بقلم سرمد الطائي:

قبل ٢٠٠ عام ازدهرت البعثات الدراسية من الشرق الأوسط إلى أوروبا، وكان ذلك لقاءً فريداً وعجيباً أيضاً بين أبناء الحضارات القديمة ومدن الثورة الصناعية. حتى إن رفاعة الطهطاوي، وهو أشهر عربي درس في باريس، لم يجد كلمة مناسبة لوصف صندوق الانتخابات هناك، إلا تعبيرَ "إناء القرعة". فذكر أن الفرنسي "يكتبُ رأيه سراً في ورقة ويُعطيها مطوية في إناء القرعة".

ولعلّ هذا السطر يفسر لنا تعبير "الاقتراع" المستخدم اليوم في العربية للدلالة على الانتخابات.

وقد اندفعت نخبة شبابنا يومها نحو بناء حياة حديثة، إلى درجة أن السلاطين رضخوا لضغوط الإصلاح. ففي عام ١٨٧٧ انعقد أول برلمان عثماني وراح يناقش أكثر القوانين ثورية، مثل حرية الصحافة و"اللامركزية الإدارية".

وفي ١٩٠٦ حصل أمر مشابه في إيران ثم عموم المنطقة. ومنذ ذلك الحين انشغلت شعوبنا بسجال حول مناهج التحديث الاجتماعي والتنموي. ولذلك فإن معظم المعارك الآيديولوجية والانقلابات العسكرية كانت تحرص على وضع التقدم والتطور هدفاً لمغامراتها ومعارضة الأنظمة القائمة.

ثم جاءت الانتكاسات والهزائم لتؤدي إلى انعطاف بل انحراف رهيب في زاوية النظر. حتى إن ناقداً معروفاً كتب عام ٢٠٠٠ "لقد كان العرب مطلع القرن العشرين مصممين على دخول العصر. لكنهم في نهاية هذا القرن يبدون مصممين على الخروج من العصر". فقد أخذت موجة التشدد الديني تغمر المنطقة. وفي أول سنين الألفية الثالثة وجدنا العقل العربي ينتحر في نيويورك وينفذ أغرب هجوم إرهابي في التاريخ يوم ١١ أيلول/سبتمبر ٢٠٠١. ثم سرعان ما أصبح الإرهاب "حرباً داخلية" بين المسلمين أنفسهم.

لقد انحرف السؤال الاجتماعي برمته وبنحو يثير السخرية، فبدل أن تدور الصراعات حول سؤال النهضة وأهداف التكامل والوحدة كما في لحظة رفاعة الطهطاوي، انتكست العقول في زمان أبي مصعب الزرقاوي وراحت تتلاعن وتتذابح بسبب الخلاف حول "أي طائفة ستدخل الجنة؟!"، لأن منطق "الفرقة الناجية" لا يمنحُ تذاكر دخول الفردوس إلا لمذهب واحد، وليذهب باقي أتباع السماء والأرض إلى الجحيم!

ولم يكُن صعود التشدد الديني مجرد نشاط عقائدي مشروع، بل كان نسياناً، مع سبق الإصرار، لأحلام النهضة والإصلاح، ورفضاً لمفاهيم التسوية السياسية وإدارة التنوّع والاعتدال والتعايش. فتبخر مبدأ الاختيار والإرادة، وحلّ محله مبدأ الإكراه والقسر والذبح. وازدحمت حياتنا بمشاهد الموت الذي يهدم مدناً بأكملها ويمحو مجتمعات عن بكرة أبيها، إلى درجة أنه لم يعُد من المهم تحديد من بدأ النزاع، لأن "لعبة الجنون" راحت تخرج عن السيطرة، ولا تكاد تجد أحداً يستطيع وضع نهاية ممكنة لها.

إن جزءاً أساسياً من شبابنا لم يعد مهووساً بالمعرفة والعلوم، فقد جرى احتجاز الأدمغة أمام استفهام واحد: من هي الفرقة الناجية التي ستدخل الجنة؟ فأخذ المتشددون المتزايدون عدداً يتسابقون على ذبح أبناء الطائفة الاخرى لمنعهم من دخول "الجنة الضيقة البخيلة"، التي لا تتسع إلا لطائفة واحدة!

لقد نجح التشدد في جعلنا ننسى مفاهيم النهضة والإصلاح السياسي. وهو يوشك أن يدفع شعوبنا إلى الكفر بمعاني الثورة والانتخابات والدستور. وها هو يخرج بلداننا عن مسار التنمية لتكرس ثرواتها لأسوأ اشكال الحروب، وتحتار بويلات لا حصر لها.

ولعل الأمر يشبه ما كان يُسميه فلاسفة التاريخ التقليديون بـ"التدمير الذاتي". إذ حين تفشلُ الحضارة في تحقيق تقدمٍ يُرضي طموحها، تتخذ قراراً بالانتحار، وكأنها حين فشلت في صناعة الحياة، راحت تتفنن وتبتكرُ لتصنع أغرب أنواع الموت.

وفي لحظة الاصطدام الطائفي النادر الذي يجتاحنا اليوم، يتساءل كثيرون: كيف نضعُ حداً لهذا؟ وفي الحقيقة يحسُن بنا أن نسأل: كيف نتعامل مع النظام الاجتماعي الذي راح ينغمس في صراعات دينية تنتج حروباً شاملة، بينما كان يفترض أن يواصل مساره السابق الباحث عن سبل النهضة والانخراط في العالم الجديد كشريك مسؤول؟

لقد مثّلت موجات الكراهية نهاية سيئة لنحو ٢٠٠ عام من أحلام التقدم في المنطقة، والخيار اليوم هو أن نعود لنرسم بداية جديدة يمكنها أن توقف آلة الكراهية والتكفير المتبادل، وتصميم "جنة فسيحة" تتسع للجميع وتكون نقطة انطلاق لأفكار التعايش السلمي في وجه حملات التخلف السياسي والديني، التي تفتك بمجتمعاتنا وتنتج أسوأ أنواع الحروب في التاريخ.

لمتابعة منشورات الكاتب على "تويتر"، إضغط  هنا

نبذة عن الكاتب: سرمد الطائي كاتب عراقي من مواليد البصرة، خريج المركز الدولي للدراسات الاسلامية في ايران – قم. كاتب وصحفي منذ عام ١٩٩٧، عمل في قناة الحرة عراق في بغداد من ٢٠٠٤ إلى عام ٢٠٠٧.  معلق سياسي وكاتب عمود “عالم آخر” في جريدة المدى.

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

مواضيع ذات صلة: