باب العامود في القدس
باب العامود في القدس

بقلم حسن منيمنة/ موقع الحرة

يطرح الدكتور توفيق حميد في مقاله "هل القدس إسلامية؟" عدداً من الأسئلة ويدعو إلى المناقشة. والواقع أنني أختلف معه حول طبيعة الأسئلة المطروحة إذ أجدها سجالية، مع إقراري طبعاً بحقه بطرحها كما شاء. واستجابة لدعوته للنقاش، أقدم الأجوبة عليها من وجهة نظري، في مجموعتين، الأولى تنحى منحى المؤلف بالسجاليات الانتقائية، وأخرى ناقدة لهذا المنحى جملة وتفصيلا.

السؤال الإجمالي هو: هل القدس إسلامية؟ طبعاً هي إسلامية قلباً وقالباً، طالما هي في وجدان المسلمين. ومن حق الكاتب أن تغيب القدس عن وجدانه وإحساسه الديني، ولكن غيابها لديه لا ينفي حقيقة رسوخها في قلوب معظم المسلمين، فالمسألة هنا مسألة قناعة دينية لا تنتفي بالشبهات التي يطرحها.

لماذا لم يتم ذكر القدس بالاسم ولو مرة واحدة في القرآن الكريم إن كانت تعتبر من المقدسات الدينية؟ ليس شرطاً أن تذكر، فليس كل ما يجلّه المسلمون في القرآن، وليس الذكر في القرآن لازماً للإجلال.

من كان يعيش وقت حادثة الإسراء في القدس؟ كان أهل إيليا يوم الإسراء، وفق القناعة الإسلامية، من المسلمين وغير المسلمين، إذ لم تبلغهم الدعوة المحمدية. فمن كان على دين من سبق من الأنبياء فهو مسلم، ومن لم يكن عليه لم يكن مسلماً. وللتنبيه كان اليهود ممنوعين من دخول المدينة والعيش فيها قبل الفتح الإسلامي. وبعد الفتح عادوا إليها.

كيف سيكون الحال إن قال البهائيون للمسلمين أن نبيهم زار مكة في منامه؟ البهائيون لم يقولوا ولم يطالبوا. والعلاقة بين المسلمين والقدس ليست اعتباطية أو وليدة الهوى. ومن الاستخفاف بالناس تسفيه معتقدهم، فالإسراء لدى جمهور المسلمين ليس مناماً.

ماذا سيفعل المسلمون بهذه الآيات القرآنية والتي تتحدث عن الأرض المقدسة؟ يضعونها في سياقها، وفي إطار القصص القرآني، ويختلفون في استلزامها للأحكام. وفي مقابل كل قراءة انتقائية خالية من السياق تسعى إلى تسجيل النقاط، يمكن استدعاء النص والتفسير والتأويل والتعبير لتسجيل نقاط معاكسة. فكما أن الكاتب يستدعي النص القرآني ليؤسس، بجهد جهيد في التعمية والانتقاء، ملك بني إسرائيل للأرض المقدسة، فبوسع من عارضه، دون تكلف البتة، أن يبني على ما قدمّه له الكاتب من منهج ليؤكد أن الأرض قاطبة ملك للمسلمين. (والشكر للكاتب بالتالي موصول من عتاة الجهاديين).

كيف يتم استخدام تعبير «ثالث الحرمين» مع أنه لا يمكن وجود إلا أول أو ثاني للحرمين؟ علّ الكاتب الفاضل يدرك أن قواعد اللغة استقرائية وليست تنزيلاً، وأن عبارة «ثالث الحرمين» وهي التي تصاحب ما أهمله من «أولى القبلتين»، هي من أوجه البلاغة، وليست خطأ و «مستحيل الحدوث لغوياً» كما يتوهم.

الهدف من هذه الإجابات هو التبيان أن الأسئلة التي تسطّح القضايا المتشعبة قابلة للأجوبة المقتضبة من جنسها. ثمة أجوبة أخرى، أقل سجالية، ولكنها ناقضة للأسلوب الذي يفترض بأن الخصوم ليسوا من أصحاب العقول.

