بقلم محمد المحمود/ موقع الحرة
التاريخ ليس مجرد وقائع وحوادث، تلاشت وذابت، فاختفت في تيار الزمن الهادر، بحيث لم يبقَ منها إلا قبض الريح من الكلمات المسطورة في هذا الكتاب أو ذاك. التاريخ ذاكرة حية لا تزال ـ وستبقى ـ تصنع الحاضر/ المستقبل، أو تسهم في صنعه؛ إما بكون وقائع هذا الحاضر/ المستقبل هي ـ بصورة ما/ بنسبة ما ـ ثمرة مادية تخضع لمتتاليات التسلسل السببي للأحداث؛ وإما بما تفرضه القراءة المتأوّلة/ المتَخيّلة من نمط تصوّري يتحكم في وَعْينا، وبالتالي يتَحكّم في صناعة الواقع من خلالنا. وهنا، من حيث التأثير، لا يُشترط في الصورة الخاصة/ المتَأوَّلة/ المتَخَيّلة أن تكون متطابقة ما مع حدث فعلا في التاريخ؛ لأن درجة تأثيرها في واقعنا لا ترتبط بحقيقتها (من حيث وقوعها من عدمه)، بل بدرجة/ طبيعة تَمَثّلنا للمُتَصوّر الذهني عنها؛ فهو الذي يحكم علاقتنا بالواقع؛ من خلال علاقتنا بالتاريخ.
بناء على هذا؛ لا يمكن التعاطي مع التاريخ وقضاياه بوصفه ترفا، أو عديم الأثر؛ إذ كثيرا ما وَقَع في قبضة المؤدلجين، فأحكموا قبضتهم على الواقع من خلاله. كل الحركات الإيديولوجية التي تحاول الإمساك بالواقع؛ تبدأ من هناك، من التاريخ البعيد الذي يصنع ذاكرة الجماهير، الجماهير التي تصنع بتوجهاتها الكبرى حركة المستقبل.
لقد مارست الحركات الإسلاموية، ومن قبلها ـ أو من بعدها ـ الحركات القوموية العروبوية، أقصى درجة التحكّم في التاريخ. لقد قدمت تصورها الخاص المكتوب على إيقاع الاحتياجات الإيديولوجية في الراهن، فعمدت عن قصد أو عن غير قصد إلى تزييف وتزوير وتلوين التاريخ؛ لتؤكد ـ من خلاله ـ حقائقها التي تريد أن تمنحها طابع الحقائق الأزلية الحتمية بمنطق الاستمرار التاريخي.
يُعدّ الشيخ محمد قطب أحد أقطاب الفكر الإسلاموي السياسي المعاصر؛ هذا إن لم يكن الأكثر أهمية على الإطلاق في السياق السني، خاصة في المشرق العربي. وجهوده لم تتوقف عند ما كتبه مباشرة في كتبه التي أصبحت المرجع الأساس للتوجهات الإخوانية والسرورية (فضلا عن كونه المرجع الأساس لتفسير مقولات شقيقه/ سيد)، وإنما امتدت جهوده إلى صناعة مجموعات عريضة من المريدين الفِكْريين، سواء من تلامذته المباشرين الذين أشرف على رسائلهم في الماجستير والدكتوراه، أو من تلامذته غير المباشرين الذين كانوا يتواصلون معه ويأخذون توجيهاته مأخذ الجد بوصفها المرشِدة إلى صريح "الفكر الإسلامي الصحيح"!
من أهم الأوهام (المتأوّلة للتاريخ) التي اشتغل محمد قطب على ترسيخها، وكان لها دور في تزييف وعي المتأسلمين بالتاريخ، ومن ثم تزييف وعيهم بالواقع، مقولة: "الاستثناء التاريخي" التي لا تقود إلى شوفينية مَرَضيّة فحسب، بل تقود إلى ما هو أكثر ضررا. يقول محمد قطب: "ولا بد أن يتبين من الدراسة التاريخية أن حركة الفتح الإسلامي كانت كذلك حركة فريدة في التاريخ، ولا تقارن بأي حركة توسعية في تاريخ الأمم الأخرى لاختلافها عنها في الجوهر، وفي الهدف، وفي الآثار المترتبة عليها" (كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص27).
الإشكال في هذا النص ليس محصورا فقط في كونه يطرح "وَهْمَ الاستثناء التاريخي" كحقيقة يريد ترسيخها، بل في كونه يُحدّد النتيجة المفروضة حتى قبل أن يبدأ الدراسة. في تصور قطب: رؤية المتأسلمين لتاريخهم بوصفه استثناء لا بد أن تثبتها الدراسة. أي أنه يفرض الهدف الإيديولوجي ـ مسبقا ـ على الحقيقة التاريخية، فالدراسة ـ في نظره ـ يجب أن يَتَبّين منها كذا وكذا، وليست هي التي تفرض نتائجها البحثية لاحقا؛ كما تقتضي ذلك بدهيات المنهج البحثي.
إن التأكيد على (وَهْم الاستثناء التاريخي) يُرَاد منه التأكيد على (وَهْم الاستثناء الآني). لهذا يتكرر التأكيد على هذا الوهم التاريخي بصور شتى، وفي أكثر من مناسبة. يقول محمد قطب عن (أمة الإسلام التاريخية) التي يناضل لاستعادتها في الحاضر: "لقد أخرج الله هذه الأمة لتؤدي رسالة خاصة لم تُكلّف بها أمة من قبل، ولم تتهيأ لها أمة في التاريخ" (رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، ص121). كما يقول أيضا بعد عرضه مسيرة الفتوحات الإسلامية، أو ما تُسمّى كذلك: "ثم تَكوّن من البلاد المفتوحة تجمع فريد في التاريخ... لم يكن ذلك التجمع إمبراطورية كالإمبراطورية الرومانية أو الإغريقية أو الفرعونية في القديم، أو البريطانية أو الفرنسية أو الأمريكية أو الروسية في الحديث" (رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، ص162). وهو هنا إذ يجعل "الأمة الإسلامية" على هذه الدرجة من التفرد الاستثنائي، إنما يريد أن يجعلها تعمل خارج قوانين التاريخ. وهذا مقصود بذاته من ناحية الإيديولوجيا الإسلاموية؛ لأنها تدرك أن قوانين التاريخ (من حيث الفرق الهائل في القوة) لا تسمح لها بمواجهة العالم اليوم؛ فلا بد من "استثناء" في الحاضر يستمد مشروعيته من "استثناء" الماضي.
ولتأكيد هذا الاستثناء، ولمنحه درجة من القداسة التي تربطه بما يتجاوز وقائع التاريخ؛ يؤكد محمد قطب أن (الأمة الاستثناء) لم تكن لها أهداف أرضية في غزواتها/ فتوحاتها، بل أهدافها سماوية بالمطلق، فلا تستطيع الانكفاء في حدودها؛ لأن لديها تكليفا ربانيا بغزو العالم. يقول قطب بكل صراحة: "إن هذه الأمة ـ كما أشرنا مرارا من قبل ـ لم تُخْرَج لتعيش في حدود نفسها فحسب، بل لتكون قائدة ورائدة لكل البشرية، حاملة رسالة رسولها" (كيف نكتب التاريخ، ص190). إنه يُسقِط على حركة التاريخ في الماضي جملة تصورات مثالية متخيلة لا علاقة لها ـ فعليا ـ بما وقع في التاريخ، إنه يتصور المتعاليات النصية وكأنها هي التي حكمت منطق التاريخ الإسلامي عمليا. وهذا ما جعله يمنح أفعال البشر/ أسلافنا طابعا قدسيا. وهذا ما يفسره بقوله بعد كثير من التمجيد الذاتي لحضارة الأنا: "فكانت الأمة الفريدة في التاريخ التي طبقت المنهج الرباني في واقع الأرض، وعرضته للبشرية رائقا صافيا، تسري فيه أعمال البشر، مصبوغة بصبغة الله" (رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، ص139).
اقرأ للكاتب أيضا: زمن التنوير الآتي
هكذا يكتب/ يتأول محمد قطب التاريخ الإسلامي. وهكذا يُسقط عليه هموم الإيديولوجيا المعاصرة. ومن المؤكد أنه ليس وحده في هذا المضمار، بل سبقه كثيرون، ولحق به كثيرون أيضا. ولكنه يبقى صاحب التأثير الأعمق؛ لموقعه الاستثنائي في الحركة الإسلاموية المعاصرة، فكثير من المتخصصين في التاريخ صدروا عن تصوراته، أو اندفعوا في هذا الاتجاه الذي تزعمه؛ من حيث هو اتجاه يرضي غرور الأنا التي لا تزال تلعق جرحها النرجسي من زمن طويل.
أيا كان الأمر، يبدو أن مصيبتنا في مُفكرينا/ باحثينا أكبر. فمثل هذا التأويل التاريخي المعجون بهموم الأيديولوجيا الإسلاموية يعصف أحيانا بمفكرين وباحثين أكثر جدية وعمقا واستقلالا فكريا من محمد قطب وبقية مفكري الإسلاموية. وقد يصدمك أن تجد الباحث القدير/ رضوان السيد، وبعد تحليله الجاد لوقائع التاريخ الإسلامي الأول، يستسلم ـ دونما مناسبة ـ لهذه النغمة التي تستشعر الانتشاء بـ(الاستثناء التاريخي)، فهو يختم بحثه الجاد هذا بقوله: "ما أن جاء العام الخامس عشر لهجرة الرسول صلوات الله وسلامه عليه حتى كان المسلمون ينطلقون من بواديهم وأمصارهم فيكتسحون عالم الطغاة والمستكبرين حولهم مُخْرجين الناس من عبودية العباد إلى عبادة رب العباد، ’’إذ مَن لم يَغْزُ ولم تُحدّثْه نفسُهُ بالغزو مات مِيتةً جاهلية’’ ـ كما رووا في الأثر عن رسولهم صلى الله عليه وسلم. كانت هناك أمةٌ واحدةٌ، تمتلك عقيدة واحدة، ودارا واحدة، وسلطة واحدة، وتزحف لتحرّر العالم بعد أن تحررت بالتوحيد والوحدة" (الأمة والجماعة والسلطة، رضوان السيد، ص95). وهذا الكلام العبثي ـ لا البحثي ـ يتجاهل أن هؤلاء الذين اكتسحوا عالم الطغاة والمستكبرين أنتجوا ـ بعد فترة لم تطل ـ طغاة ومستكبرين هم أشد طغيانا واستكبارا، وما طغيان الأمويين والعباسيين وولاتهم ـ كالحجاج والقسري ـ بأقل من طغيان واستكبار الأكاسرة والقياصرة المهزومين.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)