مثلما تختزل صورة ما حدثاً مفصليا بأكمله، أكان ذلك حرباً أم سلاماً، لتصبح " أيقونته"، فإن أزمة اللجوء العربي هربا من أوطان صارت نهبا للإرهابيين من جهة والحكام الفاسدين والطغاة من جهة أخرى، لن تجد أيقونتها الأكثر تأثيرا، أكثر من الصورة التي باتت تشغل منابر العالم الصحافية والثقافية، صورة الطفل السوري إيلان، الغريق على أحد شواطئ تركيا. وحده، مرميّ على شاطئ بودروم، بعد مقتل تسعة مهاجرين سوريين إثر غرق قاربهم.
صورة الطفل الوحيد، المرميّ على رمل الساحل التركي، تكثف المعاني كلها. البريء المسالم مقابل الوحشية. ملابسه المبللة: القميص الخفيف الأحمر والسروال القصير الأزرق، في إشارة إلى فرح طفولي بسيط، مقابل وجهه الطري المدفون بالرمل والذي يشير إلى حزن أسود يخلفه هذا الموت الموحش.
وأطلقت هذه الصورة عاصفة من التعاطف من جهة، والغضب من جهة أخرى، مثلتها "هاشتاغات" مثل "#غرق_طفل_سوري" و "#الإنسانية_تلفظ_على_الشاطئ"، وغيرها. كما وقع فنانون ملصقات سريعة ورسوماً كاريكاتوريّة، تقوم على مركز بصري واحد: الطفل النائم على الرمل، فصار رأسه عند حافة قبر بشاهدة تحمل اسم "الضمير العربي"، فيما اعتبرت صورته في تغريدات كثيرة مثالا على "الفشل الأخلاقي العالمي" و"فشل العالم في سوريا" و"هزيمة الإنسانية".
صرخة الشعر في صحراء الإنسانية
ولم يقتصر التعبير الثقافي والشعبي الغاضب في مواقع التواصل الاجتماعي، على وسائل الاعلام والكتاب والصحافيين، بل امتد الى لغة الشعر، فقد كتب الشاعر العراقي صلاح فائق، نصا يكشف الرعب الذي عاشه الشاعر كضمير إنساني من "مشهد البحر المتوسط وقد صار مصدرا لجثث الاطفال":
"مثل كل صباح، أبدأ يومي بتشغيل التلفزيون/ أرى مشهداً رائعاً للبحر المتوسط، والشمسُ في كل مكان/ فجأةً تندفعُ موجةٌ من البحر نحوي، تخترقُ الشاشة/ وتلقي عليّ جثة طفلٍ صغير، ثم أخرى وثالثة/ وأنا مذهولاً لا أعرف ما أفعلُ او أقولُ/ أرتدي ملابسي بسرعة، وفي هذه الأثناء أجدُ/ غرفة المعيشةِ امتلأت بالجثث، ولا زال التلفزيون/ يلقي بجثة بعد أخرى، يمتلئ المطبخ أيضاً/ وتبدأ المياه نقلَ جثثٌ جديدة الى غرفة النوم/ مع بعض الصرخات والأنين".
شوكولاتة الغريق
وبهذا العنوان كتب الشاعر وأستاذ اللغة العربية العراقي نامق عبد ذيب، نصّا بعنوان "شوكولاتة الغَرَق"، قارب فيه الأمل الذي تختزله صورة الطفل الغريق: "أخبرَكَ البحرُ شيئاً ؟/ قالتْ لكَ الحوريّاتُ لا تحزنْ ؟/ قصّتْ عليكَ موجةٌ فِضّتَها ؟/ أم أنتَ كعادتِكَ عندما تطلبُ شيئاً/ هكذا، تُخفي وجهَكَ متقلِّباً في المشاكسات ؟/ أمُّكَ لم تنمْ منذ يومينِ أيها الولد/ أمُّكَ تسبحُ في الأحلام/ حتى إنني عندما أستيقظُ أرى على المخدَّةِ أسماكاً صغيرة/ وأرى زبَداً طافياً على شفتيها/ أينَ أمّكَ أيها الولد ؟/ أمْ إنّها ذهبتْ جُفاءً / وبقيَ هذا الذي على شفتيها ؟/ قُمْ/ قم/ لا وقتَ لنا هنا/ البحرُ غامضٌ جداً/ والمهرِّبونَ مشبوهون/ والخرائطُ متشابكة/ يقولونَ هناكَ في ألمانيا يستقبلونَ المهاجرينَ بالشوكولاتة/ منذ متى لم تذقْها أيها المشاكس؟/ يقولونَ امرأةٌ اسمُها ميركلْ تبكي هناك/ تسألُ عنكَ لتعطيَكَ لُعَباً/ منذُ متى وأنتَ تحلمُ بلعبةٍ جديدة ؟/ اتركِ المشاكساتِ يا ولد/ هذا المكانُ غيرُ صالحٍ للنوم / هو صالحٌ للغرَقِ فقط/ لستَ غريقاً أبداً/ الغريقُ هو السّماء والكواكبُ والأدعيةُ / ألم ترَ إنّ البحرَ أشدُّ زرقةً من جُرحٍ غائر؟/ تلكَ هي جثّةُ السّماءِ تملأُ البحـر/ جثّةُ الحِبْر وهو يختنقُ بالكلمات/ لا وقتَ لنا / قمْ يا ولدي وأيقظْ أمَّكَ/ أم إنّكما استطبتُما النومَ على زبَدِ الأحلامِ الغريقة..... ؟
الصورة: الطفل السوري إيلان الذي غرق مع شقيقه وأمهما خلال محاولة الهروب من حرب سوريا الى مجهول أوروبا/وكالة الصحافة الفرنسية