بقلم جان صالح:

خمس سنوات على الأزمة السورية وضعت البلاد والسوريين في متاهة ودوامة حرب يمكن وصفها أنها حرب عالمية ثالثة، بكل تفاصيلها الجيوسياسية وحيثياتها الدولية والإقليمية. ليتمحور الصراع إلى حروب بالوكالة  تنفذها ميلشيات إسلامية ومجموعات مرتزقة طائفية وأيديولوجية، والتي أجهضت الثورة السلمية المدنية في سورية وشتت الشعب السوري في كافة أنحاء الأرض.

كل ذلك لم يغير شيئا. فلا أستطاع السوريون إسقاط الأسد ولا تغيير نظامه. ولم يستطع الأسد وحلفاؤه من طهران وروسيا وحزب الله إنهاء المعارضة السورية بكافة أشكالها وألوانها. لتدخل الأزمة ومآلاتها في ملعب الأمم المتحدة ومحادثات جنيف 1- 2 – 3 لصياغة حل نهائي وشامل للقضية السورية.

لكن بعد كل هذه الدوامة والمآسي السورية، يلوح الدّب الروسي بالفدرالية لسورية أيضا. وفي الجانب الأخر نجد واشنطن تحاول  وضع الحصان أمام العربة السورية، عبر إنهاء الإرهاب وداعش أولا، ومن ثم صناعة خارطة طريق سورية نهائية. ولكن استراتيجيتها  الحالية بدأت ترفع خطابا جديدا، وهو إما أن يتفق السوريون "نظاما ومعارضة" أو تقسيم سورية.

الكُرد وفيدرالية سورية

في أقصى الشمال السوري، حيث "غرب كردستان"  يحاول الكُرد صياغة إقليم فيدرالي لأنفسهم بشراكة وعقد اجتماعي مع المكونات الأخرى من المسيحيين والعرب. هذه الرغبة الكردية تواجه عواصف من المعارضة السورية التي تعتبر الفدرلة تقسيما لسورية، وهذا منبعه الضغوط التركية والإيرانية التي ترفض قطعيا المشروع الكردي الفيدرالي، وخوف غالبية القوى السورية المعارضة من أن تؤدي الفيدرالية إلى تقوية نفوذ الأقليات داخل سورية، وخاصة الكرد الذين قد يسعون لدولة كردية مستقلة عن سورية.

فرياض حجاب، رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، يعتبر المشروع الروسي للفيدرالية في سورية مرفوضا، ويقول "هذه المسألة غير قابلة للنقاش". معتبراً أن "فكرة الفيدرالية هي مقدمة للتقسيم في سورية وهي غير مقبولة اطلاقا".

ويشاطره هذا الموقف المثير للدهشة قادة الائتلاف الوطني السوري المعارض وكذلك الفصائل السورية المعارضة الأخرى. لكن السياسي والأكاديمي الكردي عمر شيخموس يرى أن الفيدرالية هي الوصفة السحرية للحفاظ على سورية واحدة داخل دولة اتحادية فيدرالية. وذلك بتشخيص جذور المشكلة التاريخية لما يجري في البلد من حروب وانقسامات سياسية خطيرة.

ويقول شيخموس إن سورية كمنطقة جغرافية تاريخيا ودولة مدنية حديثا تتمتع بتنوع واسع في تركيبتها الإثنية  والدينية والثقافية والقومية والاجتماعية، بين العرب السنة والشيعة والعلويين وبين الأكراد (السنة – اليزيدية) ومجموعات أخرى صغيرة مثل الشركس والشيشان.

ويضيف "تمكنت هذه المجموعات من العيش سوية خلال أربعة قرون من الحكم العثماني اللامركزي في نوع من السلام لإدارتهم لشؤونهم بشكل حكم ذاتي غير مدوّن. ولكن تشكيل حكم  مركزي مشدد من قبل حكومة الانتداب الفرنسي بعد عام 1937  وتسليم السلطة إلى الأكثرية السنية العروبية ومن بعدها حكومات الاستقلال بعد 1944 التي استمرت على نفس النمط النابليوني في الإدارة المركزية المُحكّمة حطمت أسس هذا التعايش السلمي بين المكونات خلال قرون عديدة".

أدى ذلك، حسب شيخموس، إلى تناقض في المصالح والتشدد في نعرات قومية ودينية وإثنية، من خلال محاولات لفرض هويات غير واقعية ومصطنعة على هذه المكونات التاريخية، والتي انتهت بالتالي إلى الحروب الأهلية ذات المستويات المختلفة في سورية منذ ستينيات القرن العشرين.

بسبب هذه التجربة التاريخية في الشرق الأوسط، ودروس الحرب الأهلية المريرة التي بدأت في سورية منذ 2011،  يدعو الأكاديمي  شيخموس إلى البحث عن مخرج. ويقول "تجربة الدول الديموقراطية العلمانية والفيدرالية في العالم تنير لنا الطريق كمثال نحتذي به في إيجاد سبل للعيش بسلام وأمان في سورية المستقبلية لأن الكيان الإداري والسياسي في سورية المركزية قد تحطّم وتهمّش. وتُحكم سورية الجغرافية الآن من قبل أربع إلى خمس مجموعات مختلفة (حكومة الأسد- داعش- مناطق تحت سيطرة المعارضة في الجنوب والشمال – مناطق الإدارة الذاتية الكردية). "ولهذا، فإن تبني فكرة الفيدرالية والنظام الفيدرالي قد يكون سبيلا عمليا للحفاظ على وحدة الأراضي السورية،كدولة.  كما ستمثل إطارا واقعيا للتعايش بين المكونات المختلفة المتناحرة حاليا".

