بقلم حسناء بو حرفوش:
إن كان السجن المادي صعبا لما فيه من عزلة عن العالم الخارجي، فالسجن النفسي أصعب لأن فيه عزلة عن الذات. ففيه يحتضر السجين ببطء شديد مُرضيا سادية من دفعه إليه في بادئ الأمر.
هذا هو السجن الداعشي الحقيقي: إنه السجن الذي يقف سجّانه بعيدا ويراقب عن طريق الملفات والتقارير وعبر صفحات العالم الافتراضي. إن السجن الأكبر الذي يبنيه داعش ليس له أي جدران، فالتطرف يراهن على بناء ما هو أكثر ديمومة وأكثر ألما.. إنه يبني هنيهة هنيهة، سجن الحواس الخمس.
فلنبدأ بحاسة الشم مثلا، يعتنق الأنف تحت سيطرة داعش رائحة الموت والدخان المنبعث من كل الدور. تمتزج روائح دمار البنايات بدمار النفوس وبرائحة القذارة البشرية نتيجة الاغتصاب المتكرر. تلك الروائح لا تغادر الجسد وما تلبث أن تطارد الروح بالذكريات المؤرقة.
وإذا لاحظنا شهادات الناجين من قبضة داعش، نلحظ أهمية حاسة السمع التي باتت سجنا هي أيضا. فالضحايا سجناء أقل الأصوات ضجيجا وتعبيرا. وفي ما ترويه بعض الناجيات، نستذكر الضجيج في الحمامات، وكأن داعش ارتبط بكل ما هو غريزي قبل كل شيء.
حاسة النظر من أكثر الحواس سجنا لمراقبي داعش وقد عالجنا هذا الأمر مرارا، فداعش يعمد إلى نشر الصور التي تدرب الذاكرة على ربط ممارساته بالرعب المطلق وسجتهم في اطار من الخوف وفي سجن جديد لا يخفف البعد الجغرافي من حدة قضبانه.
أما عن حاسة اللمس فكأنها مفتاح صندوق "باندورا" لكل الويلات والأهوال. فداعش إنْ لمس أرضا استحالت رمادا، وإن لمس حضارة ذبلت، وإن لمس إنسانا إما يفقد الإنسانية وإما يموت. والنساء هنّ الأكثر عرضة لهذا السجن، لأن لمسة داعش على أجساد الناجيات كـ"أصبع الجليد القاتل"، فإن لم يقتلهن، قتل فيهن الروح ليبقى الجسد مهجورا من كل ثقة وأمان.
وتشكل حاسة التذوق السجن الأخير للضحايا الذين يربطون عهد داعش بطعم الأسى، وصور تعذيب الضحايا بأشنع الطرق من تجويع وخنق وذبح.
وأخيرا، إن ربط داعش لممارساته بالحواس الخمس لهي أكثر الطرق فعالية لمطاردة جميع الناس في كل مكان وزمان، وبأدنى جهد ممكن. هكذا، بدلا من أن يقوم التطرف بترويعنا ومطاردتنا، نقوم نحن، سجناء الخوف، بالمبادرة أولا والفرار دائما من شبح التنظيم.
عن الكاتبة: حسناء جهاد بو حرفوش، دكتوراه في الآداب الحديثة، متخصصة في المدونات اللبنانيّة (1914-2014) في جامعة السوربون الفرنسية وجامعة بيروت العربية. حائزة على ماجستير في الأدب الفرنكوفوني. حائزة على منحة “ميد أكوي” للتفوّق العلمي. صحافية ولها عدة ترجمات. أستاذة محاضرة في عدة جامعات لبنانية في اللغات الأجنبية والكتابة الإبداعية في الإعلام الحديث والمسرح، ولها مشاركات ومنشورات في مؤتمرات ثقافية.
لمتابعة حسناء على فيسبوك إضغط هنا.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.