بقلم عريب الرنتاوي/ موقع الحرة
أُسدل الستار مؤخراً على واقعة مقتل أردنيين اثنين في السفارة الإسرائيلية في عمان، بعد ستة أشهر من حدوثها. إسرائيل تقدمت باعتذار للحكومة الأردنية وتعهدت بدفع تعويضات للعائلات الثكلى وإحالة الجاني للقضاء، مستجيبةً بذلك إلى حد كبير، للشروط التي طرحها العاهل الأردني لإغلاق هذا الملف. سترسل حكومة نتنياهو قريباً بسفيرها الجديد إلى عمان بعد استمزاج رأي عمان بشأنه، إثر رفض الحكومة الأردنية بقاء السفيرة عينات شلاين في منصبها. الحادث كما هو معروف، أحدث أزمة ديبلوماسية عميقة بين البلدين، ازدادت تفاقماً في ضوء تداعيات القرار الذي اتخذه الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها.
التطور المفاجئ في ملف "حادثة السفارة"، ليس منفصلا عن سياق كامل من الجهد الأمريكي المبذول في القنوات الديبلوماسية، وبعيداً على الأضواء، لـ "رأب الصدع" بين حليفين موثوقين للولايات المتحدة، في إطار مسعى أمريكي متعدد المسارب والأهداف:
أولها، تصحيح مسار العلاقة بين عمان وتل أبيب، والتي شهدت سلسلة متصلة من التوترات والأزمات، إنْ على خلفية النهج الإسرائيلي المدمر لمسار التفاوض وعملية السلام، أو على خلفية الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة للرعاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية في القدس، أو بفعل التطاول على أمن الأردن واستقراره كما تجلى بأبشع صوره في حادثة السفارة وقبلها محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها خالد مشعل في قلب العاصمة الأردنية، ودائماً في عهد نتنياهو. التدهور في العلاقة بين الجانبين، بلغ ذروة غير مسبوقة، إثر قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، وكان مرشحا ولا يزال، لفصول جديدة من الاضطراب والتوتر.
ثانيها، أن البيت الأبيض ما زال يحتفظ في أدراجه بخطته الخاصة لسلام الشرق الأوسط، والمعروفة باسم "صفقة القرن"، وأن نائب الرئيس مايك بنس بدأ جولة في المنطقة، تشمل الأردن الذي لم يكن مدرجا من قبل على جدول أعمال زيارته، ومن المناسب أن تكون العلاقات بين الأردن وإسرائيل قد استعادت بعضا من هدوئها واستقرارها، قبل الزيارة وبعدها. زيارة بنس لعمان، تستطبن رسالة طمأنة لعمان، بعد كل ما أشيع عن حالة فتور و"انعدام يقين" في علاقة الأردن بأهم حليف دولي له، وقرار إسرائيل "الاعتذار والتعويض" عن حادثة السفارة، هي رسالة طمأنينة ثانية لعمان، أحسب أنها كتبت وأرسلت بتدخل أمريكي مباشر وضاغط في هذا المجال.
ثالثهما، أن كثيرا من الصراعات التي يشهدها الإقليم، تدور بين أصدقاء واشنطن وحلفائها. فهناك الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، والخليج منقسم على نفسه، ومحترب فيما بين دوله. والصراع بين محوري تركيا ــــ الدوحة محتدم مع محور مصر ــــ الإمارات ـــــ السعودية، والصراع الكردي ـــــ التركي في شمال سورية يتفاقم وينذر بحرب جديدة بين حركة حليفة وموثقة لواشنطن، ودولة عضو في "حلف الناتو"، ولا أظن أن واشنطن ترغب في رؤية انهيار آخر في جدار العلاقة بين حليفين آخرين لها: الأردن وإسرائيل.
رابعها، ويرتبط بالمسألة السورية ــــ ربما ـــــ بعد أن كشفت واشنطن عن استراتيجية البقاء مطولا في شرق سورية وشمالها الشرقي، وسعيها لإدامة سيطرتها وحلفائها على ربع مساحة سورية حتى إشعار آخر. مثل هذه الاستراتيجية غير قابلة للتنفيذ من دون "شراكة حقيقية" مع الأردن، الحليف الموثوق في الحرب على الإرهاب، والقريب جدا من قاعدة "التنف" في البادية السورية الشرقية الجنوبية، لاسيما في ظل التدهور المتسارع في علاقة واشنطن مع أنقرة، على خلفية صراع الحليفين حول "المسألة الكردية" في شمال سورية. إزاء مثل هذا التوجه الاستراتيجي الأمريكي في سورية، يصبح الخلاف الأردني ـــــ الإسرائيل حول حادثة السفارة، مجرد تفصيل صغير.
