إرفع صوتك
إرفع صوتك

مشاركة من صديق (إرفع صوتك) أنور سليمان:

أرسل الصديق أنور سليمان، وهو محامي ومدوّن من السودان وأحد متابعي موقع (إرفع صوتك) هذه الرسالة. وطلب مشاركتها مع جميع المتابعين:

لعل السبب الأساسي وراء ظواهر التعصّب والتطرّف الديني التي تجتاح العالم ومنطقتنا على وجه الخصوص يكمن في الاعتقاد السائد الذي تم تمريره لعقود، بل لقرون، والذي يفسّر التعصب على أنّه دليل على الوصول إلى قمة الإيمان وسمة من سمات الورع والتقوى وخشية الله.

لكن العصبية في الواقع من صفات المسائل الدنيوية فقط، على عكس المسائل والأمور الدينية. فهي من متلازمات الانتماءات الفجة (قبلية وجهوية) والتي لا تحكّم للإنسان بها! فلا أحد يملك أن يولد لأبوين أسودين أو أبيضين أو من هذه الجهة أو تلك. إنّما هي موروثات عليه أن يقبل بها كقدر ليس إلّا.

وكذلك قد تكون العصبية في الانتماءات السياسية أو الرياضية، على الرغم من أنّ مبادئ الحريات السياسية وكذلك مبادئ الروح الرياضية والأخلاق الأولمبية تكافح ذلك التعصب. فما بالك بالدين والإيمان، وهو السباق إلى إقرار التسامح ونبذ العصبية والتطرف و الغلو؟

لقد خلط عامة المؤمنين لقرون خلت بين الإستخشان والخشونة، فاستبدلوا الإستخشان المستحب بالخشونة المذمومة والمنهي عنها في القرآن الكريم "وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (سورة الكهف – آية 104). والإستخشان هو خشونة الظاهر (الجسد)، وهو بالتالي لا يتنافى ولا يمنع لين القلب والوجدان. بينما الخشونة هي قسوة القلب وعنفه وافتقاره للرحمة والعطف.

والإيمان في حقيقته يدعو للتسامح والقبول أكثر من كونه مدعاة للتعصب والتطرف.  فبذلك جاءت كل الرسالات، وبه أمَر كل المصلحين والدعاة. هذا علاوة على أنّ الإيمان إذا وقر في القلب، اطمأن واطمأنت الروح. وإذا امتلك من الجسد جوارحه، يصبح الإنسان قابلاً لفهم مختلف التصورات والمفاهيم الدينية والإنسانية وقادراً على الاستماع لها ومناقشتها بصدر رحب  والرد عليها إن لزم الأمر بالحكمة والوعظ الحسن.

وباستقراء وتتبع سلوكيات المجموعات والأشخاص المتشددين والمتطرفين، يلاحظ بوضوح أن التطرف ينتج عن إحساس الشخص أو المجموعات المتطرفة بعدم القدرة على مواجهة التحديات والتطورات المتلاحقة التي تدور حولهم. وعوضاً عن المواجهة، تذهب تلك المجموعات إلى الخيار الأسهل (وهو ليس الأصعب، على عكس ما يتصور البعض).

وأعني بالخيار الأسهل الهروب من مواجهة المشاكل الحقيقية وافتعال أخرى وهمية واللجوء للعنف الذي يطال الجميع بلا تمييز بين أبرياء وغير أبرياء أو أطفال ونساء وشيوخ ورجال ومدنيين.  كما يسهم الإحساس بالظلم والضعف بتفوق الظالم (تقنياً بشكل خاص) في تغذية ذلك التطرف، بحيث يكون التشدّد ردة الفعل التي تسير في مسار موازي للسلوك الآخر للمظلوم (المقهور)، أي التماهي مع المنتصر والتمثل بثقافته.

والإحساس بالظلم الذي يقود للتشدد يكون دائماً نتيجة حتمية عند توفر عامل مساعد مهم وهو عجز الإدراك وعدم القدرة على تطوير وعي يحيط إحاطة تامة بذلك الظلم – معرفة مقدار الظلم والجهة الظالمة والجهات المستفيدة والمتعاونة معها وإدراك أسباب الظلم الموضوعية والذاتية التي تعود لشخص وطبيعة المظلوم نفسه- إذ لا يكفي فقط  أن تعرف أنّك مظلوم، ولا بد من إخضاع مجمل الأمر للتحليل والجهد الفكري حتى تتمكن من رفع الظلم الواقع عليك.

والتطرف والتعصب ليسا فقط غير متّصلين بالورع وقوة الإيمان، بل هو على العكس من ذلك دليل ومؤشر قوي على  ضعفه (ضعف الإيمان)  وعلى جهل كبير بأسس وأصول الدين (أيّاً كان). وعلى ذلك، يكون التعصب مقبولاً أو بالأحرى (مبلوعاً) إن صدر عن عامة الناس وغمارهم، لكن المشكلة تكمن الآن في أنّه صادر عن صفوتهم، فمعظم الفتاوى التي تحض وتحرض على اتخاذ مواقف متشنجة وعنيفة ومتعصبة تصدر من أفواه الشيوخ الموصوفين بالعلماء، وماهم بعلماء، إنّما ببساطة شديدة جهلاء تم تنصيبهم وإلباسهم لبوس العلماء خدمة لأغراض دنيئة معلومة للكافة.

وإن نظرنا لما يسمى بمجالس العلماء أو أهل الحل والعقد أو مجامع الفقهاء التي تنتشر في كل دول المسلمين، لوجدناها مجالس أُسِّست بواسطة السلاطين والحكومات لتقوم بتقديم خدمات فقهية وشرعية تدعم تلك الحكومات وتساهم في ترسيخ دعائم حكمها الراسخ أصلاً بقوة (...) الجند وأسلحتهم.

وتبرز هذه المجالس الحكام بمظهر من يخافون الله ويرعون حرماته بحيث تجب طاعتهم وتصبح معارضتهم مهما كانت طبيعتها هي الخروج عن الملة والكفر بعينه.  لقد كان تعيين المجالس تلك أمراً مقبولاً بل ولازماً إبّان الخلافة الأولى وما تبعها من دول أو دويلات، وذلك لقلة عدد العلماء وإمكان معرفة الخليفة أو الحاكم لكل العلماء الذين هم ضمن رعيته، فما هو مبرر وجود تلك المجالس وما هو مبرر تعيين العلماء فيه الآن ويمكنك أن تجد عالما حيثما كنت؟

فإن كان الحفاظ على إجماع المسلمين هو مبرر وجودها، فلا مبرر لتعيين العلماء فيها بأمر الحاكم إلا ما ذكرناه من رغبته في الحصول على فرمانات الرضا الإلهي التي لا يتردد أولئك العلماء في مهرها عند الطلب بسخاء يعادل سخاء الحاكم لهم. ولن تجد مهما اجتهدت مجلساً أو مجمعاً يضم عالماً لا يرضي عنه السلطان.

لذا إن كان إجماع المسلمين هو الغاية، فلماذا لا تكون عضوية تلك المجالس عبر الانتخاب المباشر من العامة؟ والحديث الشريف يقول "لا تجتمع أمّتي على باطل". فالانتخاب وحده يضمن تجديد تلك المجالس ويضمن عدم تحويلها  إلى مجامع  تحتكر الحقيقة الدينية وحدها وتتطلع لاحتكار الحقيقة الدنيوية (الزمانية) متى وجدت سانحة بضعف السلطان أو خلاف ذلك.

وهذه المجامع شبيهة بالمجامع الكهنوتية ومحاكم التفتيش - التي سادت في أوروبا قبل إقرار مبدأ فصل الدين عن الدولة – وهي تحمّلت مسؤولية إنتاج العنف، كما تتحمّل المجامع الفقهية في دول المسلمين الآن مسؤولية إنتاج التعصب والتطرف (طالبان، المحاكم الصومالية، الحوزات في ايران).

وهذه المجامع ليست خطراً على الإسلام  وعلى عامة الشعب فقط، إنّما يمتد خطرها إن عاجلاً أو آجلا على الدولة والحاكم الذي عيّنها نفسه، كما أوضحت التجارب في الغرب وفي الشرق. لذا فإنّ انتخابها وتجديدها يضمن كذلك عدم تحولها إلى حاضنة للتعصب والتطرف والعنف ومحتكرة لحق التحدث باسم الدين وحدها.

الكاتب: المحامي أنور سليمان، مدوّن من السودان

للتواصل مع الكاتب: anwarleman@gmail.com

الآراء الواردة في هذا المقال تمثّل رأي كاتبها ولا تمثل بالضرورة رأي موقع (إرفع صوتك). 

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم0012022773659

 

مواضيع ذات صلة: