بقلم حازم الأمين/ موقع الحرة
ربما حان الوقت لأن نباشر بكتابة قصة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش". حاولنا في السنوات السابقة فعلها، لكن عناصر في الحكاية لم تكن كلها بحوزتنا. بين أيدينا اليوم عشرات القصص. الروايات كانت تنقصها الوجوه، وحكايات الالتحاق كانت تُروى وفق التوقعات، وبعض يقوله الأهل والمعارف والأصدقاء. اليوم صار الوصول إلى الحكاية متاحا.
نملك اليوم خريطة موثقة لمئات الحكايات عن الملتحقين بالتنظيم. لكنها حكايات خرساء، يعقب سماعنا إياها صمت، ولا يُبنى عليها تصور لما جرى، وهو إن بني، لا يُبنى عليه مقتضاه. ما تم توثيقه مثلا هو أن تركيا كانت بابا مفتوحا على نحو واسع لأشرار "الجهاد". كل الروايات الموثقة تثبت ذلك. الوقائع وجوازات السفر ومضافات الانتظار في المدن التركية. وهذا لم يرتب على أنقرة شيئا. ومن بين ما تم توثيقه الدور الحاسم لمناهج التعليم في إنتاج قابليات لدى أجيال بأكملها في الدول العربية عموما وفي الخليج بشكل خاص، وهو أمر استمر بحيث استقدم التنظيم مع أمرائه "الجزراويين" مناهج التعليم نفسها إلى مدارسه في "دولة الخلافة". فكتب التعليم السعودية هي ما اعتمده التنظيم في بناء "أجياله"، وهذا بدوره لم يتحول إلى محطة للتفكير بمستقبلنا بعد القضاء على التنظيم في المدن.
الدور الحاسم لإيران في توسع التنظيم، في انهيارات الجيوش خلال تدفقه على المدن في العراق وفي سورية، أمر صار خارج تناولنا لما جرى. فطهران قررت أن تعطي فرصة لـ"داعش" لأن يتولى تمثيل خصومها. انهار الجيش العراقي أمام مئات من مقاتلي التنظيم في الموصل، وأتيح لـ"داعش" أن يدخل مدينة تدمر أكثر من مرة، وأن يتاجر في النفط. ومثل كل ذلك فرصة لطهران لتقول ها أنا ذا أواجه التنظيم الوحشي، وهي نجحت في ذلك، فانتصرت على عدو اختارت أن يكون له هذا الوجه القبيح، وانساق خصومها إلى حيث أرادت أن يكونوا.
إقرأ للكاتب أيضا: من أسقط الـ"سوخوي"؟
اليوم نملك ما لا يحصى من الحكايات المفضية إلى حقيقة الفشل الذي أنجب التنظيم. أنظمة الشر في كل مكان، والفشل يتوج الكثير من القصص التي تصلنا من السجون. فشل النظام الأمني الأوروبي، وفشل برامج الإدماج واستيعاب اللاجئين، وفشل أنظمة التعليم الغربية أيضا، والتفاوتات الهائلة بين مستويات التحديث وبين أسواق العمل. ما ورد أعلاه ليس مجرد أفكار واحتمالات، بل هي وقائع وردت فيما رواه "الجهاديون" عن أنفسهم.
ثم ماذا عن النساء ممن فاقت نسبة التحاقهن بـ"داعش" النسب المعهودة بالتحاقهن بجماعات العنف والتطرف؟ ماذا قدم لهن التنظيم، وماذا قال لهن بعد أن التحقن؟ اليوم تظهر الإجابات متفرقة، ولا يبدو أن ثمة جهدا يساعد على أكثر من فعل الإثارة الذي تخلفه الظاهرة.
مئات من المعتقلين والمعتقلات اليوم في السجون، والصحافة وصلت إلى معظمهم. ها هم القتلة ممن كنا نشاهد وجوههم في الفيديوات الصادرة عن التنظيم بين أيدينا، نكتب قصصهم كل يوم، ونعاين وجوها أخرى لهم. القصة التي كنا بدأناها في غرب لندن عن لاعب كرة القدم السوداني الأصل الذي غادر إلى الرقة وصور نفسه يذبح رهينة، صار بإمكاننا أن نكملها من سجنه في مدينة القامشلي السورية.
الآن حانت ساعة الحقيقة، لكن الجميع يخفي وجهه ويتجنب مواجهتها. "داعش" مستوعب أخطاء العالم، وها هي اللحظة قد حانت لنقف أمام هذه الحقيقة. الموسيقى عليها أن تفكر في أسباب ذهاب أبناء مذاهب منها إلى "الجهاد" وإلى القتل، فلدى "داعش" فرقة أطلق عليها اسم الـ"بيتلز" وعناصرها بريطانيون. وفي "داعش" نجوم رياضات أوروبية. هذا ما عليه أن يستوقف الرياضة، والمفكرين في الرياضة، فبين عناصر التنظيم نجوم عالميون في ألعاب القوى، وبينهم أعضاء في أندية الدرجة الأولى الأوروبية، وبينهم مشاغبون في الملاعب الانكليزية.
إقرأ للكاتب أيضا: الحب المستحيل بين حلفاء حزب الله
ثمة مساعي لتجاوز "داعش"، وللقول إن التنظيم مرحلة جرى تجاوزها والانتهاء منها. ثمة أحداث تصدرت أخبارها ما جرى. في سورية تجري وقائع توحي بأننا في مرحلة "ما بعد داعش"، واستحقاقات العراق دفعت التنظيم إلى ورائها. لكن التنظيم وما خلفه من بؤس وكوارث، مقيم في صلب الوقائع كلها بصفته حقائق باردة وثقيلة. الانتخابات في العراق ستجري في ظل مشهد مخيمات تضم ملايين من النازحين وآلالاف ممن يقبعون في السجون، وجميعهم يعيشون وقائع مثقلة بحكايات التنظيم. في سورية تجري حروب أخرى في عفرين وإدلب وفي الجنوب، وجميعها يسعى لأن يقول إن "داعش" صار خلفه، في وقت هو في صلبه.
الجميع يحاول أن يحجب وجهه عن المرآة خوفا من أن يرى فيه وجه التنظيم. الجريمة ارتكبها جميعنا، وربما اقتصر وجه الضحية على ذلك الطفل الذي أرسلناه إلى معسكرات أشبال "الخلافة". لا بل إننا مرتكبون على نحو أفظع مما ارتكبه مجرمو التنظيم ممن صوروا أنفسهم وهم يقدمون على الفظائع المصورة. فهؤلاء قتلة وسيواجهون العقوبات، أما نحن، الآباء غير المرئيين للتنظيم، فأبرياء بحسب مرايانا المهشمة. إيران بريئة، والخليج بريء وتركيا بريئة، والإسلام بريء، والنظام الأوروبي طارد الضعفاء بريء أيضا.
هذا الهروب الذي يمارسه العالم، سيكون وراء الكارثة المقبلة.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)