بقلم نبراس الكاظمي/ موقع الحرة
ما الذي حدا بالمربي والصحفي العراقي عزرا حداد على أن ينكب على ترجمة نص لرحلة حدثت قبيل أكثر من ثمانية قرون، في حين أن العالم من حوله كان منشغلا بأحداث الحرب العالمية الثانية والتي ألقت بظلالها على أرض العراق مباشرة؟
عزرا حسقيل حداد (1903-1972) كان مديرا لمدرسة وصحفيا مرموقا، وكان يُعد من أقطاب النهضة الثقافية في بغداد الثلاثينيات والأربعينيات. ولكن في صيف سنة 1941، عمل أيضا ضمن لجنة اشرفت على دفن حوالي 180 جثة عائدة ليهود عراقيين كانوا من ضحايا أحداث الشغب التي عرفت بـ "الفرهود". وحسب شهادات أفاد بها حداد في مطلع الستينيات، من بعد هجرته مع بني قومه إلى إسرائيل، لم يتحدد رقم الجثث على وجه الدقة لأن بعض الأشلاء التي دفنت كانت محصورة بيد مبتورة هنا، أو ساق هناك. وتمت عملية الدفن ضمن مقبرة جماعية في مدفن اليهود القديم داخل أسوار بغداد، حيث تراكمت عظام أجدادهم وأولياءهم منذ ألف عام، ووُضع فوق هذه المقبرة الجماعية بناء بسيط بقبّة مطولة من الطابوق، يشبه البيوت البلاستيكية الزراعية، فأصبح بمثابة النصب التذكاري لما وقع في تلك الأيام الأولى من شهر حزيران. ولكن، في منتصف عقد الستينيات، تمت تسوية هذا البناء مع بقية شواهد القبور، وتم منح المتبقين من الطائفة اليهودية فترة زمنية محدودة لنقل رفات موتاهم وأقاربهم إلى المقبرة اليهودية الجديدة في منطقة الحبيبية ببغداد. ولأن أغلب أبناء وبنات هذه الطائفة كان قد هاجر إلى إسرائيل واُسقطت عنهم جناسيهم العراقية، لم تتم عملية النقل لدى السواد الأعظم من العائلات، وبقيت تلك العظام المتراكمة، ومنها تلك الأيادي والسيقان المبتورة في القبر الجماعي إلى يومنا هذا تحت أرجل المرتحلين من وإلى شتى بقاع العراق في عجقة وازدحام كراج النهضة للنقل العام، الذي باتت تمتد تضاريسه مع امتداد المقبرة القديمة.
ربما استشعر حداد بأن فترة بقاء قومه في هذه الأرض، التي عرفها اليهود باسم شنعار، وفي مدينة بغداد التي سكنوا نواحيها حتى من قبل تعميرها، والتي دلّعوها لاحقا باسم "العدينة"، أي المتغنّجة، قد شارفت على الزوال، وبأن الحياة التي كان يعرفها، تلك الحياة الثقافية المتدفقة بالعطاء والحيوية التي كان يعد فيها أسماء نيّرة مثل عباس العزاوي ويعقوب سركيس وكوركيس عواد ومصطفى جواد ويوسف المحامي من ضمن حلقة مجالسيه وزملائه، باتت في طور الاحتضار، أو ربما كان يتصور أنه من خلال ترجمته لرحلة بنيامين التطيلي بأن هذه هي محاولته الأخيرة في تذكير من حوله بأن اليهود متأصلون في هذه الأرض، وبأن حدثا كالفرهود كان انتكاسة وقتية، واكبت التماوجات العالمية المصاحبة للحرب الكبيرة، وبأن الأمور ستعود حتما إلى سابق أوانها.
يشرح لنا حداد أن "رحلة بنيامين" للرحالة الرّبي بنيامين بن يونة التطيلي النباري الأندلسي (1165-1173 م)، والتي ترجمها لنا المؤلف عن الأصل العبري وعلق حواشيها وكتب ملحقاتها وقامت المطبعة الشرقية ببغداد بنشرها عام 1945، هي رحلة مهمة لأنها ترفدنا بـ "معلومات عامة عن أحوال اليهود في كل مدينة زارها، ويذكر عددهم وأوضاعهم وطرق كسبهم ومركزهم العلمي والاجتماعي وعلاقتهم بالبيئة التي يعيشون فيها". ويضع لنا حداد المسببات الضمنية التي دفعته لترجمتها في ذلك الحين، إذ يقول "وقد أعجب بنيامين بصورة خاصة، بما شاهده في وادي الرافدين من جماعات يهودية كانت يومئذ تنعم بالطمأنينة والرفاهة في ظل الخلافة الإسلامية الوارف، وفي عصر لم يكن يهود أوروبة يعرفون سوى ضروب الإرهاق والاضطهاد الديني والاقتصادي"، وبأن لأرض العراق خصوصية لدى اليهود "فكان الفرات الينبوع الزاخر الذي تدفق منه كتاب التلموذ - دائرة المعارف اليهودية الكبرى التي ما زالت حتى اليوم تهدي اليهود إلى شريعتهم وشعائر ديانتهم وتأريخهم وأساطيرهم". وما يثير الانتباه هو أن هذه الرحلة تم طباعتها عدة مرات وترجمتها إلى اللغات الأوروبية منذ القرن السادس عشر، ولكن لم تنتشر نصوصها في البلدان الشرقية التي زارها الرحالة واسهب في وصفها لحين قيام حداد بهذا الجهد.
فخرج بنيامين التطيلي قاصدا الشرق في عصر امتاز بالاضطراب كعصر حداد. ولد التطيلي في مدينة في إسبانيا كانت قد استعادتها القوى المسيحية من دار الإسلام قبيل ولادته بسنوات. وسار مع خط التنقل في جنوب أوروبا من خلال مارسيليا إلى روما، ومن ثم إلى القسطنطينية والتي كانت لا تزال تحت حكم مؤسسيها البيزنطيين وقبيل أن تلقب بـ "إسطنبول"، ومن ثم سار ضمن الممالك الصليبية حتى وصل القدس التي كانت قد قضت حوالي سبعين عاما آنذاك تحت حكم الإفرنج. كل هذا قبل أن ينتقل منها إلى ديار المسلمين، فزار دمشق وحلب، والموصل وبغداد والبصرة، ثم مدائن فارس وآسيا الوسطى، وبعدها الهند وادعى أنه زار أرض الصين أيضا، وثم قفل راجعا إلى الخليج فزار الجزيرة واليمن ومن ثم عرج على القاهرة والإسكندرية. وكانت هذه البلاد تتبع رايات مختلفة، فمنهم من يسير بأمر الخليفة ببغداد، ومنهم من يحتكم لدى السلاجقة، وآخرون يهتفون باسم الحاكم الفاطمي، ونواحي أخرى واقعة تحت سطوة طائفة الحشاشين. دامت الرحلة ثماني سنوات، ولم يتوصل حداد حين تحليله للنص إلى الأسباب التي دعت التطيلي للمضي في هذه الرحلات التي لابد وأن واكبتها الكثير من المخاطر بسبب الاضطرابات السياسية والاقتصادية القائمة، ولكنه يوضح تميزها وأهميتها حين يضعها في إطارها التاريخي إذ هي سبقت رحلة "ابن جبير بنحو 17 سنة وماركو بولو الرحالة البندقي (1254-1324) بأكثر من مائة سنة وابن بطوطة بمائة وستين عاما".
ولا نعلم أيضا غاية التطيلي من شرح التمايز الكبير بين حال اليهود تحت حكم المسيحيين مقارنة مع من وقع تحت حكم المسلمين. ففي روما لم يجد إلا مئتي يهودي، وهم من أقدم سلالات اليهود الذين قدموا إليها مع انكسار دولتهم أمام الرومان. في حين كان هناك حوالي 2500 يهودي من شتى الطوائف يسكنون في القسطنطينية، يعملون في الدباغة وبناء السفن وحياكة أثواب الحرير، ولكن "يلحق باليهود أذى شديد من سائر السكان. فركوب الخيل محظور عليهم، باستثناء ر. سليمان المصري طبيب الملك الخاص. ولهذا الطبيب حظوة لدى الملك، وبفضل نفوذه يتمتع اليهود ببعض الامتيازات وسط موجة الاضطهاد المحيقة بهم". أما في القدس، فلم يجد إلا مئتين آخرين من اليهود يعملون بالصباغة، وذلك من بعد المجازر الصليبية التي أفنت أعدادهم. ولفت انتباهه بأن مقابر اليهود كانت مترامية الأطراف فيها، و"لكن الإفرنج يهدمون هذه القبور ويستعملون حجارتها لبناء بيوتهم".
ولكن هذه الصورة البائسة لواقع قومه آنذاك تتغير جذريا حين انتقاله لمكان مثل مدينة تدمر الصحراوية، مثلا، حيث يجد ألفي يهودي يمتازون بكونهم محاربين أشداء و"يعاونون جيرانهم المسلمين والعرب من اتباع نور الدين في حربهم مع غزاة النصارى" (يقصد نور الدين زنكي هنا). وتزداد أرقام اليهود تباعا مع ذهابه إلى دمشق (3000 يهودي) وحلب (1500 يهودي) والموصل (700 يهودي). ومن ثم تبدأ بالاضطراد حيث سيحصي أربعة آلاف في جزيرة ابن عمر، وسبعة آلاف في الكوفة، وعشرة آلاف في كل من واسط والبصرة. و25 ألف في العمادية ونواحيها من أعمال كردستان. وحتى قبيل وصوله إلى بغداد يعد ضمن إحدى الحواضر المحيطة بها مثل عكبرا حوالي 15 ألف يهودي، ليجد داخل مدينة بغداد 40 ألف من أبناء قومه" وهم يعيشون بأمان وعز ورفاهية في ظل أمير المؤمنين الخليفة" نسبة إلى الحاكم العباسي المستنجد بالله.
كانت بغداد آنذاك تعيش في زمن أفول رونقها، ولكن بالنسبة للتطيلي كانت عاصمة اليهود العامرة، فلديهم عشر مدارس مهمة فيها، وعشرات من أماكن العبادة، والعديد من قبور أنبيائهم والأولياء، وكانت مقر رئاسة الجالوت (أي الجالية) التي يتربع على عرشها عالم ديني من سلالة الملك داوود يسري نفوذه على اليهود "في العراق وإيران واليمن والجزيرة العربية والقفقاس، وسبيرية وآسيا الوسطى وسمرقند والتبت والديار الهندية"، "وتقضي التقاليد المرعية بين اليهود والمسلمين وسائر أبناء الرعية بالنهوض أمام رأس الجالوت وتحيته عند مروره بهم. ومن خالف ذلك عوقب بضربه مائة جلدة".
ويسهب التطيلي بشرح أحوال اليهود في تلك البلدان، ومنها ما يحصل عند عيد زيارة الكفل مرقد أحد أنبياء اليهود (النبي حزقيال)، حيث تمتد خيام الزائرين إلى 22 ميلا! وكانت الغلبة العددية المطلقة في صالح يهود المشرق مقابل يهود أوروبا آنذاك، ولم تتغير المعادلة إلا مع مطلع القرن التاسع عشر، حيث ساهمت التطورات في مجالات الصحة والنظافة العامة في تقليل معدل وفيات الأطفال والمسنين في الغرب، وهي التي جعلت يهود أوروبا بعدئذ يشكلون ثلاثة أرباع مجموع يهود العالم في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية والمحرقة النازية.
يتحفنا حداد بالكثير من الشروح والهوامش لمتن النص والتي من شأنها تقريب بعض التناقضات الجغرافية لدى القارئ، وكذلك تفيدنا بتأريخ بعض الحوادث المذكورة في الرحلة، وتحديد سيرة بعض الأسماء الواردة فيه. وهناك أيضا أربعة ملاحق تشرح لنا الفروق بين الطوائف اليهودية مثل السامريين والقرائين (وفي هذه الأخيرة دور مثير لأبو حنيفة النعمان!)، وتشكّل مدارس فقهية مثل غاؤونية بغداد. ويلحقها شرح لما تيسر لدينا من معلومات حول فتنة داود ابن الروحي، الذي قاد ثورة مهدوية في مدينة العمادية قبيل قدوم التطيلي إليها بسنوات معدودة.
الترجمة مُهداة إلى عزرا مناحيم صالح دانيال، الثري البغدادي والوجيه اليهودي الذي يمتد جاه عائلته إلى فترة حكم المماليك الكرج، أي القادمين من نواحي جورجيا ببلاد القفقاس. وكانت عائلة دانيال قد قدمت معهم من هناك واضطلعت بالإدارة المالية والزراعية، واستطاعت بحكم هذه العلاقة تكوين ثروة كبيرة من أراضي ومقاطعات، وكانت تمد الطائفة اليهودية ببعض ممثليها في مجلس المبعوثين في إسطنبول في الفترات الأخيرة من الحكم العثماني المباشر الذي عاد إلى العراق إبان انكسار المماليك. واستمرت هذه الوجاهة مع تكوين الدولة العراقية الحديثة، ومن معالمها سكن الملك فيصل الأول لفترة من الوقت في أحد بيوت هذه العائلة لحد الانتهاء من بناء البلاط الملكي. ولها مبار خيرية خدمت اليهود والمسلمين، وكان عزرا دانيال عضوا في مجلس الأعيان حين طباعة هذه الترجمة. وبقي في العراق حتى من بعد الهجرة الجماعية إلى إسرائيل، وتوفي من دون عقب في عام 1952، ودفن إلى جوار الكفل.
ولعل حداد تقصّد بإهداء الكتاب إلى عزرا دانيال أن يوضح أيضا أن اليهود كانوا متأصلين في تكوين العراق الحديث، من بعد سكناهم في هذه الأرض لآلاف السنين.
وهنا يظهر إلينا السؤال الجوهري المتمثل بهذه الترجمة: لو كان ماضي اليهود في العراق كما بينه التطيلي، وحاضره متشخصا بوجاهة عين بارز في الحقبة الملكية مثل عزرا دانيال، والوجاهة الثقافية المتمثلة بالمترجم نفسه، فلم حصل الفرهود؟ فهل كانت أحداث الفرهود عرضية ومؤقتة، تشبه بعض الانتكاسات التي شهدها اليهود في أرض الرافدين منذ قدومهم مأسورين إليها، أو أنها كانت بمثابة ناقوس ينذر بأن الحال قد تغير جذريا؟ السنوات التي لحقت الفرهود أوضحت أن التغيير كان فعلا جذريا وقطعيا. فكيف ببغداد، التي كانت في زمن ما بمثابة عاصمة اليهود، تكاد اليوم خالية تماما من ذراريهم؟
وكيف بذكراهم التي باتت كما حال تلك الأيادي المبتورة والسيقان المقطوعة، تتوق للعودة إلى أجسادها، ولكن من يسمع أنينها تحت طبقات الأسفلت و"هورنات" الباصات والمنادين "بصرة، بصرة، يقـپـط باثنين"؟
للاطلاع على الكتاب اتبع الرابط التالي:
http://02e37fc.netsolhost.com/site/benjamintudela.pdf
ــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)