الموقف الأميركي من إقامة أقاليم فيدرالية في سورية مازال متأرجحا بين قبولها أو رفضها، وذلك حسب الظروف القادمة. جون كيربي، الناطق باسم الخارجية الأميركية،  قال بداية شهر آذار/مارس الماضي لدى سؤاله عن رفض الولايات المتحدة الأميركية للفيدرالية في سورية وقبولها بها في العراق، "عندما نقول إن سورية ككل يمكن أن تُحكم تحت نوع ما من الفيدرالية، فهذا لا يعني أنها ليست كاملة السيادة. وعندما يحكم الشعب السوري نفسه فهو الذي يقرر. وهذا أمر يختلف عن تقسيم البلاد إلى مناطق ذات حكم شبه ذاتي... لا نريد لهذا أن يحدث. وهذه ليست «الخطة ب». وليس الهدف. الهدف هو سورية الموحدة الكاملة التي ستصل إليها عبر عملية سياسية تعطي الشعب السوري حقوقه".

ديفيد بولوك، كبير الباحثين في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، يرى أن الفيدرالية ستؤمّن المستقبل الأفضل لسورية، "على الأقل من الناحية النظرية". ويقول "يمكن أن تُمكّن الأقاليم والجماعات المختلفة أن تتعايش في سلام ويحكموا أنفسهم دون مخاطر ومشاكل الانفصال. في الواقع أنا لا أرى طريقا سهلا إلى اتفاق في هذا الشأن، أو وسيلة مؤكدة لأجل العمل بها، حتى لو كان هناك اتفاق."

الفيدرالية هي وسيلة لتوحيد الدول والمناطق في دولة واحدة، حسب رأي البرفسور واستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية إدموند غريب، الذي يقول "لا يمكن تقسيم دولة على أسس فيدرالية. فالفيدرالية هي أساس للوحدة. ولهذا يجب منح الكرد في سورية نوعا من اللامركزية الإدارية مع حقوق سياسية وثقافية."

هل تتجه سورية نحو التقسيم؟

المعطيات على الأرض تؤكد أن سورية لم تعد دولة  مترابطة سياسيا وجغرافيا، بل أكلت الحرب منها وباتت منقسمة على نفسها طائفيا ومُمزقة. ولهذا نجد مناطق تحت سيطرة الكُرد، ومناطق تحت حكم نظام الأسد، وأخرى تحت هيمنة داعش. وما تبقّى منها تسيطر عليها ميلشيات إسلامية معارضة ( جبهة النصرة -  جيش الأسلام  - كتائب إسلامية  تابعة لتركيا والسعودية وقطر)، مع مخاوف أن تنشأ ثلاث دويلات في سورية (كردية – علوية – سنية).

الخطاب الروسي والأميركي يوحيان أن سورية ستنقسم في حال فشل المبعوث الدولي إلى سورية ستافان دي ميستورا والأمم المتحدة في مشروع الحلّ السياسي بين المعارضة والنظام.

يؤكد عمر شيخموس على وجود مناخ لتقسيم سورية. ويقول "لو لم يكن هناك أرضية واقعية  للتقسيم، لما تكلّم الروس والأميركيون عن هذا الاحتمال. فسورية الآن تتطور نحو دولة فاشلة على غرار الصومال واليمن وأفغانستان. وإذا لم تنجح مفاوضات جنيف في وقف إطلاق النار والبدء بعملية سلمية وديبلوماسية لتطبيع الأوضاع في البلد، فأن مستقبل سورية سيكون قاتما بتقسيمه الدائم على شكل دويلات تُحكم من قبل عناصر مختلفة مسلحة ومليشيات تحت إمرة لوردات حرب مختلفين مرتبطين بدول خارجية متعددة ومنطقة تشوبها الكوارث الإنسانية المأساوية".

لكن ديفيد بولوك يرى أن واشنطن وموسكو لم تتفقا بعد على مستقبل سورية. "أنا لا أعتقد أن الولايات المتحدة وروسيا وصلتا إلى أي اتفاق حول مستقبل سورية. وأشك أنهما ستكونان قادرتين على اقناع حلفائهما بتقديم تنازلات في المستقبل. الخلاف حول دور الأسد ما زال قائما. ونلاحظ انخفاضا في مستوى العنف واستمرار المحادثات. ولكن من دون الوصول لتسوية سياسية كاملة.  روسيا والولايات المتحدة تدعمان وحدة سورية  كدولة، وأيضا مع قبول الحكم المحلي أو الإقليمي من قبل بعض القادة. كلاهما كقوى خارجية يهمها هزيمة داعش. في حين أن موضوع الحكومة السورية أمر ثانوي".

البرفسور إدموند غريب يرى أنه من الصعب تقسيم سورية بسبب المعارضة الشعبية في سورية للتقسيم. ويضيف "إذا لم يكن هناك توافق بين السوريين، فمن الممكن فرض نموذج فيدرالي. ولكن فشل  سايكس بيكو أدى للفوضى والصراعات. وبالتالي هل ستؤدي إلى تقسيم جديد للحصول على الاستقرار، أم إلى حالة جديدة ينتصر فيها طرف على آخر؟ وبالمحصلة هناك تحديات للجميع، وخاصة باتجاه الاتحاد والفيدرالية في سورية".

عن الكاتب: جان صالح، كاتب وصحافي سوري متخصص في شؤون الشرق الأوسط  والقضية الكردية والأقليات. حائز على إجازة في الحقوق من جامعة حلب" قانون دولي ودبلوماسية عامة". يعمل  مساعد معد برامج في قناة الحرة بواشنطن.

مواضيع ذات صلة: