حفل تتويج لين الحايك، الفائزة بالموسم الأول من "ذا فويس كيدز" عام 2016 (أرشيف)
حفل تتويج لين الحايك، الفائزة بالموسم الأول من "ذا فويس كيدز" عام 2016 (أرشيف)

بقلم رياض عصمت/ موقع الحرة 

نادرا أن وصلت الأمور إلى مستوى اليأس والإحباط اللذين بلغتهما شعوب العالم العربي في القرن الحادي والعشرين. أحداث مأساوية عديدة كبرى تتالت منذ أواخر القرن العشرين في سلسلة صدق معها قول شكسبير: "إن المصائب تأتي تباعا". كل حدث قاد إلى ما هو أسوأ منه، حتى تجاوزت الحال حدود الخيال، بحيث باتت روح الإنسان العربي تنوس بين المرارة والغضب. بدأت العتمة تحدق بالإنسان العربي منذ مطلع القرن الحادي والعشرين والنتائج الكارثية التي أعقبت 11 أيلول/سبتمبر 2001. أما عقب هبوب رياح "الربيع العربي" في عام 2011، وبعد تفاؤل متسرع بتغيير إيجابي نحو الأفضل، فقد تتالت خيبات الأمل وسرى عنف دموي اضطر أعدادا غفيرة من الناس إلى الهجرة حفاظا على السلامة بعد أن ضاعت الممتلكات والأرزاق، ولو اقتضى ذلك المخاطرة بركوب قوارب الموت عبر البحار أو التسلل بطرق غير شرعية إلى بلاد الغربة ليعيشوا حياة بائسة في ظل ظروف لا يستحقونها ولم يألفوها في حياتهم من قبل.

رغم كل هذه المآسي، ظهر في القرن الحادي والعشرين عدد من برامج المنوعات في محطات التلفزيون الفضائية صممت للترفيه عن ملايين المشاهدين في مشرق العالم العربي ومغربه. إنها برامج منوعات ضخمة تنتج في ستوديوهات هائلة الأحجام، مجهزة تقنيا بأحدث الإمكانيات المتقدمة، مع إطلالة باقة من أنجح النجوم الكبار وأحبهم إلى قلوب الجماهير. إعداد ذكي، إخراج متمكن، تقديم بارع، تصوير متقن وعزف موسيقي رائع، تضافرت جميعا لإنجاح هذه البرامج في زمن ندر فيه الفرح وغابت الابتسامة. نذكر نماذج مثل "سوبر ستار"، "أراب آيدل"، "آراب غوت تالانت"، "ذا فويس"، "ذا فويس كيدز"، "ستار أكاديمي"، "آراب كاستنغ" وسواها من البرامج التي يتم شراء حقوقها عالميا من قبل بلدان ناطقة بمختلف اللغات، لكن ما سنتوقف عنده خاصة هو "ذا فويس كيدز" (The Voice Kids).

يقضي المواطنون العرب من المحيط إلى الخليج أحد أجمل أوقات الأسبوع في متابعة هذا البرنامج، الذي يتابع موسمه الثاني مع لجنة التحكيم الثلاثية نفسها المكونة من الملحن والمغني العراقي القدير كاظم الساهر، المغنية اللبنانية اللامعة نانسي عجرم، والمغني ـ النجم السينمائي المصري تامر حسني. ثار جدل في برامج أخرى من قبل حول أعضاء لجان التحكيم، سواء خفة الدم أم السماجة، الذكاء أم التبجح، الاختلاف العلني الفج مع الزملاء أم الإسراف في المجاملة. أما النجوم الثلاثة الذين شكلوا لجنة تحكيم "ذا فويس كيدز" فأثبتوا نجاحهم ليس في الغناء أو التلحين أو السينما فحسب، بل فتنوا بحضورهم الشخصي الجذاب الجمهور العربي المتابع للبرنامج. دخل "ذا فويس كيدز" مرحلة "المواجهة" حيث يضطر كل عضو لجنة تحكيم أن ينتقي واحدا من أصل ثلاثة من فريقه المؤلف من خمسة عشر متسابقا. ما أصعبها من تجربة للأطفال واليافعين الذين يذرف بعضهم الدموع للخسارة! وما أصعبها أيضا من مهمة لأعضاء لجنة التحكيم الذين يضطرون لاختيار شخص واحد من ثلاثة ينتمون إلى فريق كل منهم! لكن ـ كما يقول المثل ـ "لا بد مما ليس منه بد،" وفي الحياة هناك ربح وخسارة.

ما هي إضاءات "ذا فويس كيدز" المشرقة وسط عتمة هذا الزمان؟ أولا، وحّد العرب رغم اختلافاتهم السياسية، إذ لم يكن ممكنا أن تفوز الطفلة لين الحايك في الموسم الأول بتصويت اللبنانيين لوحدهم، لولا أن صوّت لها كثير جدا من المشاهدين العرب من مختلف أبناء الأمة الكبيرة. ثانيا، أظهر البرنامج التنوع الثقافي في المجتمعات العربية، فكم شاهدنا من أطفال موهوبين يمثلون أقليات قومية وديانات وطوائف مختلفة وطبقات اجتماعية! وكم شاهدنا عائلات متحررة وأخرى محافظة يجمع بينها حب الموسيقا والغناء! ثالثا، أظهر لنا البرنامج وعيا رائعا ومبشرا لدى كثير من الأسر العربية التي ربت وشجعت أبناءها وبناتها على ممارسة الفن الراقي، متمثلة بالأم أو الأب، بالأخت أو الأخ، بالجد أو الجدة، وهذا يدحض بالدليل الساطع الفكرة التي يتم الترويج لها بهيمنة التطرف والتعصب والجهل على العالم العربي.

يبقى العنصر الأهم في البرنامج هذا الكم المدهش من المواهب اليافعة في الغناء، سواء باللغة العربية أم بالإنكليزية والفرنسية! مواهب قادمة من أقطار عربية شتى، بل أحيانا من دول الاغتراب، أدهشت جمهور المشاهدين فعلا. أظهر بعض الأطفال المشاركين في الموسم الثاني براعة في العزف على العود أو الكمان أو البيانو، بينما امتلك بعضهم موهبة الصوت الذهبي فقط. أطفال يضحكونك ويبكونك ويطربونك بحضور لافت وإجابات ذكية وخفة ظل، والأكثر من ذلك بأداء غنائي يضارع الفنانين المحترفين. حتى أولئك الذين لا يحالفهم الحظ بأن يستدير لهم بكرسيه أحد المحكمين الثلاثة ليضمهم إلى فريقه، يندر أن تجد بينهم طفلا أو يافعا لا يستحق تصفيق وإعجاب الجمهور. لا أريد أن أشيد بالفائزين، بل بمواهب بعض الخاسرين من العلامات المضيئة في الموسم الأول للبرنامج، وذلك كي لا أستبق الأحداث في منافسات الموسم الثاني التي بدأت تصفياتها في 2018.

بعد انتهاء الموسم الأول لبرنامج "ذا فويس كيدز"، هل ينسى أحد الطفلة العراقية ميرنا حنا التي أبكت وأضحكت ملايين المشاهدين بروعة أدائها وخفة دمها؟ هل ينسى أحد الطفل السوري عبد الرحيم الحلبي الذي لم يصل إلى النهائي، لكنه وصل إلى قلوب الملايين التي ذرفت الدموع لخروجه؟ هل ينسى أحد الطفلة التونسية نور قمر التي ألهبت البرنامج بأداء مدهش لأغنية أم كلثوم؟ هل ينسى أحد الطفل السوري زين عبيد بظرفه وصوته الهادر وابتسامته المتفائلة رغم المآسي والصعاب؟ هل ينسى أحد الطفلة المصرية زينب حسن وموهبتها الصوتية الفذة؟ هل ينسى أحد الصوت المميز والثقة الشديدة عند الطفل السوري أمير عموري؟

لا شك أن "ذا فويس كيدز" في موسمه الثاني لا يقل تميزا وروعة عن الموسم الأول. أطلت على الجمهور العربي منذ حلقاته الأولى مواهب مبهرة من مصر والعراق وسورية ولبنان وفلسطين وتونس والبحرين والمغرب وسواها جعلت أعضاء لجنة التحكيم يشيدون بها بحرارة ويتنافسون لضمها إلى فرقهم. لا شك أيضا أن فترة "المواجهة" اكتسبت ألقا جديدا بتنافس كل هذه المواهب اللامعة. أشيد أيضا بالروح الحنون الطيبة لكل من كاظم الساهر ونانسي عجرم وتامر حسني، الذين تعاملوا بحساسية مرهفة وتفهم عميق مع أولئك الذي خرجوا من المسابقة. أحزنهم ـ كما أحزن جمهور المشاهدين أحيانا ـ عدم الالتفات بالكرسي لطفل صغير، متسببا بجعله يذرف دموعا تقطع القلوب. رأينا أولئك الفنانين الثلاثة الكبار حقا بفنهم وإنسانيتهم يعانون من شعور عميق بالحزن والأسى، متمنين أن يعود الخاسر ليشارك من جديد في مسابقات الموسم التالي ليكون حظه أوفر. كرر كل من كاظم ونانسي وتامر مرارا: إن مجرد الظهور على مسرح ذا فويس كيدز، ونيل فرصة الظهور أمام الجمهور العريض المتابع للبرنامج عبر شاشات التلفزيون، هو بحد ذاته نجاح، وليس فشلا. لا بد أن نثني أيضا على الأداء البارع للفرقة الموسيقية المرافقة، التي عزفت ألحان الأغاني العربية والأجنبية، الكلاسيكية والحديثة، بشكل مثير للإعجاب فعلا. برنامج "ذا فويس كيدز" برنامج تلفزيوني استثنائي، لأنه يضيء شموع الأمل وسط الظلمة المحدقة بالإنسان العربي، يزرع الفرح في صحراء القلوب القاحلة، ويعيد الإيمان بما تملكه شعوب الأمة العربية من أسر رائعة شجعت مواهب أطفالها... براعم المستقبل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

مواضيع ذات صلة: