في أحد مساجد مدينة شنغهاي الصينية (أ ف ب)
في أحد مساجد مدينة شنغهاي الصينية (أ ف ب)

بقلم حسن منيمنة/ موقع الحرة 

إذا لم يحدث تحول مزلزل نحو المسيحية في الصين في العقود المقبلة (على ما تجهد من أجله سرا وجهارا مؤسسات تبشيرية عديدة)، فإن الإسلام، بكافة تعابيره، يسير نحو أن يصبح الدين الأول عددا في هذا القرن. بل بعض التوقعات ترى أنه سوف يرتفع إلى مستوى دين الأكثرية على مستوى الإنسانية جمعاء قبل نهاية القرن. ثمة معطيات لافتة للتو. فأهل السنة والجماعة، كمجموعة دينية، هم اليوم أكبر طائفة على وجه الأرض، إذ يزيد عددهم عن عدد الكاثوليك، أكبر الطوائف المسيحية، وإن كان المسيحيون لا يزالون، بإضافة الطوائف الأخرى، أكثر عددا من مجموع المسلمين. فإن السنة اليوم، نظرا إلى الارتفاع الهائل في التعداد السكاني العالمي، هم أكبر طائفة شهدها التاريخ على الإطلاق. والإسلام اليوم منتشر في كافة دول العالم، في أرجاء لم يسبق له تاريخيا أن بلغها. كما أن اسم رسول الإسلام "محمد" هو اليوم الاسم الأكثر شيوعا على مستوى العالم ككل. وباستثناء بعض المواقع، على أهميتها، كفلسطين وكشمير وتركستان الشرقية، ليست هناك شعوب ذات غالبية مسلمة ترزح تحت الاحتلال، بعد أن كان حال الغالبية العظمى منهم الاستعمار والاحتلال قبل قرن واحد، وإن كان لا يزال للعديد من السكان المسلمين، كما لغيرهم، في مختلف الدول مظالم تقف في بعض الأحوال بوجه مساواتهم بالحقوق والواجبات ضمن أوطانهم. ولكن المآسي التي يعاني منها معظم المسلمين، كما غيرهم، أصولها اقتصادية وسياسية وبيئية على الغالب الساحق.

إقرأ للكاتب أيضا: المطلوب هو الالتزام بالشرعية الدولية

ثم أن الثورة التعليمية ومن بعدها التقنية والتي طالت المجتمعات التي يحضر فيها الإسلام، كما غيرها، قد أتاحت إحياء واسع النطاق للتراث، أصبح معه كامل الموروث الديني والثقافي متوفرا على الفور لمن يرغب بالاطلاع عليه. يكفي على سبيل المثال كيف أن "المكتبة الشاملة" والتي أعدها أحد المبرمجين (ضامرا هويته خلف اسم "نافع")، وأتاحها مجانا للملأ، تضع على الهاتف الشخصي المحمول بلمح البصر ما كان طلبة العلم بالأمس يمضون أعمارهم بجمعه في مكتباتهم. ليس أن الكتب سواء كانت مخطوطة أو مطبوعة أو رقمية هي العلم بذاته، ولكن الواقع اليوم هو أن عبء الحصول عليها وكلفته قد انتفيا. والأمية على مستوى العالم أجمع تتراجع، ويشمل ذلك المسلمات والمسلمين، فيما المدارس والمعاهد الإسلامية تتكاثر وتنتشر في أصقاع لم تعرفها قط. والدخول في الإسلام يزداد في العديد من المجتمعات والثقافات، الغربية منها والشرقية، حتى حيث يتزايد العداء للإسلام والمسلمين. والخروج من الإسلام، حتى في المهاجر، لا يبلغ إلا نسبة متواضعة مقارنة بالدخول المتحقق فيها. والأهم هو أن المسلمين حيث هم الأقلية كما حيث هم الأغلبية يساهمون بدرجات متصاعدة في المسيرة الإنسانية نحو العلم والانتاج والترقي، بعد أن كادوا قبل عقود قليلة أن يقتصروا على الاستهلاك.

المسلم المطمئن هو الذي لا يخشى على دينه من اعتراض معترض أو عبث مخالف

​​فأية متابعة للأحوال الموضوعية للإسلام تدعو المسلمين دون شك إلى الاطمئنان. لماذا إذن يغلب على خطاب العديد من المسلمين هذا القلق والتشنج والبغض والحقد وإساءة الظن بكل مخالف؟ ليس المسلمين وحدهم بالطبع من تكثر في صفوفهم هذه المشاعر. بل عند مراقبة ما يصدر عن المحازبين في الولايات المتحدة بحق خصومهم، يظهر جليا أن هذه الظاهرة لا تقتصر على ثقافة أو دين أو مجتمع. فالمسألة هنا ليست مقارنة المسلمين بالغربيين، وإغداق المديح على هؤلاء وإدانة أولئك، إنما المعارضة بين مسلمي اليوم، وهم في أوضاع تدعو إلى الاطمئنان، ومسلمي الأمس، رغم أن أحوالهم كانت أكثر تأزما.

وهنا الاعتراض على ناقضي الموروث النصي من الذين يحملونه مسؤولية الإجرام المقزز الذي أقدم عليه تنظيم "الدولة الإسلامية" مثلا، أو الذين يربطون بين سلوك إرهابي وآية قرآنية أو فتوى لابن تيمية وما شابه. فهذه النصوص لم تكن مجهولة لدى علماء الدين على مدى التاريخ، ومع ذلك فإن المجتمعات التي يحضر فيها الإسلام بقيت على قدر مرتفع من التعددية حتى أمس قريب. والمسألة هنا ليست تلميع تاريخ هذه المجتمعات، فهو، كما تاريخ غيرها، حافل بالقسوة والظلم. ولكن، وإن رغب الفقيه أو المؤرخ من أهل الزمان الغابر، وهو الذي بلغنا أثره فيما ضاعت الأخبار التي لا تنسجم مع رؤيته، بأن يجعل من الشدة أساسا، فإن رغبته تصطدم بحقيقة أن المسيحي واليهودي والدرزي والنصيري واليزيدي، كما الزنديق والمنافق والملحد، كانوا ولا يزالون جزءا من الواقع في المجتمعات التي يغلب عليها الإسلام. ولو أن السعي إلى استئصالهم واجتثاث أثرهم، كان بالأمس كما هو اليوم، في أوساط الجهاديين بل لدى عموم الطائفيين والفئويين والذين يهيمنون على الخطاب الفكري والسياسي، لما بقيت لهم باقية بعد جيل أو جيلين من ظهور الإسلام. بل إن سرعة تصفية التعددية من أوساط المسلمين اليوم، بما يطال المسلمين أنفسهم لاختلاف المذهب والطريقة، يبين أن هذا المجهود، والذي يدفع بالمجتمعات إلى التآكل والأفول، هو بدعة مستحدثة.

إقرأ للكاتب أيضا: نيوم بين دبي وأوردوس

فقد لا يكون الحل، تحقيقا للاطمئنان الذي يستحقه القلقون من المسلمين، في السعي إلى صفاء واهم متسابق مع نفسه، فهو سعي لا يُبقي خارج الإقصاء إلا الشرذمة. وقد لا يكون الحل في الدعوة إلى الكفر ببعض الدين والطعن بالموروث وشتم العلماء، وهي دعوة لا تزيد القَلِق إلا قلقا والغاضب إلا غضبا وليس من شأنها البتة كسب من تزعم السعي إلى كسبه. ربما أن السبيل إلى بعض الحل هو في إدراك مدى البدعة في التطفل الشمولي على الدين والعودة به إلى ما كان عليه قبل هذا التطفل. وقد يكون هذا ما قصده ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في حديثه عن العودة إلى "الإسلام الحقيقي" ما قبل ١٩٧٩، وإن كان سعيه متفائلا بقرابة القرنين حول تاريخ ابتداء التطفل الشمولي على الدين في مجتمعه.​​​​

لا يتأذى الإسلام من نقد ناقد وطعن طاعن

​​المسلم المطمئن هو الذي لا يخشى على دينه من اعتراض معترض أو عبث مخالف. ويمكن استشفاف هذا الاطمئنان حتى في أوساط المتمكنين والمتشددين من علماء السلف. فالإمام مالك، على سبيل المثال، دعا إلى تحمل عناد الكفار، عسى أن يكون في ذريتهم من يدخل الإسلام. بل نسب إلى الجاحظ قوله إن من ينظر في شرع المسلمين صادقا يؤجر وإن لم يقبله.

لا يتأذى الإسلام، ولا أية عقيدة يثق أهلها بها، من نقد ناقد وطعن طاعن. بل يتحقق الأذى حين لا يمكن الاستماع إلى النقد إلا مع إسقاطه في خانة العمالة والتفسيق والمؤامرة. والدعوة هنا إلى التزام آداب المناظرة ليست كما يتهيأ للبعض تلقائيا سعيا مغرضا إلى التمييع ضمن مؤامرة للقضاء على الدين والمذهب، بل لو كان ثمة مؤامرة تهدف بالفعل إلى إسقاط الإسلام، فسبيلها الأنجع هو الإمعان في إقصار الرد على الاعتراض والتعامل مع الخلاف بالشتم والطعن والتسفيه.

ــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

مواضيع ذات صلة: