلا على اللجوء السياسي في بريطانيا، خوفاً من بطش النظام الإسلامي بالخرطوم.

هذه حالات لافتة للنظر لا يمكن ربطها بالفقر والسياسات الاقتصادية.

وفي غالب الجامعات السودانية يبدو المنتمين للتيارات الدينية، السلفية، أو الجهادية، من أبناء الطبقة الوسطى بكافة تقسيماتها. بينما يلجأ أبناء الهامش الفقير للانضمام للجماعات السياسية التي تخاطب قضايا الهامش والتمييز العرقي.

ربما كانت قضية التطرف في السودان أقرب للمناخ العام الذي وفره النظام السوداني طوال مدة حكمه لأكثر من ربع قرن حتى الان. فمنذ وصول الاسلاميين إلى السلطة بانقلاب عسكري في العام 1989، عمل النظام على توفير حاضنة خصبة للتطرف. تم ذلك عبر الخطاب الاعلامي الأحادي. لأكثر من عقد كان تلفزيون الدولة يقدم برامج جهادية تتحدث عن الحرب ضد الكفار في جنوب السودان، وعن مؤامرات الغرب والعالم ضد المشروع الاسلامي. كما إن حالة تجريف ثقافي كاملة قد تمت عبر محاصرة الثقافة وحرية الرأي ومنع النشاط الجامعي.

اليوم وبعد 26 عاماً فإن الأفكار السائدة في الشارع السوداني – حتى عند المواطن العادي المتضرر من سياسات النظام – هي أفكار معادية للعلمانية، وتؤمن بسيادة الشريعة الإسلامية، وقتل المرتد عن الاسلام. لا تبدو الصورة التلفزيونية التي تقدمها داعش مختلفة عن الصورة الذهنية في الشارع السوداني. بالنسبة لرجل الشارع العادي فإن قطع يد السارق هو الحل الرادع للجريمة.

حملات الشرطة السودانية لانضباط الشارع العام، التي تطارد الفتيات اللائي يرتدين أزياء تخالف الشريعة أو العرف ليست مرفوضة من قطاع كبير. فقد نجح النظام السوداني في ترسيخ مفهوم "الدولة الأخلاقية" لدى المواطن. فتبدو أمور مثل الحريات الشخصية خارج نطاق النقاش. ويعتبر المواطن أن من واجبات الدولة الحد من الحريات الشخصية منعاً للفوضى والإنحلال الأخلاقي.

كما أن المناهج التعليمية التي تدرس مواد الجهاد في الإسلام، وتغذي أفكار سيادة العالم وغزوه رسخت هذه المفاهيم عند الغالبية العظمى من طلاب المدارس. الذين يحتويهم الجيش، بمجرد انتهاء فترتهم الدراسية وقبل دخول الجامعة، عبر برنامج التجنيد الإلزامي. مما يغذي شهوة العنف ويكرس لمبدأ القوة عند شباب في فترة المراهقة.

هذا المناخ العام الذي خلقه النظام تزامن مع حالة حصار معرفي فرضت من الداخل والخارج. لذلك فإن تصورات الشارع العادي عن العالم وعلاقة السودان به قائمة على تصورات مسطحة. أشهرها فكرة المؤامرة والعداء. يؤمن رجل الشارع العادي المعادي للنظام السوداني بأن العالم الغربي يتآمر على الإسلام. وقد ظهر ذلك في عام 2012 حين تظاهر ألاف السودانيين ضد الفيلم المسئ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهاجموا سفاراتي ألمانيا وأمريكا. لأن الفكرة المسيطرة على الشارع هي أن مثل هذا الفيلم الشخصي تقف خلفه الدول الغربية بحكوماتها. يظن رجل الشارع أن الدول الغربية تشجع مثل هذه الأفلام ضمن مشروع متكامل لمحاربة الإسلام.

هذه القطيعة المعرفية تظهر في أكثر من منحى. فقبل أسابيع تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي في السودان فيديو لإعلامي كبير حاصل على درجة الاستاذية، يتحدث فيه عن سيناتور أمريكي صديق له أخبره أن أمريكا ابتدعت نظام اللوتري لاستقطاب السودانيين، لأنها في حاجة لمواطنين يؤمنون بقيم الأسرة والعلاقات الاجتماعية المترابطة. وفي الفيديو يتعجب الاستاذ الجامعي الاعلامي من هذه "المعلومة" بقوله "ولكن أمريكا تكره السودانيين!".

هكذا يبدو العالم بالنسبة لكثيرين في السودان. هذه الصورة الأحادية القائمة على فكرة مقاربة لفكرة الفسطاطين التي تحدث عنها أسامة بن لادن عقب أحداث سبتمبر تجعل خيارات التطرف هينة وقريبة. هذه المؤشرات تجعل من الضروري فك الارتباط بين الفقر والتطرف في السودان. وربما تجعل السبب الرئيسي للتطرف هو هذا الفكر الجمعي الذي غذاه النظام السوداني لفترة طويلة.

فعلى الرغم من أن نسبة الفقر في السودان تفوق الـ 80% حسب احصاءات غير حكومية، أو 45% حسب احصاءات حكومية. ونسبة البطالة حوالي 18% حسب آخر تصريح لوزير تنمية الموارد البشرية. مع استقرار السودان ضمن أكثر ثلاث دول فساداً في العالم حسب تقارير منظمة الشفافية. على الرغم من كل هذا يلاحظ أن التطرف يبرز في الطبقة العليا من المجتمع، لدى شباب ليس لديهم مشاكل فقر أو تهميش. مما يؤكد أهمية البيئة الحاضنة التي تدفع بهؤلاء الشباب وغيرهم إلى أحضان تنظيم الدولة.

قبل أسابيع لقي شاب سوداني مصرعه في سوريا مقاتلاً في صفوف تنظيم جبهة النصرة، وقامت اسرته الثرية بنشر نعي له في كبرى الصحف السودانية، تصفه فيها بالشهيد، وتزجي الشكر لرفاقه "نشامى الشام" المجاهدين.

هذا النعي، وقبول الصحيفة بنشره يوضح مدى تجذر الحاضنة المجتمعية للتطرف بعيداً عن تفسيرات الفقر المعتادة. لذلك فربما كانت الخطوة الأولى لفهم دوافع التطرف في السودان يجب أن تكون بتحليل هذه الحاضنة، والخطاب الاعلامي الحكومي المسيطر.

عن الكاتبحمور زيادة مدون وكاتب صحفي وروائي سوداني من مواليد الخرطوم عام 1977، حائز على جائزة نجيب محفوظ الأدبية لعام 2014 عن روايته "شوق الدرويش". ولد بالخرطوم بمدينة أم درمان في السودان ونشأ بها. اشتغل بالمجتمع المدني لفترة ثم اتجه للعمل العام والكتابة الصحفية. فكتب بصحف المستقلة، والجريدة، وأجراس الحرية واليوم التالي. تعرض لانتقادات من التيارات المحافظة والإسلامية بالسودان لنشره قصة عن الاعتداء الجنسي على الأطفال، واعتبر جريئاً يكتب ما يخدش الحياء العام للمجتمع.

مواضيع ذات صلة: