بقلم حازم الأمين/ موقع الحرة
المزاج الثأري الذي حرك رد الفعل الروسي على إسقاط طائرة الـ"سوخوي 25" في سماء إدلب في سورية، كشف عن انعدام حيلة موسكو حيال "سر الصاروخ" الذي أسقط الطائرة. وموسكو إذ تصرفت على نحو انتقامي، اختارت السكان المدنيين هدفا لرد فعلها، وهذا ليس دأب الساعين لمعرفة هوية الفاعل، الذي وعلى رغم إعلان جبهة النصرة مسؤوليتها عن إسقاط الطائرة، ما زال مجهولا.
الطائرة أسقطت بصاروخ أرض جو، وإذا كان الصاروخ من نوع "سترينغر"، فهذا قد يعني أن انقلابا كبيرا في الوضع الميداني ستشهده سورية قريبا. ويُعزز هذا الافتراض واقعة الطائرات المسيرة المجهولة أيضا، التي استهدفت قبل أسابيع قليلة مطار حميميم العسكري والذي تستخدمه القوات الروسية في سورية. ذاك أن خبراء عسكريين قالوا في حينه إن هذه الطائرات غير متوافرة في الأسواق التقليدية، ولفت آخرون إلى أن الجيش التركي لا يملك منها.
لا تكفي هذه الوقائع لاستشراف الانقلاب، ويحتاج الركون إليها إلى مزيد من القرائن الميدانية. لكن أيضا، ثمة أمران يحرضان على الاستنتاج، الأول هو نوع رد الفعل الروسي، ذلك أن بوتين أراد أن يقول لأصحاب الصاروخ إن وسيلته للرد على عجزه ستكون باهظة الثمن، وهو بذلك ضاعف من صورة عجزه. والثاني أن المنطق يقول إن ترك الساحة له سيكون مكلفا على الجميع، لا سيما على واشنطن. وهنا، يمكن أن تختلف حسابات الإدارة عن حسابات المؤسسة العسكرية، إذ أن الأخيرة تقيس مصالحها وفقا لحسابات تتعدى في أحيان كثيرة قرارات الإدارة.
إقرأ للكاتب أيضا: الحب المستحيل بين حلفاء حزب الله
أن يكون الصاروخ من نوع "سترينغر"، وأن تكون "فتح الشام" قد تبنت عملية إطلاقه، فهذا مؤشر إلى وجهة في الوقائع تشبه في مسارها ما واجهه السوفيات في أفغانستان بفعل الـ"سترينغر" أيضا. لكن هذا أيضا، يدفعنا إلى احتمالات لا يمكن ضبطها في الواقع السوري اليوم. فالـ"سترينغر" كان أيضا الشهب الذي أعلن افتتاح زمن "الجهاد" مع ما جره هذا الافتتاح من ويلات لم ينج منها أحد. وهو إذ أصاب أولا الطائرة السوفياتية، فها هو الآن، إذا ما صدق التوقع، يكرر فعلته مع نفس الطائرة. وهذه الحقيقة تعيدنا إلى مراجعة توقعنا. فواشنطن لن تضع الـ"سترينغر" مجددا بأيدي "المجاهدين".
المشهد اليوم في سورية أكثر تعقيدا وأقل وضوحا من ذلك الذي كانت تعيشه أفغانستان في أواخر سبعينات القرن الفائت وبدايات ثمانيناته. تركيا ليست باكستان، وهي اليوم أقرب إلى موسكو وأبعد عن واشنطن، والأنظمة العربية التي سارعت إلى إرسال "مجاهديها" إلى بيشاور في ذلك الوقت تعيش اليوم أوضاعا صعبة على مختلف المستويات وهي ابتعدت عن الوضع السوري وصارت خارج حساباته تقريبا.
ثم إن المقلق في هذا الغموض هو أن هزم "داعش" خلف فراغا كبيرا لا أحد مرشح لأن يملأه أكثر من نسخ جديدة من الـ"مجاهدين" قد يكونون في طور الولادة، وقد يضاعف إسقاط المزيد من "السوخوي" فرصهم في الاستثمار في هذا الفراغ.
كل هذا يدفع إلى الاستنتاج أننا لسنا حيال ولادة ظاهرة الـ"سترينغر"، إنما حيال رسائل موضعية تهدف إلى إشعار موسكو أن وجودها "الهش" في سورية لا يكفي لأن يسلّم لها العالم بدورها وحيدة في النزاع السوري. فشل مؤتمر "سوتشي" كان مؤشرا على ذلك، وإسقاط الـ"سوخوي" أيضا وقبلهما الطائرات المسيرة الغامضة التي أغارت على حميميم.
إقرأ أيضا للكاتب: حنين غدار وقيس الخزعلي وستيفن سبيلبرغ
وموسكو إذ تصرفت في أعقاب سقوط الطائرة على النحو الدموي الذي تصرفت به، أطاحت بما كانت سوقته كإنجاز في رعايتها "الحل السوري". فما أطيح كان ما أطلقت عليه هي نفسها مناطق "خفض التوتر"، وهشاشة هذا الخفض هو صورة عن هشاشة الحل الروسي. قصفت الطائرات الروسية المدنيين في إدلب، لكنها أيضا قصفت "خفض التوتر" وقصفت مقررات "سوتشي" على هُزالها، وقصفت أكثر ما قصفت، موقع أنقرة في سورية، إذ أن إدلب لطالما شكلت عمقا تركيا في سورية وورقة بيد أنقرة لطالما ساومت عليها.
الأرجح أن الرسالة وصلت إلى موسكو، والأخيرة ستتصرف بموجبها على رغم الجرح النرجسي الذي خلفته في وجدان رجل الكرملين. إعادة الاعتبار لـ"جنيف" وإطفاء الأنوار في منتجع "سوتشي". أما اللعب مع طهران وأنقرة بوصفهما شركاء موسكو الوحيدين في مستقبل سورية، فهذا فيه استبعاد لقوى كبرى لا تستقيم أي تسوية من دونها.
ثمة من أراد أن يقول لموسكو إن "جنيف" تتسع للجميع، أما "سوتشي" فهي أضيق من "روج آفا" ومن حميميم.
ــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)