تظاهرة اعتراضا على مشاركة حزب الله في القتال إلى جانب النظام السوري (أرشيف)
تظاهرة اعتراضا على مشاركة حزب الله في القتال إلى جانب النظام السوري (أرشيف)

بقلم فارس خشّان/ موقع الحرة

غالبية اللبنانيين، إلى أي فئة انتمت، تقف ضد التطبيع مع إسرائيل.

ورفض التطبيع مع دولة مصنفة عدوة، هو حق وواجب في آن، لأنه شكل من أشكال المواجهة، ولا يمكن تجاوزه، إلا مع فتح سبل السلام.

إلا أن لهذا التطبيع حدودا يجب الالتزام بها، لئلا يتحول إلى وسيلة لإرساء "محاكم تفتيش" أو إلى "مطاردة السحرة".

وعلى سبيل المثال لا الحصر، عرفت الإنسانية، في القرون السابقة، كوارث هذه المحاكم التي يعتبر الإسباني توماس دو توركيمادا رمزا لها، كما عرفتها، في العصر الحديث، وتعتبر الماكارثية الأميركية، أبرزها.

وكانت المشكلة وتبقى في أن هؤلاء الذين يتوهمون احتكار الحقيقة، إنما يتلاعبون بمفاهيم العبارات وبحدودها، من أجل تطويع كل من يعارضهم.

وبهذا المعنى، فإن المشكلة اللبنانية لا تكمن بمحاربة التطبيع إنما بفرض التطويع.

وهنا تحديدا يكمن التعاطي مع فيلم ستيفن سبيلبرغ الأخير "ذا بوست".

ففي قرارات "المنع" تقف المديرية العامة للأمن العام في الواجهة، أما المرجعية الحقيقية التي تقف خلف دفع هذه المديرية الى القرار تبقى، عموما، في الظل. إلا أنه مع "ذا بوست" تغيّرت المعادلة، فعندما كسرت وزارة الداخلية قرار منع عرض هذا الفيلم في صالات السينما اللبنانية، اضطر الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله أن يكشف عن دوره في الوقوف وراء القرار "المكسور".

وطالب نصرالله الحكومة بالعودة إلى قرار المنع، على اعتبار أن سبيلبرغ "تبرع لإسرائيل في العام 2006، داعما عدوان تموز، بمليون دولار أميركي".

ولإعطاء هذا الطلب قوة وازنة، صدرت دعوات إلى التظاهر الاحتجاجي أمام الصالات التي تعرض "ذا بوست"، فيما تخوف البعض من إمكان استهداف هذه الصالات لترهيبها، وفق ما سبق وحصل عند استهداف مقر مصرف "لبنان والمهجر" في بيروت، بداعي أنه "يُزايد" في الالتزام بالعقوبات الأميركية المفروضة على "حزب الله".

وفي ضوء موقف نصرالله أضحى، بالنسبة لمحازبيه ومؤيديه، كل من يشاهد "فيلم الصهيوني سبيلبرغ" عميلا إسرائيليا، وداعية تطبيع، وناقص الوطنية، وخائن.

ومن حق "حزب الله"، بطبيعة الحال، أن يكون له نهج ثقافي وفكري، فيشجع هذا ويستنكر ذاك، كما من حق غيره أن يقف في وجه هذا النهج الثقافي والفكري.

لكن المشكلة مع "حزب الله" تكمن في أنه ليس حزبا كباقي الأحزاب، فهو حزب مسلح ويتوسل العقيدة الدينية للتجييش العسكري والسياسي.

وتجربة اللبنانيين مع ما يحرمه الحزب تكمن في هذه الوضعية بالتحديد، فالحزب وحده يتحكم بالحدود الفاصلة بين الموقف المعلن وبين فرضه الميداني.

وإذا كانت الإجازة التي أعطتها الحكومة لعرض "ذا بوست"، قد أخرجته رسميا من "قائمة المقاطعة"، قد قابلها إصرار الحزب على أنه يجب أن يكون من ضمنها، فإن هذا يثير مخاوف على المستقبل، ذلك أن هناك قناعة شاملة في لبنان ـــ أقلّه حتى اليوم ــــ بأن القانون الذي ستجري على أساسه الانتخابات النيابية المقبلة في أيار/مايو المقبل ستمكن "حزب الله" وحلفاءه من نيل الأغلبية النيابية، وتاليا سيتحكم بالمؤسسات اللبنانية ويتمكن من تحويل وجهة نظره إلى واقع قانوني.

ووفق ما بات معروفا، فإن تصعيد الحملة ضد ما يسمى "التطبيع الثقافي" مع إسرائيل أخذ بعدا كبيرا على إثر انتصار المجتمع المدني (مدعوما بجائزة عالمية) للمخرج زياد دويري الذي سجل مقاطع لفيلمه ما قبل الأخير في إسرائيل.

وهناك فئة لبنانية وازنة مقتنعة بأن الحملة العنيفة المستندة إلى معطيات تضليلية أو مضخمة، والتي تزامنت مع توقيف الفنان اللبناني زياد العيتاني، بتهمة التعامل مع إسرائيل، إنما كانت تهدف إلى ترهيب جماعي يضع حدا قويا لإيحاءات ممكنة منبثقة من انتصار الدويري.

على أي حال، فإن "ذا بوست" ليس سوى نموذج عن قرارات منع كثيرة طاولت كتبا علمية وفنانين عالميين، إما لأنهم إسرائيليون وإما لأنه سبق لهم وأقاموا حفلات في إسرائيل.

ومنع الفنانين المغضوب عليهم من إقامة حفلات في لبنان، لم يكن على خلفية التعارض مع معايير المقاطعة بل خوفا من أن يتسبب حضورهم "المنبوذ" بمشاكل أمنية.

وليس "حزب الله" وحده من يقف وراء كل قرارات المنع، فقد سبق لمؤسسات دينية أن وقفت وراء منع أفلام وكتب كثيرة، اعتُبر مضمونها مسيئا لأديان هذه المؤسسات.

وبغض النظر عن الموقف من هذه المؤسسات الدينية والاستجابة لطلباتها، إلا أن هنا قد يكمن الفرق بين التطبيع والتطويع، فمضمون المحتوى الثقافي أو الفني أو العلمي قد يكون هو الحد الفاصل، للتصنيف.

وفي هذا الإطار، وبالعودة الى "ذا بوست" فلا مأخذ "تطبيعي" على مضمونه، لأنه يستهدف، بشكل واضح، الرئيس الأميركي دونالد ترامب ــــ وهو من اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ــــ في تعاطيه مع الصحافة والإعلام، من خلال "تنطيق" الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون كلمات ترامب نفسه.

إلا أن بعض المراقبين يذهب الى أبعد من التصدي للتطبيع في التعاطي الرافض لفيلم سبيلبرغ الرابع والعشرين بعد حرب تموز 2006، ويعتبر أن في مضمون هذا الفيلم الكثير من التحريض على ممنوعات لبنانية حالية، فالنقاش في الحروب الخارجية التي يخوضها "حزب الله" ممنوع، وتاليا لا بد من اعتبار الانتفاضة الأميركية على استمرار حرب فيتنام نموذجا سيئا، يجب عدم "لبننته". كما أنه في فترة اضطهاد الصحافة والإعلام في لبنان، فإن وقوف القضاء الأميركي مع حرية النشر الخارقة للممنوعات الحكومية، يجب أن يبقى خارج الضمير اللبناني، كليا.

وفي الختام، فإن مطلب الامتناع عن القيام بأي نشاطات تطبيعية محق، بموجب المعطيات اللبنانية، إلا أن الخوف الحقيقي يكمن في تسلل إرادة التطويع متدثرة بثوب منع التطبيع.

ـــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

مواضيع ذات صلة: