في مقال سابق على موقع (إرفع صوتك)، تابعنا رحلة لجوء الصحافي الكردي السوري عامر سلام من أربيل العراقية، حيث كان يقيم لعامين، إلى ألمانيا عبر تركيا وصولا إلى قلب أوروبا.
وفي هذا المقال، تركنا لصديقنا الحالم بعالم جديد أن يسرد حكايته في البحث عن ملاذ آمن افتقده، شأنه في ذلك شأن ملايين ممن صارت بلدانهم ومجتمعاتهم طاردة لأي عيش كريم وآمن.
الرحلة إلى "الجنة" تبدأ بـ ... جنازة!
- مرحبا
- أهلاً، من المتحدث؟
- صديقك عامر
- لكن رقم الجوال تركي
- وصلت اليوم إلى تركيا. أعتذر منك لن أستطيع رؤيتك. وقتي لم يعد لي. سأرحل لأوروبا ولا أعرف موعد الرحلة. سلمت أمري لأحد المهربين، وهو من يتحكم بمصيري الآن
- لن أقول لك وداعاً، سنلتقي ربما هناك. وأنا اعتذر منك، فلا أستطيع التحدث كوني في موكب عزاء لأحد الأقرباء. توفي أمس بحادث سير على الحدود الصربية الهنغارية، وهو في طريقه لأوروبا.
- الرحمة والسلام لروحه، نتحدث لاحقاً.
هذا جزء من محادثة هاتفية بيني وبين أعز أصدقائي تمت ليلة الرحيل إلى أوروبا. جزء من المأساة اليومية التي يعيشها الإنسان السوري وهو يودع أحبائه. والترحم على آلاف الموتى باتت قصة عادية في الداخل السوري نتيجة الصراع هناك منذ أربع سنوات. ولكن من يبدأ رحلته إلى الجنة المأمولة بأحاديث عن الموت، تتحول حكايته لمغامرة حتمية، إما الوصول أو الموت.
وداعا تركيا... مرحبا بلغاريا
السادسة مساء بتوقيت إسطنبول. تبدأ المغامرة من ساحة أكسراي والتحرك إلى مدينة أدرنه الحدودية مع بلغاريا، الدولة التي اخترتها بعد رفض الهجرة عن طريق البحر. وبعد الوصول إليها بعد ثلاث ساعات، طلب منا المهرب الإستراحة في حديقة عامة وشراء زجاجات الماء وبعض التمر لتعيننا في رحلة السير على الأقدام التي ستبدأ في منتصف الليل. كنت خادماً مطيعاً للوقت بعكس ما أنا عليه في الواقع. كيف لا والموعد يحدد شكل المستقبل، وقبل ساعة التحرك بلحظات، شاهدت تحركات لأشخاص يشبهونني في الحركة بطرف الحديقة. فأدركت أنهم من أمثالي - مبتغي الهجرة.
وصل "أبو جلال"، كما أحب أن يعرف عن نفسه. شخص خمسيني بشوارب كثة، وبإشارة من اصبعه وغمزة من عينيه وإشارة من هاتفه جمعنا نحن الأشخاص الثمانية. لتصل سيارة مغلقة من كل الجوانب سارت بنا لمدة ساعة وأنزلتنا على عجل عند حقل من الذرة.
أبو جلال كان بارعاً بكسر حاجز الخوف. بدأ حديثه بإشارة "لايك" كوننا اخترنا طريق البر معلقاً "إخترتم الأسهل بالنسبة لي". وبدأنا المسير في غابة كثيفة نحو ثلاث ساعات. وبعد قسط من الراحة، إجتزنا بصعوبة أرضا حديثة الفلاحة. ركضنا فيها قبل الوصول إلى أشجار صغيرة، ليأمرنا أبو جلال بانتظار سيارة يقودها شخص بلغاري ويودعنا. ويتركنا لمصير مجهول. وبعد ساعتين من الانتظار، لم تأت العربة، وليس هناك تغطية للهاتف في المنطقة. حتى اقتحم شخص مجهول مكاننا بين الأشجار وأمرنا بلغة الإشارة بالتوجه نحو سيارته على الطريق العام. وبلغةً انجليزية ركيكة من طرفه استوعبنا أنه تأخر لحين رحيل سيارة الشرطة التابعة لسلطات بلاده على بعد عشر كيلومترات من مكاننا. ولحسن الحظ كان شخصاً ودوداً نقلنا إلى العاصمة صوفيا التي لم نر منها شيئاً، وسلّمنا لشخص يتكلم العربية توجه بنا فوراً نحو بناء طابقي. وذكرنا أننا دفعنا نقوداً أكثر، لذا أسكننا في الطابق الأول ذو الخدمة الجيدة كونه مجهزا بحمام.
لم نكد نتناول العشاء، حتى سمعنا صوت شاحنة من الخارج. ليأتي العربي ويطلب منا ركوب الشاحنة بهدوء بعد أن أنزل زبائنه من الطوابق العليا، ليصبح عددنا نحو خمسين شخصاً. ركبنا فيها وقوفاً إلى قرية لم نعرف اسمها. وبعد أن أنزلتنا الشاحنة بمقربة من جرار زراعي صغير، تم تقسيمنا لمجموعتين. كنت في الدفعة الثانية. إنطلقنا بأخطر نصف ساعة في حياتي. كنت جالساً في أخر الجرار بين وادي على يميننا وجبل على يسارنا.
أغمضت عيني على طول الرحلة. وبعد الوصول، تولى شخص رياضي قيادتنا، بعد أن أوصى بأن تسير النساء والأطفال خلفه في المقدمة، كون الطريق وعرا. وبعد صعود الجبل نزلنا في غابة من السرو لنعديها بطريقة المشي بالقرفصاء، حتى تركنا الرياضي كون مهمته انتهت ونحن بالأراضي الصربية.
أخذنا قسطاً من الراحة، مشينا بعدها لساعتين بإرشاد من تقنية "جي بي أس" من الهاتف الجوال. وبعد وصولنا أول قرية طلبنا من سكانها الماء. وهم أرشدونا باتجاه قرية أخرى فيها مواصلات أكثر. وقبل الوصول، اليها جاءت الشرطة الصربية ورحبت بنا بعد طلبهم مبلغ 50 يورو للسماح لنا بالمرور. دفعناها على عجل ليقوموا بمهمة تأمين وسائل النقل ودفع مبلغ 200 يورو لقاء إيصالنا إلى بلغراد.
من عاصمة المهاجرين إلى مخيم البذاءة
وهناك اكتشفنا أنها عاصمة المهاجرين. إلتقينا بألوف الناس ممن قدموا عن طريق البحر وكانوا نائمين في ساحة عامة مقابل محطة القطار. وبعد أن اجريت اتصالا مع الشخص المكلف باستقبالي هناك، وهو سوري يتحدث لغتي الكردية، طلب مني الحضور إلى كامب "بوغو فاجا" المخصص للاجئين الأفارقة. وهناك أدخلني إلى غرفة مع أربعة أشخاص كلهم سوريون. طلب منّا الراحة والنوم لنستيقظ باكراً ونتوجه نحو مدينة سوبوتيكا الحدودية مع بلاد المجر. وفي الطريق استوقفنا ثلاث حواجز للشرطة وضريبة المرور من كل حاجز كان المبلغ المسعر بـ 50 يورو. إسترحنا بعدها في مزرعة مع عشرات العائلات حتى منتصف الليل، ليبدأ التحرك نخو هنغاريا.
لم نكد أن نمشي ثلاث ساعات، حتى أحست الشرطة الهنغارية بقافلتنا على خلفية صراخ طفل بدأ بالبكاء بعد سماع أصوات الكلاب البوليسية، ليأتي الضابط المسؤول ويأمرنا نحن المجموعة المكونة من أكثر من مئة شخص بالصعود إلى شاحنة أقلتنا نحو سجن بلدة قريبة. ولم ننم هناك سوى ساعتين، حتى أخذونا إلى قسم كبير للشرطة. خيرونا بدايةً بين التوقيع على أوراق اللجوء الخاصة ببلادهم للسماح لنا بالمرور نحو غرب القارة، أو العودة بنا للأراضي الصربية. قبلنا بالثانية كون الخيار الأول يؤثر على حق اللجوء في دول الحلم. إلا أننا رضخنا بالقبول بعد أن قامت الشرطة برش الغازات المسيلة للدموع وحدوث بعض الاختناقات للأطفال. ليبدأوا بعدها بأخذ بصماتنا بالقوة. وبعد الانتهاء، أخذونا إلى مخيم سيء الخدمة. وكانت معاملتنا أشبه بمعاملة المعتقلين، في خيام طويلة فيها حوالي 20 سريرا، ونطاق حركتنا محدود ضمن 30 متراً حول الخيمة للتدخين.
بقينا هناك ثلاثة أيام. بعد أن سمعنا الكثير من الكلمات البذيئة من قبل عناصر الحرس، أخرجونا وكل واحد منا معه بطاقة السفر نحو العاصمة بودابست، للالتحاق بمخيم العاصمة بعد 72 ساعة. وكلهم يقين بأن لا أحد سيلتحق بالمخيم. وبعد الوصول إلى المحطة، إستقبلنا بعض المتطوعين من الشباب المجري. وزعوا علينا الطعام والشراب وأدوات الحلاقة، لنلتقي بعدها بأفواج بشرية.
شرطة ألمانيا: أهلا بكم
في مطعم تركي مقابل المحطة، حيث يرتاد السماسرة بتجار البشر هناك، ويتم الاتفاق معهم ودفع مبلغ 600 يورو مقابل تأمين شبه مقعد بسيارة ستسير مدة ست ساعات عابرة للأراضي السلوفاكية والنمساوية نحو مدينة باساو، مدخل الحدود الألمانية. لينزلنا السائق قبل المدينة بثلاث كيلو مترات وينهي مهمته قائلاً: أنتم في ألمانيا. لا أستطيع إيصالكم إلى نقطة أبعد تهرباً من الغرامة. ويبدأ الاحتفال بين الركاب لوصولهم بالسلامة.
وبعد التقاط عدة صور على طريقة السيلفي بدأنا المسير بحثاً عن سيارة البوليس الألماني. وشتان بين شرطةً استقبلتنا بجملة "أهلاً بكم في ألمانيا"، وبين الشرطة في بلادنا الأم.
* الصورة بإذن خاص من الصحافي والكاتب الكردي السوري عامر سلام وهو في احد محطات رحلته الى المانيا