هل القدس إسلامية؟ طبعاً هي إسلامية، وهي أيضاً مسيحية ويهودية. هي فلسطينية وإسرائيلية، وعربية وأرمنية وحبشية وقبطية ويونانية ولاتينية. بل هي عالمية، فالقدس قد ارتقت من تعبير ديني خاص إلى اختزال عام للتجربة الدينية للإنسانية. وهي، حتى بالنسبة للملحدين، رمز للسعي إلى الإجابة عمّا لا إجابة مباشرة عليه. القدس لنا، وللجميع. المطلوب وحسب احترام أوجهها كافة.

لماذا لم يتم ذكر القدس بالاسم ولو مرة واحدة في القرآن الكريم إن كانت تعتبر من المقدسات الدينية؟ التجربة الدينية لا تقتصر على النص، وإن كان النص لدى المؤمن تنزيلاً. والحَكَم على صلاح المعتقد واستقامته بالنسبة لكل مؤمن هو المؤمن نفسه. ليس أنه لا جدوى من النقد الديني، بل هو أساس الارتقاء الفكري، شرط الحذر من الإسقاط الفوقي تحت ستار النقد الندّي. وربما أن أحسن الخلاف هو الذي ينطلق من القناعة الجادة بقاعدة قال بها بعض السلف «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي من خالفني خطأ يحتمل الصواب».

من كان يعيش وقت حادثة الإسراء في القدس؟ التاريخ موضوع دراسة ومراجعة مستمرة. والمؤرخون والآثاريون واللغويون كما الباحثون في الأحماض النووية يعيدون كتابة أوجه من هذا التاريخ كل يوم. ولا يمكن التعويل على التاريخ القديم للتأسيس لحقوق ملكية. هل نعلم علم اليقين أن فلسطينيي اليوم، وعموم أهل المشرق، ليسوا أحفاد المسيحيين واليهود من زمن الإسراء، وأن يهود اليوم لا يعود نسبهم إلى البلاد التي قدم آباؤهم الأقربون منها؟ بالطبع لا، ولكن لا فرق، من حق أية جماعة التزام قناعاتها بأصولها، شرط ألا تبني على هذه القناعات إقصاء لغيرها.

كيف سيكون الحال إن قال البهائيون للمسلمين أن نبيهم زار مكة في منامه؟ إن قالتها طائفة صادقة، فالرجاء أن يكون لها ما تبتغيه على قدر المستطاع. يذكر هنا أن صلاة اليهود على حائط المبكى، وهي من باب التبرك بمعبد أورشليم، مع التنبيه إلى أن وجود هذا المعبد قائم على قناعة دينية لا على معطيات وقائعية، قد تحققت على هذا الأساس. ذلك أن السلطات المسلمة في الزمن العثماني، وهي المسؤولة عن هذا الحائط، وهو إسلامياً حائط البراق، قد أذنت لليهود بالتعبد عنده في مواسمهم. فرحابة الصدر لا تنطبق جماعياً على كافة المسلمين (ولا على غيرهم) ولكنها لا تنتفي عنهم جماعياً كذلك.

ماذا سيفعل المسلمون بهذه الآيات القرآنية والتي تتحدث عن الأرض المقدسة؟ التمني الحار هو أن يبقوها وكامل القرآن، كما الكتاب المقدس وسائر الأسفار الدينية والمصنفات الغيبية خارج إطار القرار السياسي.

كيف يتم استخدام تعبير «ثالث الحرمين» مع أنه لا يمكن وجود إلا أول أو ثاني للحرمين؟ هنا أدعو الكاتب، وجميع من يسعى إلى نقد النص الديني، بمطولاته (كما صحيح البخاري) ومفرداته (كما ثالث الحرمين) إلى اعتبار الإطار الفكري في زمن التأليف، وعدم الاكتفاء بإنزال قواعد زماننا هذا عليه. ما يبدو للوهلة الأولى تخبطاً خارج أي منطق يتكشف على الغالب أنه وليد اعتبارات خاصة بالزمن المعين. وقد يكون بالفعل أن عموم السلف كان من السذج والجهلة والمغفلين قبل أن يأتي أحدنا، وببضع مئات من الكلمات، ليكشف ما غاب عنهم، ولكن ما هو على الغالب الأرجح أقرب للصواب أن قد تكون لهم معايير وسياقات لا تظهر على الفور عند قراءتنا لنتاجهم بمفاهيمنا الحالية. وهي دون شك عملية بحث شيقة ومطلوبة نسائل فيها من سبق ويسائلنا فيها من يلي.

مع مطلق التقدير والاحترام للكاتب الكريم.

--------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

مواضيع ذات صلة: