بقلم مالك العثامنة/ موقع الحرة
لم يكن سهلا عليّ معالجة الخوض في حقل علامات السؤال الكثيرة التي تركها زياد دويري أمامي بعد أن شاهدت فيلمه الأخير "القضية رقم 23"، والذي كان اسمه بالانجليزية أو الفرنسية بدلالات أكثر عمقا (The Insult) أو "الإهانة"، وهي أساسا محور الفيلم الذي بدأ بإهانة، تدحرجت ككرة ثلج حتى كبرت لتصبح قضية منظورة أمام محكمة، ومرافعات تحاكم تاريخ الحرب الأهلية في لبنان، لأتساءل بعد كل تلك السنوات وبعد مشاهدة الفيلم: إن كانت حربا أهلية أم إقليمية بنكهة عائلية؟
من مفارقات المشهد الذي عشته، أنني تابعت فيلم زياد دويري في صالة سينما في العاصمة البلجيكية "بروكسل" برفقة أصدقاء متنوعين: رجل دين مسيحي لبناني، وصديق لبناني من "حزب القوات اللبنانية"، وسوريون سريان وأرمن وعراقي سرياني وأنا الأردني.
لن أخوض في الحكاية المملة حول مقاطعة الفيلم، فتلك وجهة نظر لا أتبناها ولا أرى أهمية عندي للخوض فيها، لكن يستوقفني رد الممثل الفلسطيني كامل الباشا، وقد اتصلت به تلفونيا وحين سألته عما إذا كانت سنوات سجنه القصيرة شفيعة له أمام جمهور فلسطيني غاضب، فرد بنبل أخلاقي صادق أنه يستحي من ذكر "سجنه لمدة سنتين" أمام شعب لديه "أسرى ومعتقلون بأحكام مؤبدة ولديه فيض من الشهداء"، حسب قوله، لتصبح سنتا السجن مقارنة معيبة بحقه لا شهادة بطولة.
إقرأ للكاتب أيضا: ربيع أميركا الثوري: تكريس فكرة نعي التاريخ ودفنه في متحف!
لكن الفيلم الذي تم الإعلان أنه ينافس على جائزة أوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي، صار يلقى ردود فعل إيجابية، ناهيك عن أن كامل الباشا نفسه حاز على جائزة أفضل ممثل في مهرجان فينيسيا الدولي.
يتحدث الفيلم ببساطة، عن "طوني حنا" القواتي الساكن في حي مسيحي في بيروت، والمنحدر من بلدة الدامور التي تركها بعد المجزرة الشهيرة في الحرب اللبنانية، تلك المجزرة التي يقال إنها كانت ردا على مذبحة الكرنتينا، وأعقبها أيضا رد مباشر بعد سنوات بمجزرة صبرا وشاتيلا.
ويتحدث الفيلم أيضا، عن ياسر، المهندس الذي يشاء سوء حظه أن يقع بمشادة كلامية مع طوني في خلاف على مزراب ماء، فيوجه كلمة نابية إلى القواتي الغاضب من كل شيء والمغرم بالرئيس اللبناني الراحل بشير الجميل، ومن مريدي "الحكيم"، زعيم "حزب القوات اللبنانية" سمير جعجع.
لا تمر الكلمة النابية مرور الكرام. طوني يطلب اعتذارا من المهندس الفلسطيني، وحين يستعصي الاعتذار تتصاعد القضية إلى دعوى في المحكمة، وهنا تبدأ المحاكمة، وتنتهي إلى محاكمة خارجة عن سيطرة طوني وياسر، محاكمة تاريخ وذاكرة جمعية منقسمة ومتشظية.
كان لطوني نصيب كبير من الحوار، بينما كانت شخصية ياسر تلتزم الصمت وهو ما أداه ببراعة الفلسطيني كامل الباشا. كان صمته بكل هذا الاحتقان الغاضب تكثيفا جميلا ومبهرا وحزينا لمأساة الفلسطيني، بذات الوقت الذي كانت تحولات طوني الانفعالية تعبيرا صارخا عن تشظي في الروح. يجد طوني، المسيحي المخلص والمحب لزوجته "الرزينة"، في ياسر رمزا لكل ما خلفته الذاكرة بكل قسوة في روحه من ذكريات الهجرة البشعة من الدامور ذات يوم، فيتمنى لو أن شارون محا الفلسطينيين بالكامل.
رجلان كان يمكن أن يجتمعا على طاولة مقهى في عالم مختلف لو لم تجمعهما جغرافيا لبنان وذاكرة تلك الجغرافيا بكل أثقالها.
تتصاعد الأحداث، يدخل الجميع في دوامة الاتهامات حد العنف، وياسر كما طوني تتقاطع لديهما خطوط التوازي التي لا يمكن أن تلتقي أصلا. يلتقي الخطان المتوازيان في مشهد سوريالي حين تتعطل سيارة ياسر أمام قصر بعبدا، فيصلحها بعطف مغلف بالقسوة طوني وهو الميكانيكي الحاذق.
إقرأ للكاتب أيضا: إيران.. ثورة لم تنضج بعد على ثورة لن تنضج أبدا
الصراع بين المهندس والميكانيكي لم يكن وحده في الفيلم، لقد استطاع دويري بفيلمه المدهش أن يوظف صراعا لبنانيا ـ لبنانيا بين جيلين، بين شخصية محامي الادعاء مجدي وهبة والذي يسعى إلى تضخيم القضية إلى أبعد مدى يخدم رؤيته اليمينية المتطرفة، ومحامية الدفاع "نادين" التي سيظهر لنا خلال الأحداث أنها ابنته وتدافع عن موقفها اليساري المتوسط والإنساني.
زوجة طوني كما زوجة ياسر، صوت العقل الأنثوي على الطرفين، وتلك إشارة ذكية من زياد دويري الذي شاركه في كتابة النص للفيلم زوجته "جويل توما"، وأكاد أجزم أنها صاحبة الرؤية النسوية المتعقلة في الأحداث.
يطرح زياد دويري في الفيلم، وفي سرديته الأنيقة والذكية جدا، معضلة الاعتذار، لا في الاعتذار المنتظر من ياسر لطوني وحسب، بل في اعتذار الجميع للجميع عن كل شيء.
كامل الباشا، يؤكد لي عبر الهاتف من فلسطين أن الاعتذار ضرورة لطي صفحة الماضي، وأنه كفلسطيني يعتذر للبنان عن كل تجاوزات الثورة الفلسطينية، ويعتذر للأردن! لم يغفل دويري توظيف أحداث أيلول (أبيض أو أسود حسب رؤيتك عزيزي القارئ)، في مشهد المحاكمة وقد استحضر شخصية الطباخ في الجيش الأردني المقعد على كرسي متحرك قادما من عمان، ليحاكم مخرج الفيلم "زياد دويري" (والدته فلسطينية) الأردنيين بمشهد كان فيه من التجني ما يستلزم برأيي اعتذارا من دويري نفسه، وقد تبنى رواية المذبحة من طرف واحد.
لعل تلك برأيي، أكثر محاور الفيلم ملامسة لوجداني، وشكلت عندي أخطر ما طرحه الفيلم حسب قراءتي الشخصية.
لقد اعتذر ياسر الفلسطيني في النهاية، وقد تلقى ضربة مماثلة للضربة التي وجهها لطوني في بداية الفيلم على ضلعه، وحين تساوى الوجع لديهما، حين انكسر شيء ما بداخلهما بالتساوي والتعادل، قدم الفلسطيني اعتذاره وانسحب.
كان يمكن لهذا المشهد وحده أن يكفي ليكون نهاية جميلة للفيلم، لكن للمخرج دوما رؤيته الخاصة.
اعتذر ياسر لطوني، ولم يعد بالإمكان إطفاء النار خلفهما، كما وانتهت القصة مفتوحة على اعتذارات أكبر لم تصدر بعد، لا تزال تحمل تحت رمادها جذوات اشتعال محتملة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)