بقلم حسناء بو حرفوش:
نسيت منذ مدة كيف تتبرج وكيف ترسم بأحمر الشفاه تعابير الغنج والفرح، واستبدلت العباءة المرقطة والمزينة بالحلى بالعباءة السوداء، ليس خوفا وإنما لتجنب ظهور الأوساخ. ما اسمك؟ أم علي، تجيبُ ببساطة، من دون ذكر عائلة أو وطن.
لقد تركت أم علي ديارها في سورية منذ نحو أربع سنوات، هرمت فيها 20 عاما. لا تذكر المرة الأخيرة التي نظرت فيها لزوجها بدلع فلقد صار الغضب شريكهما في الفراش الضيق، في غرفة ضيقة وعلى مدى أيام تضيق.
تسألها كيف تعاند الحياة فتجيبك: "ما زلت حية". وكأن التنفس بحد ذاته بات الفعل الأصعب للبقاء. وكأن الأنفاس ضرورية بمقدار ما تعطيها القوة لتحضير قوت الأطفال.
- وكيف تعاندين أنتِ الحياة؟
تجيب: "أنظر إلى النسوة ممن يمتلكون دارا فيها الدفء والطعام ولا أبكي"..
فقد كان لأم علي بيت يطل على قطعة من الجنة، كلها فاكهة وبساتين حمر في موسم الكرز. ولدى أم علي مواشي ودجاج تختار منها الأسمن لتستقبل ضيوفها الذين يحلون لأسابيع طوال كما يفرض كرم الضيافة.
أم علي تركت قصرها الصغير لتسكن في بيت قروي في جبل لبنان.
- كيف وصلت إلى هنا؟
تجيب: عن طريق جاراتي اللاتي سبقنني.
- وكيف تؤمنين متطلبات السكن؟
فتجيب أنها تتعاون مع أمها وزوجة أخيها بالإضافة إلى زوجها والأطفال على دفع الإيجار. لذلك، باتت تحمل دلوا وممسحة وتنتظر الارشادات ممن تعمل عندهن لقاء أقل من ثلاثة دولارات في الساعة. وقد تمر أيام وهي تعمل من دون أن تشعر، وقد يتخدر جسدها من التعب لكنها ستعاند الحياة وستتعب أيضا.
- ما الذي يحفزك؟
تجيب بحسرة: الأمل بالعودة.
- ولكن ألم تسمعي عن التقارير التي تفيد بتموضع ديموغرافي جديد في سورية؟
"سيبقى لنا دوما هناك مكان، وإن لم تسعنا الأرض سنموت هناك حتى نختلط بالتراب"، تصرّ أم علي.
وهل حقا تريد أم علي العودة؟ فمقابل كل هذا الأمل لا بد من الاعتراف بأنها لم تعد هي نفسها أم علي التي غادرت الديار منذ سنين. فالحرب كسّارة للروح. باتت المرأة المغناج تتكلم بصوت عال وتدخل الغرفة فتعبق رائحة الثوم. بالنسبة لها، هي رائحة الكد والتعب. بالنسبة لمن لا يعرفون الحرب، هي رائحة الإهمال وموت الأنوثة. وبالنسبة لمن يتابعون الأهوال عن قرب، هي رائحة الغضب المبرر والذي تحاول كل امرأة تعاني سدى أن تخفيه.
وإن عادت أم علي.. ستعود لتفرح بالعودة، لكنها سرعان ما ستصرخ وستبكي وستنتفض بسبب الدمار الذي ستراه، لكن الحسابات السياسية لن تأخذ صوتها في الحسبان. لن تعرف حينها لأية جهة انتمت ولا لأية جهة ستنتمي، وستصفق لمن سيبني لأطفالها بيتا من جديد. حينها، سيحسب صوت أم علي في رصيد أحد الفرقاء، وسيصبح هذا الفريق "أب المساكين"، بغض النظر عما فعله أو يفعله حاليا.. حينها فقط، تبدأ معركة الغلبة الحقيقية بين الفرقاء.
عن الكاتبة: حسناء جهاد بو حرفوش، دكتوراه في الآداب الحديثة، متخصصة في المدونات اللبنانيّة (1914-2014) في جامعة السوربون الفرنسية وجامعة بيروت العربية. حائزة على ماجستير في الأدب الفرنكوفوني. حائزة على منحة “ميد أكوي” للتفوّق العلمي. صحافية ولها عدة ترجمات. أستاذة محاضرة في عدة جامعات لبنانية في اللغات الأجنبية والكتابة الإبداعية في الإعلام الحديث والمسرح، ولها مشاركات ومنشورات في مؤتمرات ثقافية.
لمتابعة حسناء على فيسبوك إضغط هنا.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.