بقلم دارا عبدالله:
بعد انطلاق حركات الاحتجاج السياسيَّة- الاجتماعيَّة في العالم العربي في عام ٢٠١١، وتتابع اشتعال الدواخل الوطنيَّة للمجتمعات العربيَّة، من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى البحرين إلى سورية إلى العراق إلى اليمن، ظهرت مسألة ملحّة في المشهد الاجتماعي- السياسي، ألا وهي مشكلة الأقليَّات الاثنيَّة والمذهبيَّة.
في تأمُّل حال وأوضاع الأقليات المذهبية الدينيَّة والاثنيَّة في العالم العربي عموماً، وفي المشرق العربي على الخصوص، وعلاقتها بنسيج الأغلبية السنّي. نستطيع أن نستخلص ثلاثة ملاحظات أساسيَّة:
أوَّلاً، استخدام النظام الرسمي الاستبدادي العسكرتاري العربي، نظام ما بعد الاستقلال، لمسألة الأقليّات المذهبيّة والاثنيَّة كأداة لضبط المجتمع والإحكام السياسي. وذلك برعاية الحرب الأهليَّة الباردة بين المكوّنات الأهليّة السابقة على الدولة، وتخوف الجميع من الجميع. وتعزيز سرديات المظلومية المشتركة، التي تؤسس للعنصريّة والطائفية، والقابعة في وجدان كل جماعة أهليَّة، وذلك عن طريق منع النقاش الاجتماعي، وتطبيق "وحدة وطنيّة" فوقيّة ومتعاليّة غير متوّلدة من عمليات اجتماعيّة صراعيّة تحتيّة مفتوحة. بل هذه "الوحدة الوطنيَّة" هي أشبه بأيدولوجية دولة وأداة قمع التمايزات الثقافيّة، بحجة أنَّ "الدولة فوق الجميع". وبالتالي حصلنا على مجتمعات مهلهلة ضعيفة الاندماج الوطني، وجماعات تنتظر الانقضاض على بعضها، وتوتّرات أهليَّة بقيت سجينة القاع الاجتماعي ولم يتثنّى لها الخروج للشمس.
ثانياً، التماهي شبه المطلق بين المركّبات السياسيّة الشموليّة الحاكمة، وبين إحدى الجماعات الأهليّة الأوّليّة في الصلب الاجتماعي. كالتماهي بين الأقليّة المذهبية السنيَّة والبعث العراقي الصدامي، وبين الأقليّة المذهبيّة العلويّة والبعث السوري الأسدي، وبين الأقليّة العشائريّة والقبلية التابعة للقذافي ونظامه الحاكم. في هذه الحالة، يستخدم الاستبداد الحاكم أبناء الأقليّات سواءً في الجهاز البيروقراطي للدولة أو في السلك الأمني والعسكري، فيختلط المعتقد وانتماء المكان والمذهب وإرث القبيلة بالهيبة والنفوذ والعنف والسياسية والسلطة. وبالتالي، استفحال المسألة الطائفية في المجتمع، وزيادة احتمال تحوّل أي حراك احتجاجي سياسي- اجتماعي إلى حرب أهليّة طائفية أو عشائريّة أو قبليَّة.
ثالثاً، اختلاط الانتماءات الفكريّة مع المنابت الأهليَّة، أي الالتباس بين الخيارات الأيديولوجيَّة والنوازع الأوليّة. فغالبيّة الأقليّات، والحال كذلك في المشرق العربي، "تعتنق" العلمانيّة من أجل "فصل الدين عن الدولة"، والدين هنا دين الأكثريّة السنيّة بالضرورة. والخطاب السني المتمثل بتنظيمات الإسلام السياسي المختلفة، يطالب دوماً بإحقاق الديموقراطيّة وحكم الأكثريّة، والتي هي حكم الأكثريّة العددية الثابتة هنا بالضرورة وليس الأكثريّة السياسيّة المتحوّلة. وبالتالي اختزال المسألة الديموقراطيّة إلى شكل أداتي وعبور للانقضاض على السلطة (هذا ما حصل في مصر عندما فازت تيّارات الإخوان المسلمين بانتخابات فعلاً نزيهة وديموقراطيّة).
لا شكَّ أن المنطقة العربيّة تعاني من مشكلة أقليَّات، ولكن مشكلة الخطاب الصادر من بعض نخب الأقلية ومن بعض دوائر القرار والسياسة الغربيَّة ومن مراكز الاستشراق و من أجنحة اليمين الأوروبي والأميركي المتطرف، هو فصل قضيّة الأقليَّات من القضية الديموقراطية العامة في المنطقة وتحويلها لقضية بذات نفسها. وكأنَّ المجتمع المتعدد طائفياً واثنياً له آليّاته الخاصّة التي لا تتأثر ولا ترتبط أبداً ولا تعتمد على ممارسات السلطة العموميَّة السياسيَّة. أعطني أنظمة سياسياً ديموقراطيّة، يسمح فيها للناس بامتلاك شروط إرادتهم وحياتهم اليوميَّة، أعطيك مجتمعات قليلة التوتّرات الطائفيَّة، ومعقولة الاندماج المجتمعي، وأعطني أنظمة سياسية استبداديّة تستخدم مسألة الأقليّات في إحكامها السياسي وتمنع النقاش الاجتماعي في الفضاء العام، أعطيك مجتمعاتٍ مهلهلة وضعيفة الاندماج الاجتماعي.
مسألة الأقليّات هي مسألة لها علاقة بالسلطة والثروة والنفوذ، وليس لها علاقة أبداً بالثقافة والأديان والمعاني. والديموقراطيّة هي وحدها كفيلة بتحطيم مفاهيم الأقلية والأكثريّة ككتل عددية أهليّة ثابتة، وتحويلها إلى مفاهيم متحوّلة، أي جماعات عابرة للطبقات والطوائف، وفي حالة تحول وتبدل مستمر، حسب تغير البرامج السياسيّة والأوضاع السياسية.
نبذة عن الكاتب: دارا عبد الله كاتب وناشط سوري. كانت الكتابة السبب الأساسي في اعتقاله لفترة زمنيَّة، وتناول لاحقًا تجربته في السجون السورية في كتاب أدبي نثري تحت عنوان "الوحدة تدلّل ضحاياها". تُرجمت بعض نصوصه إلى لغات مختلفة منها الإنكليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة، كما نشرت في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية. درس في كليّة الطب البشري في جامعة دمشق خمس سنوات، لكنّه لم يتمّكن من إكمال دراسته الجامعيّة بسبب فصله من جامعة دمشق نتيجة نشاطه في القضايا السياسية والإنسانية. يقيم حاليًا في ألمانيا.
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659