بقلم حسن منيمنة/ موقع الحرة
إذا كان ثمة اتفاق على ماهية الغرب، فإن الشرق أكثر إبهاما. فالغرب هو أوروبا (الغربية والشمالية أولا) والمستوطنات الأوروبية في العوالم الجديدة، القارة الأميركية كما المحيط الهادئ. أما الشرق فمصطلح يرافقه الالتباس وتعتريه الضبابية. وقد تبدل تعريفه مرارا على مدى القرون. والجامع بين تعريفات "الشرق" المتباينة أنها تكاد أن تكون كلها "غربية"، أي أن تسمية "الشرق"، في ما يتجاوز أصولها التاريخية الرومانية والكنسية، كانت اختيارا من سياسيين ومفكرين ومنظرين غربيين لما هو خارج إطارهم الحضاري أو الثقافي، أو حتى السياسي. فالشرق كان آسيا برمتها، وحيث يبرز الإسلام، ولكن الشرق كذلك، على الأقل حتى انهيار المنظومة الاشتراكية، كان الاتحاد السوفياتي ودول حلف وارسو في صلب أوروبا.
وللتسميات مسار لا يلتزم بالضرورة برغبات واضعيها. فإذا كان بعض الأوروبيين في القرن التاسع عشر قد نظموا شرقهم إلى "أقصى" هو الصين واليابان وجوارهما، و"أوسط" هو الهند ومحيطها، و"أدنى" هو الدولة العلية العثمانية وملحقاتها، فإن القرن العشرين، نتيجة اعتبارات إدارية ثم سياسية، استفاض في مسمى "الشرق الأوسط" ليبتلع "الأدنى"، قبل أن ينسحب من الهند بالكامل، ثم يتمدد غربا وشمالا. واعتنقت ثقافة البلاد المنعوتة بـ"شرقية" نعت "الشرق". بل في زمن السعي إلى القبول بالآخر، حتى جوار النصف الأول من القرن العشرين، في الإطار الثقافي الواسع حيث الهوية اللغوية لم تقتصر على العربية (لتشمل الفارسية والتركية وغيرها الكثير) والهوية الدينية لم تتوقف عند الإسلامية (لتضم المسيحية واليهودية وغيرها الكثير)، بدت صفة "الشرق" البديل الأمثل لعبارتي "الحضارة العربية" أو "العالم الإسلامي" بما تعمّيه وتسقطه كل منهما من التعدد.
ولكن اعتماد تسمية "الشرق" جاء كذلك دفاعيا، تصارعت في خضمه الفوقية والدونية في ثقافات لم تحسم رؤيتها إلى اليوم في أسباب تقدم غيرها وتراجعها هي.
وإزاء الحدود التي رسمها منظرو الغرب لغربهم، مكانا وزمانا، نشط مفكرو "الشرق" بجهود متسابقة لتأطير شرقهم بذاته وبعلاقته بهذا الغرب الطاغي، وصولا إلى القبول بتضاد جوهري بينهما، إما في الواقع أو في الرؤية، إلى حد أقصى يختزله عنوان كتاب هام صدر قبل عقود "شرق وغرب، رجولة وأنوثة". ومن الغرب الملقح شرقا جاء النقد (الذاتي؟) حول "الاستشراق" وتطويعه للمعرفة في علاقة غير متكافئة بين الجانبين.
ولكن القول بالتضاد، بل الإقرار به حقيقة جوهرية لم يكن نهاية المسعى "الشرقي" إلى تحقيق الأصالة. إذ بعد التمايز، جاء التمحيص، وجهاد إخراج كل ما مسه الغرب في ربوع الشرق. هو فعل ابتتار، لا تشذيب ولا تهذيب. والشروع بهذه المتاهة لا حد له. فابتداء يخرج "الغربيون" سواء كانوا من المستعمرين (كما في الجزائر)، أو من المستوطنين (كما كان حال الإيطاليين واليونانيين والمالطيين وغيرهم في مصر)، ثم تطال الشبهات من شابههم بأي وجه، ولا سيما المسيحيين من أهل البلاد. وسواء جاءت تتمة الفرز على قاعدة التكفير أو على قاعدة التخوين، فإن القطع يطال، بدرجات تتفاوت بين منظّر وآخر، الحداثيين، ودعاة الصلح مع إسرائيل، والرغاليين من "أبناء جلدتنا" من الذين لا يقرون بالشر الداهم من الغرب عامة ومن الولايات المتحدة خاصة، كما الملحدين والعلمانيين ثم المخالفين من القبوريين والمتصوفة والمبتدعة، والروافض العلقميين، والباطنيين الذين أفتى شيخ الإسلام بواجب قتلهم، بل الجهلة من العوام في تشبهاتهم وتماهيهم مع الغرب، وسائر الرعاع، لتضيق دائرة الأصالة والاستقامة حتى الخناق، وما خارجها دخيل مرذول.
ربما آن الأوان لمقاربة مختلفة لا ترضى بالتضاد، بل لا تقبل بالتسمية الفارزة.
في القراءة الذاتية السائدة للهوية الحضارية "الغربية"، الأصل هو المهد اليوناني وامتداده الروماني ثم المسيحي، مع توسع إلى عمق تاريخي سابق يقر بفضل تأسيسي للمنطلق الحضاري العراقي ثم المصري في التحضير للانبثاق الغربي. فالمتعارف عليه في الأوساط العلمية في الغرب هو أن بلاد ما بين النهرين، أي العراق، هي حيث أول ما رأت الحضارة الغربية النور. ولكن هذا التوصيف غالبا ما يميز جهارا بين العراق ومصر في ماضيهما الرفيع وعراق اليوم ومصر اليوم، ككيانين ومجتمعين على غير صلة تاريخية مباشرة بذاك الماضي. ليس أن هذا التاريخ العريق كان مجهولا وحسب من أهل هذه البلاد قبل التنقيب الغربي عنه، بل أن الثقافة المهيمنة في كل من مصر والعراق لا تسعى إلى إعادة الربط المعنوي والثقافي معه. وبالفعل فإن مصر في مطلع اعتناقها المسيحية قد شهدت قطعا ثقافيا متعمدا يكاد أن يكون تاما مع الألفيات العديدة من تاريخها، وانتقل ذلك إلى الحقبة الإسلامية وتوطد فيها، وما زال مستمرا. فالسيرة الذاتية الجمعية السائدة في مصر تبتدئ إما في حجاز القرن السابع الميلادي أو في فلسطين القرن الأول للميلاد، مع أصداء واهية من التاريخ القصصي الديني يهمش الثروة الحضارية المصرية. والحال في العراق، والذي يحوي آثارا مادية أقل، فيما مساهمته المعنوية والتأطيرية في الحضارة الإنسانية هي الأولى موضوعيا، فالعلاقة مع الماضي أكثر تأزما وتأخرا. وما ينطبق على مصر والعراق يطال كافة دول المنطقة.
إلا أن المقاربة البديلة، والتي وإن كثرت سابقاتها فإنها لم ترتقِ إلى الصدارة الفكرية، فتقول:
لا نسلّم بتمام الانقطاع مع الماضي السحيق، ونثمن المساعي في القرن السابق والتي مكنت الآثاريين المحليين من الإمساك بزمام التنقيب، وكذلك جهود تأصيل الربط مع الماضي السحيق (مثل موسوعة "تاريخ العراق" الصادرة في بغداد في الثمانينيات) وندعو إلى المزيد من الاستشفاف للعلاقات القائمة (وراثية، لغوية، حياتية، ثقافية عميقة) كما إلى إعادة اكتشاف هذه الثروة الحضارية محليا، لا على أساس التنابز والتفاخر الوطني شبه القبلي، بل انطلاقا من إدراك تشابك العلاقات والأمكنة والأزمنة. وعليه، إذ يطيب أن ينتسب "الغرب" إلى العراق، إلا أن أهل العراق وعموم أهل المنطقة هم إلى هذا النسب أقرب.
ثم أننا لا نسلم بأن الحضارة اليونانية هي إرث حصري للحضارة الغربية. بل أن اليونان والرومان قد توطنوا وتزاوجوا وتمازجوا مع أهل المنطقة في قرونها الغابرة، واستقر هؤلاء، أي أهل المنطقة أنفسهم، في عموم ضفاف البحر الأبيض المتوسط، قبل أن ينحاز إلى أوروپا من هم أهلها اليوم، دون أن تتوقف دائرة الانتقال، الطوعي والقسري، عبر المتوسط يوما. وليس النزوح الذي تشهده أوروبا من جنوبي المتوسط اليوم إلا استمرارا لهذا التلاقح. ثم أن حكمة القدماء، سواء كانت باليونانية أو غيرها، هي نتاج جماعي لأهل ضفاف المتوسط على اختلاف أصولهم وتداخلها، وهي جزء لا يتجزأ من تاريخ المنطقة وثقافتها العليا، وعنصر مؤسس في بنيتها الحضارية، وإن توافق الحصريون الغربيون مع القطعيين الإسلاميين في السعي إلى إقصائها.
ودولة اليونان الحديثة عند استقلالها عن السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر، اجتهدت لبتر ما لا يضعها في صلب الاهتمام الأوروبي من حاضرها وماضيها. إلا أن هذا المجهود العقائدي لا يبدل من أن الموروث اليوناني هو لنا كما هو للأوروبيين.
ولا نسلّم إطلاقا بأن المسيحية هي نتاج حضاري أوروبي خاص، بل المسيحية أولا وليدة منطقتنا وهي أساس البنيان الذي قام عليه الصرح الأعظم أثرا في هذه المنطقة، أي الإسلام. والرصيد الديني واللاهوتي والعقدي للمسيحية في منطقتنا يضاهي ما أخرجته أوروبا، وهو له منطلق ومبتدأ. والمسيحية التي دامت في هذه المنطقة ألفي عام قادرة أن تدوم إلى طول أجل، رغم ما يحيط بها من مخاطر.
ومع الإقرار دون تحفظ بأن التعبير الواضح المتكامل والذي رفع الحياة والحرية والكرامة إلى مستوى الحقوق المبدئية غير القابلة للتصرف قد بلغ شكله الصريح المعاصر في أوروبا الأنوار، إلا أننا لا نسلم بأن هذه المفاهيم غريبة عن مجتمعاتنا، وإن كان التعبير عنها أقل صراحة وأقل اكتمالا، وإن حاول الحكام والفقهاء والكهنة والأحبار تقييدها وتحديدها عبر القرون. فالقبول التلقائي على أكثر من صعيد والذي شهدته هذه المبادئ عند بلوغها المنطقة هو دليل على حضورها في النفوس وإن لم تتضح في النصوص.
وعليه، فإن مكونات هذا "الشرق" لا تختلف إلا بالكم عن مكونات ذاك "الغرب"، سواء بالأصول التاريخية أو بمادة السجال الثقافي. هذا وذاك من العراق وجواره في أصله الحضاري، وهذا وذاك انبنى على العولمة الأولى التي أنجزها الإسكندر المقدوني، وهذا وذاك تجادلت فيها ظاهرية القدس وباطنية الإسكندرية، وهذا وذاك تناوب مدا وجزرا، فتحا وقهرا، إلى أن رسا الحال على ما هو عليه اليوم: "غرب" متقدم و"شرق" متأخر. بل إن التماثل في المكونات ينبئ بنتيجة مزعجة للجانبين: ليس هذا "الغرب" كل الغرب، وليس هذا الشرق شرقا صادقا. بل كلهما غرب.
وعلى جانب آخر من المعمورة شرق صادق شهد أدوارا وأكوارا ليس للعراق ومصر واليونان والرومان فيها حصة. "مملكة الوسط" أي الصين في إشعاعها الذي بلغ شقها من آسيا، بعد أن استمدت من الهند أصولا، هي قلب ذلك "الشرق" الصادق. أما "الشرق" هنا في ديارنا، فشرق "كاذب" (كما الفجر الكاذب، لا كما الرجل الكاذب)، قد يريد منه أهله عدم الإقرار بأنهم اليوم أطراف حضارتهم وليسوا أشرافها، وقد يريد منه بعض "أشراف" هذه الحضارة اليوم، أي الأوروبيين وذوي الأصول الأوروبية في العوالم الجديدة، أن يتبرأوا قلبا وقالبا من هؤلاء الأطراف الذين لا تروق لهم صلتهم بهم.
والدعوة إلى إعادة الاعتبار، والاعتراف بأن أهل الشرق "الكاذب" غربيون في حالة إنكار لهويتهم يصاحبها نكران من محاضريهم لها، تأتي في حال الاستجابة لها بالفوائد للجانبين. فكما أن المدافع عن حق المرأة بالإجهاض ومن يقول بحق الجنين غير المولود بالحياة يتعايشان في الثقافة الواحدة في الولايات المتحدة مثلا، وإن على مضض وبأنف مزكوم، فإن تأصيل غربية الشرق (الكاذب)، أي إظهار أصالتها لديه وعدم اعتبارها استعارة لمقومات دخيلة، قد يساهم بالتحضير لثقافة أكثر تسامحا وقبولا بالتعدد، في القاهرة كما في واشنطن، في بغداد كما في باريس.
هي آفاق وثروات امتنعت عنها هذه المجتمعات، وراق امتناعها عنها لمن يريد اختزالها من داخلها ومن خارجها. والأوان قد آن للعودة إليها وتثمينها.
--------------
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)