بقلم كوليت بهنا/ موقع الحرة
استغل السوريون قبل أيام هدنة صغيرة من الوقت بعيدا عن السياسة والحرب، ورمى أحدهم بسؤال من باب التسلية على "فيسبوك" عن أيهما أجود المطبخ الحلبي أم الدمشقي؟ سرعان ما تحول سؤاله الممازح هذا إلى فتيل أشعل كل وسائل التواصل الاجتماعي وتحول الأمر إلى حرب مطابخ أهلية بين حلب ودمشق وأنصارهما. كل منهما يستعرض ما في مطبخه من ملذات وأطايب، ويرشق الآخر بما تحمله جعبته من ذاكرة محتقنة ضد الآخر، حيث من المعروف أن هاتين المدينتين تنافستا تاريخيا وكل منهما تعتبر أنها الأجمل والأفضل والأكثر حضارة. حتى أن الدمشقيين الذين خرجوا في الحراك الثوري منذ بداياته في مارس 2011، عابوا على حلب تأخرها الطويل في الانخراط بالحراك وكانوا يتهكمون على الحلبيين بأن "حلب تشوي كبب" كناية عن أن أهل حلب لا يفكرون إلا في الطعام.
في حرب المطابخ هذه، بدا واضحا أن الغلبة مالت لكفة حلب، والأمر ليس غريبا عنها حيث تميزت عاصمة الشمال الشهباء بفنون الطعام على مدى تاريخها كجزء هام من عراقتها وثقافتها وحضارتها. ساعدها موقعها الجغرافي على طريق الحرير والتوابل وتوسطها بين الساحل وتركيا وحمص وحماه وريفيهما، والفرات والجزيرة وامتدادهما إلى بلاد النهرين، على أن تخزن ما يلزمها من مواد أساسية تطبخها لأهلها ولكل مكوناتها الاثنية التي وفدت إليها رغبة وطواعية، أو لجأت إليها هربا من مجازر وحروب ومجاعات كالأرمن والأكراد والسريان والآشوريين والتركمان وغيره. دمجتهم حلب ضمن نسيجها الديموغرافي ودمجت كذلك مطابخهم الثرية مع مطبخها العريق، فأفرزت مكونا فريدا من نوعه اكتسحت شهرته الآفاق، لأن الحلبيين هم من أكثر من هاجر من سورية إبان الحرب العالمية الأولى في ما يعرف (بالسفر برلك)، حملوا معهم أسرار مطبخهم وأذاقوا العالم منها بعد أن استقروا في معظم بلدان العالم وبخاصة في دول أميركا اللاتينية، ومصر والسودان حيث يطلقون على كل أهل الشام اسم الحلبيين.
فقط في حلب توجد جمعية للذواقة هي عضو بالأكاديمية الدولية لذواقي الطعام التي تضم في عضويتها ملوك وأمراء ورؤساء دول وشخصيات نافذة، وإلى ما قبل 2011 كان أعضاء الجمعية يشاركون بالنشاطات الدولية لذواقي الطعام، ويؤرخون محليا كل طعام جديد أسوة بما فعله مؤرّخ حلب الشهير خير الدين الأسدي الذي أرّخ كل شيء عن حلب بما فيها أطايبها وعدد مثلا مئات الأنواع من "الكبة" والمخللات وغيرها، كما أن الفيلسوف أبو علاء المعري كتب في "رسالة الغفران" أن "طباخي الجنة هم من حلب".
عبر الأزمان، نشطت في حلب ثلاث ماكينات، ماكينة الصناعة التي تهدر نهارا وماكينة الطرب التي تجود ليلا، ولأن الطرب يخلق البهجة، حرص الحلبيون على إغناء سهراتهم بالأطايب وتفننوا بها. عرف عنهم الوفرة كل أيام السنة حيث آزرتهم البيئة فحفروا كهوفا حجرية تحت بيوتهم عرفت بـ"الجبّ" كمخازن لحفظ الطعام توازي درجة حرارتها صيفا شتاء حرارة الثلاجة الكهربائية الحديثة.
حرب المطابخ بين حلب ودمشق التي لم تخل من دعابة. لم تكن في حقيقة الأمر أكثر من حالة تعويض نفسية وبخاصة من السوريين في الخارج الذين يحاولون التنفيس بالكتابة عبر تنشيط ذاكرتهم واسترجاع الأجمل فيها كي لا تمحى. سرعان ما همدت مع بدء حرب كلامية أخرى عند بدء العملية العسكرية التركية التي أطلق عليها "غصن الزيتون" وقصف مدينة عفرين التي عرفت تاريخيا بأجود وأنقى شريان زيت زيتون يغذي حلب وعموم المدن السورية. وإن كانت حرب المطابخ انتهت من دون أن تخلف خلفها إلا منشورات افتراضية سيطويها "فيسبوك" مع الزمن، إلا أن العملية العسكرية التركية ومن يساندها، ستخلف خرابا كبيرا وأحقادا جديدة بين العرب والأكراد والأتراك، وانقسامات جديدة لن تنتهي بين السوريين أو تسوّى لا في سوتشي ولا جنيف، ولا حتى في هونولولو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)