بقلم بابكر فيصل بابكر/ موقع الحرة
جماعات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، تعتقد أن لها وظيفة رسالية في هذا العالم تتمثل في نشر عقيدة التوحيد وإقامة الشهادة على الأمم الأخرى واستعادة دولة الخلافة التي تمثل من وجهة نظرهم الذروة في حمل الرسالة الإسلامية عقيدة ومنهجا إلى العالمين.
في هذا الإطار، دبر تنظيم الجبهة الإسلامية (فرع الإخوان المسلمين في السودان) انقلابا عسكريا بواسطة خلاياه في الجيش على نظام الحكم الشرعي الديموقراطي في حزيران/يونيو 1989، وفور تسلمه السلطة شرع في تطبيق برامج الأسلمة والتمكين القسري في أجهزة الدولة عبر طرح رسالي أطلق عليه مسمى "المشروع الحضاري".
الاتجاه الداخلي لذلك المشروع تمثل في إقرار الفصل التعسفي للآلاف من موظفي الخدمة المدنية غير الموالين للإخوان المسلمين، إضافة لتمكين الكوادر الإخوانية من مفاصل السلطة والاقتصاد والمال، بجانب قتل وسجن ونفي المعارضين، وإعلان الجهاد ضد الحركات الثورية المتمردة في جنوب السودان.
أما على الصعيد الخارجي، فقد انتهج المشروع سياسة معادية للقوتين العظميين آنذاك، أميركا والاتحاد السوفيتي، انعكست في الشعار التالي: "أميركا وروسيا قد دنا عذابها، عليّ إذ لاقيتها ضرابها"، وهو شعار يجاري أهزوجة منسوبة للصحابي جعفر بن أبي طالب الملقب بالطيار في معركة مؤتة يقول فيها: "والروم روم قد دنا عذابـها.. كافـرةٌ بعيدة أنسابـها.. عليَّ إذ لاقيتها ضرابـها".
إقرأ للكاتب أيضا: عودة الخلافة العثمانية
وبعد مرور حوالي ثلاثة عقود من الانقلاب العسكري وتبني ذلك التوجه زار الرئيس السوداني عمر البشير روسيا في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ليس لحربها أو ضرابها، ولكن ليطلب من رئيسها فلاديمير بوتين الدفاع عن بلاده وإقامة قواعد عسكرية روسية في السودان لحمايته من المؤامرات الخارجية التي يتعرض لها، حسب قوله.
ومن الناحية الأخرى، فقد ظل النظام السوداني يجري ويلهث وراء الإدارات الأميركية المتعاقبة طالبا رفع العقوبات الاقتصادية وشطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إضافة للسعي الدؤوب والمحاولات المستميتة لتطبيع العلاقات مع أميركا التي كان المشروع الحضاري قد دعا لضرابها!
وعلى صعيد الأداء الداخلي للنظام الرسالي، فقد ظل اسم السودان يشكل حضورا دائما ضمن أسماء الدول العشر الأكثر فسادا في العالم بحسب مؤشر منظمة الشفافية الدولية، وهو كذلك في مقدمة الدول الأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان، وبحسب آخر دراسة صدرت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي عن الجهاز المركزي للإحصاء، وهو جهاز يتبع للحكومة السودانية، فإن 25% من سكان السودان يعيشون تحت مستوى الفقر المدقع الذي تقدره الأمم المتحدة بـ 1.25 دولار في اليوم للشخص الواحد.
إن الفشل العظيم الذي أصاب المشروع الحضاري لم ينتج فقط عن سوء التطبيق بل كان وليد الأفكار المعطوبة والشعارات الخاوية، فالمشروعات الرسالية بطبيعتها الآيدولوجية لا تكترث للواقع بل تتعالى عليه. إن مجال التفويض في المشروع الرسالي ينتقل من الأرض (البشر) إلى السماء (الله)، ومعه تتحول الدولة من دولة واقعية إلي دولة ذات أهداف كونية.
وعي الدولة الرسالية في جوهره وعي زائف لكونه يتفتق عن وهم، وهم يُغيِّب العقل وما هو ممكن لصالح العاطفة وما هو مرغوب فيه، وتكمن خطورة هذا الوهم في عدم اكتراثه بالتفكير الاستراتيجي وفي رفعه سقف الطموحات لدى القائمين على أمر الدولة الرسالية وبما لا يتناسب مع الإمكانيات المتاحة والظروف الخارجية المحيطة بتلك الدولة، وهو في محصلته الأخيرة مشروع دائم ومفتوح للتوريط وخلق الأزمات.
إقرأ للكاتب أيضا: شيوخ الوهابية وتظاهرات السودان
الوعي الزائف هو الذي حمل أصحاب المشروع الحضاري على رفع شعارات غير واقعية تدعو لحرب أميركا وروسيا في آن واحد، وأوهمهم بأن السودان سيقود العالم الإسلامي في معركته ضد الغرب، فماذا كانت النتيجة؟ أزمات سياسية واقتصادية يأخذ بعضها بتلابيب بعض، وضياع ثلث الأرض والسكان بانفصال جنوب السودان، واستحكام عزلة دولية خانقة ما زالت الحكومة تسعى للفكاك منها دون جدوى.
يرتبط فشل المشروع الرسالي بمحاولة فهم الواقع من خلال مسلمات (شعارات ومقولات وقواعد فقهية) يتوهم دعاة الإسلام السياسي بأنها صحيحة وتستند إلى براهين غير قابلة للنقد أو النقض. ويؤكدون بأنها تشتمل على الحلول النهائية لجميع الإشكالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة، ولكن يفوت عليهم أن محاولة التفاعل الفوقي مع مجريات الواقع ستؤدي لفشل التطبيقات بسبب تصادمها الحتمي مع ذلك الواقع الذي يقع خارج حدود تلك الشعارات والمقولات اللاتاريخية والحاسمة.
إن الدولة الرسالية محكوم عليها بالفشل الحتمي حتى يتخلى دعاتها عن الإطار المفاهيمي اللاتاريخي الذي ظلت تطرحه مدرسة الإسلام السياسي، وذلك بتبني إطار آخر أشمل يوائم بين الديموقراطية والمقاصد الكلية للدين المتمثلة في الحرية والعدالة.
ولإنجاز تلك النقلة، لا بد من الفصل بين المجالين الديني والسياسي كخطوة أولى. ومن ثم يتوجب نقد الأفكار التي نهض عليها بنيان الإسلام السياسي كما أسس له حسن البنا، ومن بعده سيد قطب، وصولا للدكتور حسن الترابي، فالأول والثاني ـ على سبيل المثال ـ لا يؤمنان بالديموقراطية من حيث المبدأ، بينما الثالث يستخدمها بطريقة ذرائعية غرضها الوصول للسلطة.
حسن البنا يرى في الديموقراطية (نظاما تافها متداعيا)، وسيد قطب يؤسس لاستخدام العنف وتكفير المجتمع، بينما الترابي يعوِّل على قهر السلطة في إحداث التحول القيمي والأخلاقي في المجتمع، وهنا تكمن العلة، ذلك لأن الدولة في الأساس أداة إكراه، بينما لا أكراه في الدين، وكذلك فإن مشروع السلطة السياسية يقوم على المساومة والحلول الوسط والاختيار بين البدائل بينما الدين يقوم على الحقيقة المطلقة والحق الواحد، ولذا فإن التصادم بينهما أمر محتم ولا بد أن يسود في النهاية منطق الدولة المتمثل في القوة والاستبداد.
إن مجرد ربط الدين بالسلطة يعني إهدار معناه، ذلك لأن السلطة تفسد الأيديولوجيا (العقيدة) وهو إفساد ـ كما يقول جمال البنا ـ في طبيعة السلطة ولا يمكن أن تتخلص منه، وكل نظام يحاول الاقتران بالسلطة بقصد إصلاحها وتطويعها لا بد أن يقع فريسة لها وبدلا من أن يكون سيدها يصبح تابعها.
يتوجب على أهل الإسلام السياسي، إن أرادوا اللحاق بركب العصر، أن يعملوا على ترسيخ المفاهيم التي تؤدي للقطع مع الاستبداد بالمفهوم الخلدوني، وأن يسعوا لخلق خطاب ديموقراطي بديل مقصده ترسيخ الحرية كمبدأ حاكم، وإعمال العقل في الطرح السياسي، وهذا لا يتأتى إلا بالتخلي عن ثوابت خطابهم وأطروحاتهم، وفي مقدمتها فكرة المشروع الرسالي.
ــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)