بقلم حسن منيمنة/ موقع الحرة
من وحي الانتفاضة الإيرانية الأخيرة، والتي يُظهِر فيها المجتمع الإيراني الحيّ، من مختلف مدنه وبلداته وشرائحه الجيليّة والثقافية والاقتصادية، أنه غير قابل للتأطير الاختزالي، بل هو في مسعى دائم إلى تحقيق صالحه، وإن تعارض مع رغبات الحاكم المتسلح بالدين، من وحي هذه الانتفاضة، وصورة لفتاة خلعت الحجاب، تحضر ذكرى امرأة إيرانية أخرى، أثارت بدورها في زمانها الغضب والاستهجان، إذ سعت، دون هوادة أو مهادنة، إلى الحرية.
هي فاطمة بنت محمد صالح البرغاني، أحد رجال الدين من شيعة أهل البيت. ولدت في قزوين قبل زهاء مئتي عام (إما ١٨١٧ أو ١٨١٩)، وماتت قتلا شهيدة للحرية عام ١٨٥٢. عُرفت بألقاب كثيرة، فكانت تاج الذهب ("زرين تاج") لوالدها، و "قرة العين" لشيخها، ثم "الطاهرة" للرجل الذي رأت فيه باباً للخروج من العبودية الفكرية والسياسية والاجتماعية، وهو اللقب الذي لازمها على الغالب بعد رحيلها.
نشأت فاطمة في زمن تزاحمت فيه التوقعات حول انقلاب الدور، وتنافست فيه المذاهب الشيعية لقراءة المستجِد، أخباريون، أصوليون، شيخيون، كشفيون. أهلها، والدها كما زوجها ابن عمّها، كانوا إلى الاحتياط أقرب. تفقّهوا في زمن كانت الفقاهة هي الأساس والملاذ، وعاد عليهم اجتهادهم بالعائدات، ولكنهم لم يخرجوا ولم يشطحوا. أما فاطمة، فكانت هي الصفية بين النساء في مجتمعها وزمانها، في طلبها العلم وإن من خلف الحجب، وفي قراءتها كتب جريئة تقول ما لا يقوله علماء السلطان، وفي مراسلتها كاتبيها من الشيوخ، وفي شدّها الرحال إلى مقامهم.
هي أرادت أن تلتقي كاظم الرشتي، مريد الشيخ أحمد الإحسائي مؤسس الشيخية، فقصدته خلال زيارتها للعتبات المقدسة في كربلاء عام ١٨٤٣، ولكنه توفي قبل اللقاء. إلا أن زوجته وبناته استضفنها وأتحن لها فرصة الاطلاع على مخطوطاته، فكانت لها أساساً لحلقاتها. وفي كربلاء، قبلت فاطمة دعوة علي محمد الشيرازي، دون أن تلتقي به أبداً، وهو الذي خرج على أنه «الباب» للإمام المهدي، قبل أن يشهر مهديته وما يزيد عنها في مراحل لاحقة.
غالباً ما يُغلّف ذكر "البابية" و"البهائية"، كما "الأحمدية" التي عاصرتهما في الهند، على أنها صنائع للاستعمار الهادف إلى تقسيم البلاد والممالك، بما يحاكي التوضيب المعاصر للتوجهات "الجهادية" و"القرآنية" على حد سواء، مع اختلاف القائل. وبغضّ النظر عن تفاعل القوى الخارجية مع أية ظاهرة، من منطلق انسجامها مع مصالحها ورؤاها، ولتجنب اقتطاع أجزاء أصيلة من تاريخ المنطقة، من الأجدر متابعة هذه الظواهر على ما هي فعلاً، أي أنها أولاً تعبير عن حالات محلية من التأزم والقلق إزاء الأوضاع القائمة وصولاً إلى رفضها.
مقابل التكفير انطلاقاً من الردة البواح، والتخوين من جانب المعترضين على الاستعمار، والتسفيه القائم على قراءة تسطيحيّة لنتاج فكري خارج سياقه، يرتقي من يجلّ "الباب" و"الطاهرة" بهما اليوم إلى مصاف التجليات الإلهية. هي قناعات فكرية ودينية من الجانبين لا حاجة ولا ضرورة هنا، لا إلى إثباتها ولا إلى نفيها.
بل يكفي اعتبار ما خالج "قرة العين" من أفكار ومشاعر تتجاوز المكان والزمان، وهي لم تتجاوز السابعة والعشرين، و"الباب" وهو أصغر منها سنّاً، إذ شرعا، كل على حدة، بمواجهة مؤسسة علمائيّة أقوالها ترسم كافة معالم الحياة في مجتمعها. ولا بد أيضاً من تأمل ما تعرّضت له هي بالذات، كونها امرأة في ثقافة المرأة فيها عورة ونقصان، حتى في رحاب الأوساط التي تجابه سلطة رجال الدين. ولكنها في كربلاء تجرأت على القول والفعل، وثابرت على التحدي. وإذا كان ثمة خيط جامع لمواقفها، فهو رفضها الخضوع لفتاوى العلماء واجتهاداتهم. إلى أن تدخلت الدولة العثمانية وفصلت النزاع لصالح خصومها.
أُخرجت "قرة العين" من كربلاء، وحجارة الراجمين تلاحقها. ومن بغداد، أعيدت إلى إيران وإلى عهدة والدها، فاصطدمت مع أسرتها، إذ أرادت لها العودة إلى مكانها ودورها، دون جدوى. فكان طلاقها من زوجها، وكان تفسيقها واتهامها بالضلوع بمقتل عمّها، وهو من أشد خصوم "الباب". وحتى بعد أن تبين بطلان التهمة، بقيت "قرة العين" موضع شبهة وتعيير، فهربت إلى طهران، حيث التحقت ببعض أنصار "الباب".
وفيما "الباب" أسير الدولة القاجارية الحاكمة في إيران، وفيما علماء الدين يفندون مزاعمه ويلاحقون أتباعه، أجتمع عشرات من أنصاره في بلدة بدشت في خراسان للتشاور حول مآل حركتهم. البعض منهم كان يرى فيها تشذيباً للدخيل وعودة إلى نقاء الرسالة المحمدية، فيما آخرون أرادوا القطع وإشهار الدعوة على أنها دين قائم بذاته. وفي طليعة هؤلاء كانت "قرّة العين"، المرأة الوحيدة بين أوائل من صدّق "الباب".
وفي بدشت، عام ١٨٤٨، في زمن كان فيه مطلق ظهور للمرأة، حتى المنقّبة، مكروهاً، نزعت "قرّة العين" حجابها، بكامل الوقار، لتكشف عن وجهها وشعرها وسط جمع الرجال، ولتصرّ على أن ما ابتدأه "الباب" هو على قطيعة مع ما مضى. حتى أنصار "الباب" في بدشت كثر في أوساطهم النفور والاستهجان. ليس غريباً، فيما بعد، أن توسم "قرّة العين" بشتى نعوت الفجور والرذيلة. من سجنه، دافع عنها "الباب" فأطلق عليها لقب "الطاهرة"، ولكن لا فارق، فالمرأة، في كل اللغات وكل الثقافات، غالباً ما تفرز أقوالها وأفعالها من منظار الحشمة والخلاعة.
"الطاهرة" دعت إلى ثورة وانتفاضة لتحرير "الباب"، ولم تلاقِ استجابة. وسرعان ما تلقفتها السلطات، ووضعتها في الإقامة الجبرية بعهدة زوجة أحد المسؤولين. ولكنها استمرت في قناعاتها وحلقاتها، معترضة على تعدد الزوجات وغيره من الانتقاص من النساء، وداعية دعوة "الباب" حتى بعد إعدامه عام ١٨٥٠، قبل أن تلاقي بدورها المصير عينه عام ١٨٥٢، بعد رفضها المتكرر للاستتابة، فماتت شهيدة لإصرارها على حرية لم تشهد منها في حياتها إلا القليل.
بعد وفاتها، تقاسم أنصار الباب ذكرى "الطاهرة" فيما هم ينقسمون ويتشظون، بل أعادوا ترسيم دورها لتبقى ضمن الإطار المقبول للنساء. فالرائج اليوم هو أنه ليست هي من أصرّ على القطع، هذا الفعل الثوري المؤسس، بل ميرزا حسين علي نوري، والذي تلقّب في بدشت بالبهاء، قبل أن يصبح بهاء الله ويعلن أن "الباب" كان بابه هو، ويطرح "الدين البهائي" بديلاً عن "البابية"، فيما أخوه الأصغر "صبح الأزل" يكذّبه، ويصر على بابية تكاد اليوم أن تندثر. التفرّق بالطبع، هو مصير الحركات الدينية على اختلافها. كل فرقة لها قراءتها.
أما «قرّة العين»، فهي لنا جميعاً.
--------------
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)