بقلم بابكر فيصل بابكر/ موقع الحرة
في كلمته أمام مؤتمر حزبه، العدالة والتنمية، في بمدينة دوزجة الأسبوع الماضي، تساءل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن نوع الديموقراطية التي تُنادي بها الولايات المتحدة الأميركية، وقال إنَّ الأخيرة تستعمل هذا المصطلح حسب مصالحها.
وقال الرئيس التركي في سياق تعليقه على موقف أميركا من المنظمة الأممية بعد تصويتها بأغلبية كبيرة ضد قرار الرئيس دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل الرئيس، إن "أميركا تقول إنها ستوقف دعم الأمم المتحدة، أين إيمانكم بالديموقراطية ؟ أنتم تتبنون الديموقراطية عندما تجري الرياح بما تشتهي سفنكم، ولكنكم تستغنون عنها عندما تسير الأمور بعكس رغباتكم ).
من المعلوم أن الرئيس التركي قد برز كأكبر المدافعين عن جماعة "الإخوان المسلمين" في مواجهتها مع النظام المصري، تلك المواجهة التي أدت إلى إزاحة الرئيس الأسبق محمد مرسي من الحكم، وإلى الصدام الشامل بين الطرفين، وهو الصدام الذي ما زالت فصوله مستمرة حتى الآن.
كانت الحُجة الأساسية التي ساقها إردوغان في مواجهته مع النظام المصري، والتي أدت لتباعد كبير بين البلدين على المستويات السياسية والدبلوماسية، هي أن ما حدث في مصر في 30 يونيو 2013 يُعتبر انقلابا على الشرعية والديموقراطية، وأن الرئيس مرسي هو الرئيس الشرعي المنتخب من قبل الشعب المصري.
في هذا الإطار فتح إردوغان أراضي بلاده لمعارضي النظام المصري، واحتضن قنوات البث الإعلامي المناوئة لنظام الرئيس السيسي، وظل على الدوام يُطالب بإطلاق سراح الرئيس السابق مرسي وقيادات جماعة الإخوان المسلمين التي رفض تسميتها بالجماعة الإرهابية، وما فتىء يُلوِّحُ بشعار "رابعة" الذي يُعبِّر عن تضامنه الكامل معها.
غير أنَّ موقف إردوغان من النظام المصري لم يكن هو نفس موقفه من النظام السوداني الذي وصل رئيسه عمر البشير إلى سُّدة الحكم عبر إنقلاب عسكري دبَّرته الجبهة القومية الإسلامية ( الفرع السوداني لجماعة الأخوان المسلمين) وأطاح بالحكومة الديموقراطية الشرعية في 30 يونيو 1989، وظل البشير يتربع على كرسي الرئاسة لأكثر من ثمانية وعشرين عاما!
وكان إردوغان قد أنهى الشهر الماضي زيارة رسمية للسودان وُصفت بالتاريخية لكونه أول رئيس تركي يزور البلد الذي خضع لسيطرة "الإمبراطورية العثمانية" طيلة أربعة وستين عاما في القرن التاسع عشر.
التأييد الكبير الذي ظلَّ يجده النظام السوداني من الرئيس التركي، لا يعكسُ فقط إزدواجية المعايير لدى إردوغان، بل هو يؤكد أنَّ أحاديثه المتكررة عن الديموقراطية وعلمانية الحُكم ليست سوى شعارات مرحلية تكتيكية لا علاقة لها بالمواقف المبدئية.
ولا بدَّ أنَّ الجميع يذكرون تصريحات إردوغان عندما خاطب ثوَّار ميدان التحرير قائلا أنَّ " ثورة 25 يناير هي عمود الديموقراطية في مصر، وأنَّ النمو الاقتصادي لن يتحقق إلا من خلال وجود استقرار سياسي".
يعلمُ الرئيس التركي أنَّ النظام السوداني غير ديموقراطي، وأنه يُجسد أسوأ أنواع الإستبداد الديني، وهو النظام الذي قتل آلافا من أبناء شعبه في الحروب الأهلية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وكذلك هو النظام الذي أهدر ثروات البلاد الطائلة بسبب الفساد المستشري الذي جعل السودان يقبعُ في المرتبة الثالثة قبل الأخيرة، بين الدول الأكثر فسادا في العالم، وفقا للمؤشر التابع لمنظمة الشفافية الدولية.
ويعلمُ إردوغان كذلك أنَّ النظام السوداني يحتفظُ بسجلٍ حافل في انتهاكات حقوق الإنسان وكبت الحريات العامة والخاصة، وهو فوق هذا وذاك يُطبِّق قوانين دينية لا تتماشى مع أبسط قواعد وأسس الدولة المدنية الحديثة، تلك الأسس التي ظلَّ الرئيس التركي يدَّعى أنه من أكثر المدافعين عنها والمطالبين بتطبيقها في جميع الدول.
ففي حواره الشهير مع الإعلامية المصرية منى الشاذلي في عام 2011 قال إردوغان إن "دستور 1982 في تركيا عرَّف معنى العلمانية بأنَّها وقوف الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان"، ونصح حينها الذين يُعدِّون الدستور المصري الجديد بالحرص على ضمان وقوف الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان حتى يجد الأمان، المسلمون والمسيحيون وغيرهم من أديان أخرى واللا دينيون، فحتى الذي لا يؤمن بالدين يجب على الدولة أن تحترمه، حسب قوله.
ولكن النظام السوداني الذي جاءه إردوغان زائرا ومؤيدا يُطبِّقُ قوانين لا تعترف بحُرية الأديان و التديُّن. فالقانون الجنائي السوداني يُحاكم المواطنين بمادة "الردة" التي تصلُ عقوبتها للإعدام، وليس ببعيد عن الأذهان حادثة السيدة "مريم يحي إبراهيم" التي شغلت وسائل الإعلام العالمية، إذ حوكمت بالردة لاعتناقها المسيحية وكادت أن تُقتل لولا تدخل المجتمع الدولي ممثلا في الإدارة الأميركية والحكومة الإيطالية.
المُدهش في الأمر أن إردوغان لم ينطق بكلمة ديموقراطية طوال اليومين اللذين قضاهما في السودان ضيفا على الحاكم العسكري الذي انقلب على الحكم الشرعي. وإمعانا في الإزدواجية وعدم المبدئية فقد ألتقطت له صورا وهو يسير بجوار الرئيس البشير ملوحا بشعار رابعة الذي يُدافع به عن جماعة الأخوان المسلمين المصرية!
لم تقتصر إزدواجية إردوغان على تجاهل قضية الديموقراطية في السودان فحسب، بل امتدت أكثر من ذلك إلى تناوله لموضوع تاريخي في غاية الحساسية، إذ قام بنفي التقارير الإعلامية التي تحدثت عن سعي بلاده لإقامة قاعدة عسكرية في ميناء "سواكن" السوداني المُطل على البحر الأحمر، وقال إن "أنقرة تخطط لاستعادة ما وصفها بأنقاض عهد العثمانيين في المنطقة"، حسب ما أوردته قناة روسيا اليوم.
إن مجرد ذكر عهد الحكم العثماني في السودان يُثير لدى أهل البلد الكثير من المواجد والأحزان، ويُعيدُ فتح جراحات عميقة لم تشف مع مرور الزمن. فالإحتلال التركي للسودان كان من أسوأ عهود العسف والفساد والتسلط، حيث دفع عشرات الآلاف من السودانيين أرواحهم ثمنا لمطامع العثمانيين، إضافة للمعاملات القاسية في جمع الضرائب الباهظة وحملات الاسترقاق البغيضة.
وقد ترك عهد الحكم العثماني بصمة سيئة في المجتمع السوداني وفي المخيال الشعبي لدى عامة الناس حتى أنهم باتوا يُعبّرون عن الحكم الباطش بوصف "التركية" وكل حاكم ظالم يوصف بأنه يُريد أن يُعيد البلاد لعهد التركية.
ومما يُذكر في هذا الصدد أنَّ الغزاة العثمانيين قد ارتكبوا من المجازر في حق السكان العُزَّل ما لا يُحصى، ومثال ذلك ما قام به الطاغية الغاشم المعروف باسم "محمد بك الدفتردار" من جرائم إبادة قُتل فيها ما يفوق 20 ألفا من المدنيين الأبرياء بمن فيهم النساء والأطفال من قبيلة "الجعليين" المعروفة في منطقتي شندي والمتمة في شمال أواسط السودان.
هذه الممارسات الإستعمارية البغيضة لم تدفع إردوغان إلى الإعتذار للشعب السوداني عن الجرائم التي ارتكبها أسلافه، بل جاء في صلف وعنجهية ليقول أنه يُريد استعادة أنقاض أجداده العثمانيين في السودان!
إنَّ من يُريد استعادة أمجاد أجداده يجبُ عليه أن يُسأل أولا وقبل كل شيء عن مصير أجداد السودانيين الذين سُحقوا وأبيدوا بواسطة الأتراك العثمانيين، هكذا تقول أبسط قواعد الأخلاق وأعراف التعامل بين الشعوب والدول.
لكل هذه التناقضات والإزدواجية في المعايير، فإننا نوجِّه للرئيس التركي ذات الرسالة التي وجهها للأميركيين في مؤتمر حزبه وأوردناها في صدر هذا المقال ونقول له: "أنتم تتبنون الديموقراطية عندما تجري الرياح بما تشتهي سفنكم، ولكنكم تستغنون عنها عندما تسير الأمور بعكس رغباتكم".
ــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)