في الرسالة التي وجهتها حكومة نتنياهو لعمان، تعهدت إسرائيل بإخضاع قاتل الأردنيين في السفارة للمساءلة والمحاسبة القانونية، والأردن كان طالب من ضمن قائمة شروطه الثلاثة أن تبدأ هذه المحاكمة، وأن تتسم بالجدية التامة، وأن يلقى القاتل قصاصه العادل من دون مراوغة أو تسويف، فضلا عن الاعتذار للمملكة والتعويض للعائلات الثكلى. حصل الأردن على "شرطين ونصف الشرط"، وأُغلق ملف السفارة على ما أظن. حصل الأردن على "الاعتذار" و"التعويض" و"تعهد" بمحاكمة الجاني (المحاكمة الفعلية لم تبدأ بعد). وأُعيد الاعتبار لعائلة الزعيتر عن ابنها القاضي رائد الذي أردي قتيلا على جسر الملك حسين ومن مسافة صفرية، وهو في زيارة إلى بلدته في الضفة الغربية قبل أربع سنوات.
في الشكل، تراجعت إسرائيل خطوتين ونصف الخطوة، وتراجع الأردن في المقابل خطوة واحدة للوراء. لكن في المضمون تبدو الصورة أكبر من ذلك وأكثر تعقيداً. يبدو أن واشنطن، ومعها تل أبيب، وربما عواصم عربية وازنة، تسعى لـ "تدوير الزوايا الحادة" في الموقف الأردني من مشروع ترامب ومسألة القدس. إذ لا مصلحة لهذه الأطراف، خصوصا الولايات المتحدة، في عزل الأردن ومعاقبته على مواقفه، ودفعه للتغريد خارج سربه المعتاد، بعيدا عن حلفائه الإقليميين والدوليين التقليديين.
ويبدو أن في دوائر صنع القرار في الدولة الأردنية، من بات مقتنعا، بأن الأردن ليس بمقدوره أن يفعل أكثر مما فعل، وأن لديه مصالح يتعين عليه الاحتفاظ بها والذود عنها، وأنه اتخذ من المواقف حيال مسألة القدس، ما يتجاوز المواقف التي اتخذتها دول عربية كبرى، قائدة ووازنة، وأنه من "الظلم" تحميل البلد الصغير، المأزوم اقتصاديا وماليا، والمُهدد سياسيا وكيانيا، أعباء لا طاقة له عليها.
فالضائقة الاقتصادية تعتصر الأردن والأردنيين وتتحول إلى تهديد لأمنه واستقراره، في ظل مواقف متفرجة ولا مبالية، بل وأحيانا "متشفية" من قبل الأشقاء الكبار. ثم أن حملة "الترهيب السياسي" التي تعرض لها، إنْ بالعودة لإحياء فزّاعات التوطين والوطن البديل، وحل القضية الفلسطينية في الأردن وعلى حسابه، أو بالتلويح ببدائل عربية وإسلامية ودولية، للرعاية الهاشمية للأقصى والمقدسات في القدس، لا شك أنها كانت حاضرة في أذهان صناع القرار الأردني ومحفزة لهم لاتخاذ مواقف أكثر ليونة و"واقعية"، حتى أن البعض وصف العملية ببداية هبوط آمن عن "قمة الشجرة"، وتعبيرا عن الميل لتهدئة "نبرة" التصريحات والمواقف حيال المسألة الأكثر حساسية في الملف الفلسطيني وأعني بها مسألة القدس وملحقاتها.
"الاعتذار" و"التعويض"، كما زيارة بنس لعمان في إطار جولته الإقليمية الراهنة، يمكن النظر إليها بوصفها "شبكة أمان" لهذا الهبوط الآمن والمتدرج عن قمة الشجرة التي جرى ذكرها، ويمكن اعتبار "رسائل الاطمئنان" التي استبطنتها، بوصفها مسعى لرفع الحرج عن الموقف الأردني، وإعادة تأكيد على موقعه ودوره وتحالفاته، ومساعدته على البقاء في سربه، وعدم التحليق بعيدا عنه.
لا يعني ذلك أن الأردن سيتراجع عن "مضمون" مواقفه التي اتخذها حيال القدس مؤخرا، وقد بدا واضحا من خلال محادثات الملك عبد الله الثاني مع نائب الرئيس الأمريكي، لكن المؤكد أن لغة التعبير عن هذه المواقف ونبرتها وحدتها، ستشهد تغييرا ملموسا في الفترة القادمة.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)