بقلم حسن منيمنة/ موقع الحرة
شهر شباط/فبراير في الولايات المتحدة هو شهر التاريخ الأفريقي ـ الأميركي، تخصص فيه الحصص الدراسية والفعاليات الثقافية لإبراز هذا الجانب الهام من ماضي البلاد وحاضرها والذي يشغله مواطنون تعود أصولهم إلى القارة الأفريقية.
والتركيز خلال الشهر، كما في عموم الثقافة السائدة هو على وجهين، الأول هو الإنجازات التي حققها الأفارقة الأميركيون، سواء في نضالهم السياسي أو في مساهماتهم العلمية والفنية والرياضية، والثاني هو بلوغ الولايات المتحدة درجة الاندماج والمساواة والتي يتوجب معها تجاوز الماضي الأليم. والواقع أن هذا التركيز ملتبس، ويحتاج إلى مراجعة في عمقه. وكما الحال في الولايات المتحدة، فإن عموم مجتمعات الشرق الأوسط بحاجة كذلك إلى مساءلة جديدة وجدية بشأن فصول من تاريخها قل أن تتطرق إليها.
خلف الكلام عن إنجازات الأفارقة الأميركيين كثيرا ما تتخفى مقادير من الأبوية الصريحة والعنصرية المرتبكة. يمتدح هؤلاء لأنهم حطموا أرقاما قياسية في مباريات رياضية أو حين تفيض الأندية بذوي القامات المهيبة منهم، ويثنى عليهم حين تطرب أنغامهم عموم المجتمع، حتى وإن اعترتها بعض البذاءة، ويجري البحث الحثيث عمّن يمكن إضافته منهم إلى سجل العلماء والمبتكرين، فتعلو الإشادة بزبدة الفول السوداني وكأنها الإنجاز الموازي لنظرية النسبية أو لتقنيات الصواريخ. وإذا دلت هذه الممارسات على أمر ما، فهو أن القناعة بتفوق العنصر الأبيض على هؤلاء السود ما زالت راسخة في هذا المجتمع. وأن الإطراء الذي يريده التقدميون البيض شاهدا على اعتناقهم المساواة إزاء مواطنيهم من ذوي الأصول الإفريقية يحاكي وحسب الكلام المعسول والذي يكيله الكبار على الصغار في السن.
أما الحقيقة الصعبة فمختلفة. لا جدوى هنا من التأكيد على المساواة القطعية والطبيعية لمختلف الأعراق، أو على غلبة التنشئة والتجربة على الوراثة النسلية، فهي من المتعارف عليه علما وعلنا، وإن تبين أن من ينحى إلى الرأي المناقض في الولايات المتحدة ليس القلة القليلة المتوقعة. بل الحقيقة هي التالية: الولايات المتحدة، هذه التجربة الفريدة والدولة الأعظم على مدى المكان والزمان، لم تسدد بعد المستحقات لمن بناها. وهي إذا كانت تستطيع أن تتسلح بمقولة أن الأرض لفاتحها وفق سنة التاريخ وأن أعداد السكان الأصليين كانت ضئيلة ابتداء، فإنها، وهي تعتنق العدالة وتقدس حق الملكية في شرائعها، عاجزة عن أن تدعي أن ما يتوجب للذين زرعوا وبنوا وشقوا وشيدوا قد سدد. فهذه حقوق مالية ومعنوية لا تنتفي بالتقادم.
إقرأ للكاتب أيضا: مسلمون بين الاطمئنان والقلق
أربعون مليون من الأفارقة اقتيدوا للعبودية والاسترقاق من قارتهم إلى هذا العالم الجديد، مات نصفهم خلال العبور الأوسط، والنصف الآخر سُخّر وعذّب وفتّتت أسره وروابطه ليخرج القامات المهيبة، نفسها، القادرة على الإنتاج. هذه الأعداد، لو قدر لها أن تبقى في قارتها لما شهدت ما شهدته من التفريغ والتفخيخ، ولو لم يمنع عنها العلم لما كانت ثمة حاجة اليوم إلى تبجيل زبدة الفول.
قد تنجو الولايات المتحدة اليوم من تبعات تهمة أنها استرقت وأذت، فهذه الأفعال بحق الأفراد في أيامها لم تكن من المحرمات، وكان تصنيفها للمستعبدين السود أنهم دون البيض في بشريتهم. أما وقد تبين فساد هذه المقولة وخبثها، فإن الرأسمالية التي تلتزم بها الولايات المتحدة تفتضي الإقرار بأن كل واحد من هؤلاء الأحرار المستعبدين قد خلف ميراثا، وهذا الميراث، مع تراكم الفوائد، هو دَين على كافة الأصول المادية لهذه البلاد، متوجب على كامل مواطنيها، من كان أجداده من مالكي العبيد، ومن جاء إليها بالأمس القريب وتجنّس بجنسيتها. فهذا الرخاء وهذه القوة وهذا الإزدهار بعضها من مال هؤلاء وأحفادهم الذين لا يزالون إلى اليوم يدفعون ثمن التثبيط والطمع والمحاولات المنقوصة والمبتورة للتنصل من تسديد الواجب. أشهر شباط/فبراير عديدة سوف تمر قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من أداء ما عليها.
هي مسائل تطرح في هذه الولايات المتحدة. أما ما يقابلها فيكاد أن يغيب تماما في ثقافات الشرق الأوسط. عبور آخر أفرغ القارة الأفريقية، باتجاه الشرق وحواضر العالم القديم، بالتوازي مع ما جرفه العبور باتجاه الغرب. على مدى قرون طويلة لم تطوَ صفحة العلني منها إلا في العقود القليلة الماضية، تعاونت مجتمعات الشرق الأوسط ودوله ودياناته على استنزاف هؤلاء "الزنوج"، والذين بجهل وخبث يضاهي ما شهده الغرب، جرى الطعن بإنسانيتهم.
نعم، ساوى نص الإسلام بين الأعراق، كما أنه منع المثلة بجسم الإنسان، وجعل من عتق الرقاب كفارة لبعض الذنوب، ولكنه كذلك حلل السبي وجرم العبد "الآبق" الرافض لعبوديته. وإذا كان خصي العبيد محرم، فإن اقتناء العبيد المخصيين بقي مباحا، وعليه نشط الأطباء اليهود، والذين لا يحرم شرعهم الإخصاء، عند أطراف الديار الإسلامية لإنتاج الآغاوات إيفاء لحاجة المسلمين وغيرهم.
من رجال أفريقيا من شُوّه واستُعبد، أما بعض نسائها فكن ملك يمين وجَوار إلى أمس قريب. وهنا يكمن فارق هام بين التجربتين الشرقية والغربية في الاستيلاء على ناس أفريقيا. في العالم الجديد، حين اعتدى السيد على جاريته، كان طفلها عبدا يضاف إلى جمع العبيد، بياع ويشترى. أما في الشرق، فالطفل ولد لأبيه حر مثله وابن مجتمعه، وفق مقتضى القناعة والقاعدة، والجارية أم ولد تبقى أَمَة ولكن الاتجار بها يمتنع. ولسان الحال والذي يجب الإفصاح به في هذه المجتمعات الشرقية عامة والعربية خاصة، هي أن بعض أجدادنا قد اعتدوا على بعض جداتنا، فيما هم حرموا بعض أخوالنا من حقهم كرجال. وبهذا الفعل وذاك، استنزفت ديار لنا فيها صهر ونسب.
إقرأ للكاتب أيضا: معضلة التوفيق بين القصص الديني والتاريخ الوقائعي
الأفارقة الأميركيون جمع على حدة، وإن كان في فرزهم زعم نظري للتداخل المتحقق أبدا بين الأعراق. أما "الأفارقة العرب"، فمنهم من جاء حديثا من أفريقيا، كما في اليمن وعُمان، وهؤلاء يمكن إقرار بعض الفرز لأوساطهم، إلا أن غالب "الأفارقة العرب" ليس جمعا مستقلا، بل هو في الموروث النسلي لأكثر العرب، إذ يتمازج مع أصولهم العرقية المختلفة، ليظهر فيغلب في كل جيل حينا (كما في السودان وبعض العشائر في الجزيرة العربية وصولا إلى بادية الشام) أو ليضمر فيعود ويظهر بأوجه بعد جيل أو أجيال.
من شأن إفريقيا، والتي تشهد للتو الاستثمار والإنتاج والتقدم في مواقع عدة، أن تشكل حلقة هامة لاستيفاء الأمن الغذائي والمائي، والاقتصادي عامة، للعالم العربي المأزوم ابتداء نتيجة شحة موارده الحياتية، والمعرض للمزيد من الأزمات نتيجة التبدل المناخي.
والصناديق السيادية لعدد من الدول الخليجية، كما الجهات المستثمرة من أكثر من دولة شرق أوسطية تعمل للتو على إيجاد الفرص المناسبة على مدى القارة الأفريقية. قد يكون من المفيد، كي لا يقتصر هذا التواصل على الأبعاد الآنية، أن تراجع الثقافة العربية خاصة مكانة إفريقيا ودورها في تاريخ مجتمعاتها، وأن تعيد النظر بافتراض الانقطاع حيث التواصل والتلاحم كانا الأساس.
قد يكون من المفيد أن يكون شهر شباط كذلك شهرا عربيا للتاريخ الأفريقي العربي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)