بقلم محمد المحمود/ موقع الحرة
يبدو أن ثمة ملامح لمرحلة ليبرالية واعدة بدأت تدب في خلايا الجسد الخليجي؛ متساوقة مع الزمن الليبرالي العالمي الذي فرض نفسه ـ منذ نهاية الحرب الباردة ـ كمشروعية دولية لا يتنكر لها إلا من حكم على نفسه بالانعزال، ومن ثم، بالاندثار. وهذا لا يعني أنها مرحلة جديدة كل الجِدة علينا؛ فنظامنا الاجتماعي/ الاقتصادي كان ـ مذ بداية تشكله ـ يميل إلى المعسكر الرأسمالي الليبرالي في مقابل المعسكر الاشتراكي؛ بكل ما يتبع ذلك من خيارات انفتاحية في بعض مسارات الحياة، حتى وإن كان في الغالب مرتهنا إلى الرؤى التقليدية التي تشده إلى المحافظة، بل والانغلاق في مسارات أخرى.
هذا "الانفتاح الليبرالي"، الخافت المتواري قديما، واللافت المتوهج حديثا، يستلزم تضاؤل النفس العنصري، خاصة بعد أن زادت وتيرة هذا الانفتاح بدافع من عاملين أساسيين متعاضدين:
- ارتفاع مستويات التعليم الحديث والثقافة العصرية؛ مدفوعة بالوفرة المادية التي مكنت كثيرا من أبناء هذه المجتمعات من استثمار فرص متميزة للدارسة في أرقى الجامعات العالمية، كما مكنتهم من استيراد وتوطين التعليم الراقي في بلدانهم. وهذا انفتاح من طرفين على ثقافة العصر الليبرالية التي تقف ـ مبدئيا ـ على الضد من ثقافة الانغلاق العنصري، إذ بات من الواضح ـ على مستوى الوقائع العملية ـ أن المجتمعات الإنسانية، وعلى امتداد العالم أجمع، تتضاءل وتخفت فيها التحيزات العنصرية ذات الطابع الإقصائي؛ بالقدر الذي تتواصل/ تتثاقف فيه، وعلى نحو إيجابي، مع العالم الليبرالي المتحضر (= الغرب)؛ والعكس صحيح بطبيعة الحال.
- تدفق الأعداد الهائلة ـ من معظم الجنسيات ـ على دول الخليج للعمل والتجارة، بل والسياحة أحيانا، بحيث فاقت ـ في بعض مجتمعات هذه الدول ـ عدد مواطنيها. وهذا منحى انفتاحي، شأنه أن يعزز من ألفة المتنوع والمختلف، إلى درجة تطبيعه في الفضاء المجتمعي العام. ومعروف أن النفس العنصري يتعزز ويتقوى بكون المستهدف الغريب قليلا أو ضعيفا أو نادرا، وغير مُسْتَدْمج في الفضاء العام.
اقرأ للكاتب أيضا: الإسلاموية وأدلجة التاريخ
إذن، السياق المجتمعي لدول الخليج كان ـ ولا يزال ـ يسير من حيث العموم في مسار الخيارات الانفتاحية ذات الطابع الليبرالي. لكن، يبدو أن ثمة ملابسات كثيرة بدأت تدفع باتجاه تبلور نزعات عنصرية تضيق بالآخر من حيث هو آخر؛ حتى وإن تدثرت بمبررات اقتصادية، بل حتى وإن كانت هذه المبررات حقا؛ إلا أن "الكيفية" التي تطرح بها من قبل بعض الإعلاميين والكتاب الصحفيين تكشف عن مضمر عنصري يجد فرصته للتحقق واقعا في سياق هذا الظرف الاقتصادي.
لا يمكن تجاهل كون ترتيب أوضاع "الوافدين" في دول الخليج حقا للمجتمعات الخليجية. لكن، طريقة طرح الموضوع من قبل "البعض" بات يشي بنزعة عنصرية فاقعة؛ تبدأ من التنكير الصريح أو الضمني لما بذله ـ ويبذله ـ هؤلاء الوافدون في تنمية وتطوير بلداننا، وتنتهي بتحميلهم كل مصائب المجتمع الاقتصادية (وأحيانا غير الاقتصادية!). وهنا، يظهر من الإعلاميين والكتاب من يقول ـ بصيغة أو بأخرى ـ: "الوافدون مصيبتنا". وهذا منطق عنصري يذكرنا بالعنصري الألماني بول أنطون دي لاجارد (1827 ـ 1891) الذي كان من أشد المناضلين حماسة لنشر الأفكار العنصرية المعادية لليهود في القرن التاسع عشر (وكان يرى أن الليبرالية مؤامرة عالمية خطيرة!)، وكان يقول في هذا السياق: "اليهود مصيبتنا"!
خطر العصبيات العنصرية يلوح في أفق مجتمعاتنا. صحيح أن الأصوات العنصرية التي نحاول تبيان خطرها على مجتمعاتنا لا تزال ضعيفة وهامشية، وصحيح أيضا أنها فردية، سوقية/رثة، لا تستطيع حتى العبور من على جسر النظريات العنصرية الكبرى، كما أنها هامشية من حيث موقعها في السياق التنظيمي/ المؤسساتي، لكن لا يجوز تجاهل أن استشراء مثل هذه الدعوات ـ مهما كانت رثاثتها وسوقيتها ـ يمهد الأرضية لطرح أفكار عنصرية أو شبه عنصرية لمفكرين وكتاب لم يكونوا من قبل يمتلكون ولو بعض جرأة لطرح مثل هذه الأفكار. فالتسامح الشعبوي/ الجماهيري الذي تصنعه مثل هذه الدعوات، هو ما يفتح شهية الكتاب والمفكرين العنصريين الذين لم يظهروا بعد، ويمنحهم دعما معنويا يمكنهم من طرح أفكارهم دونما خوف أو خجل، بل قد يفتح لهم هذا التسامح الشعبوي أبواب الاستنفاع من هذا الطرح؛ فتزداد وتيرة المزايدة من هؤلاء وأولئك، إلى أن تصبح "الأطروحات العنصرية" سلما للترقي المجتمعي/ الوجاهة، أو الترقي المادي/ التجارة، عن طريق المتاجرة بعواطف الغوغائية الجماهيرية، في مجتمعات لا تزال تستنبت أساسيات/ بديهيات حقوق الإنسان.
مشكلة الجماهير/ الثقافة الجماهيرية أنها لا تدرك الخطر مهما عظم؛ إلا في صورته العينية المتحققة في الواقع/ المباشر. يغيب عن الوعي الجماهيري أن "الأفعال العنصرية المستبشعة" بدأت بأفكار ودعوات عنصرية تسامح معها المجتمع أو شجع عليها؛ لأنه لم يكن ـ لمحدودية الوعي النظري لديه ـ يتصور إلى أين ستنتهي. ولو أنه كان يتصور مآلاتها لرفضها منذ البداية؛ لأن "الحس الإنساني المشترك" الذي لم تطمس ملامحه الرؤى العنصرية بعد، لا يزال يحترم الإنسان من حيث هو إنسان؛ بعيدا عن التصنيفات الأخرى ذات الطابع الإقصائي.
اقرأ للكاتب أيضا: زمن التنوير الآتي
يبدأ العنصريون في اجتراح عنصريتهم وفيهم بقية من إنسانية تنبذ العنصرية، وينتهون ـ من حيث لا يشعرون ـ وهم يفاخرون بعنصريتهم التي كانوا سيرفضونها ابتداء؛ لأنهم ـ أو معظمهم ـ لا يعون المتواليات المرتبطة بما يطرحونه أو يتمثلونه من أفكار ورؤى. وهذا مرده إلى أن التفكير الجماهيري، من حيث هو "معاينة سطحية تبسيطية مباشرة" للأمور، مرتبط بالراهن والمباشر العيني، وغير قادر على معاينة ما يكتنف الظاهرة؛ قبلا وبعدا.
يلاحظ على أصحاب الدعوات العنصرية لدينا أنهم يغضبون حينما نصنف دعواتهم/ مناداتهم ضد "الوافدين" بأنها عنصرية. إنهم يستبشعون العنصرية، ويرونها انتهاكا لإنسانية الآخر، ومن ثم انتهاكا لإنسانيتهم إن قبلوا بها. وهذا شيء إيجابي من حيث المبدأ. لكن، لا بد أن نتذكر جيدا أن العنصري لدينا لا يعي أن كل عنصري يبدأ ـ في الغالب ـ رافضا للعنصرية، محاولا الهروب من هذا التوصيف بإضفاء صفات أخرى على دعواته أو ممارساته، فهي أحيانا "حل اقتصادي"، وأحيانا "وطنية"... إلخ. وبالنظر إلى التيارات/ الأحزاب العنصرية في الغرب، نجد أنها ـ في الغالب ـ لا تعترف بأنها عنصرية، بل هي تمارس الإقصاء ضد المهاجرين/ الوافدين، و"غير المندمجين"... إلخ؛ بدعاوى غير عنصرية في ظاهرها، كـ "الـحفاظ على الهوية الثقافية" أو "تخفيف البطالة" أو "درأ خطر النمو الديموغرافي للمهاجرين"!
ويلاحظ أيضا على العنصريين لدينا أنهم عنصريون عندما تكون العنصرية صادرة عنهم تجاه "آخر ما"، ولكنهم يرفضون العنصرية، بل ويشنعون عليها أشد التشنيع عندما تستهدفهم ولو بالقليل من سلبياتها. فثمة وعي انغلاقي منكفئ على نفسه ثقافيا، وثمة إعاقة حضارية (عجز عن تقبل الشروط الحضارية المصادمة للحالة البدائية الموروثة)، وثمة تأزم نفسي، فضلا عن تفكير اختزالي للوطن، تفكير لا يستطيع تمثل الوطن في الوعي إلا بوصفه "كعكة" يجري اقتسامها/ انتهابها (وليس فضاء عمل وبذل وإنتاج)، وبالتالي، لن يسمح لـ "الآخرين" بنصيب منها.
يبقى السؤال الأهم هنا: كيف يستطيع العنصري أن يتبصر عنصريته، كيف يدرك أنه ينحدر ـ ببطء، ودون أن يشعر ـ إلى قاع الرؤى العنصرية؛ خاصة وأنه قد يشعر ـ وبصدق على مستوى العقل الواعي ـ أنه يحامي عن أهله وعشيرته وشركائه في الوطن ضد الآخر الذي يحاول الاستئثار أو الاستغلال؟
الجواب ينبع من الذات، من الصدق مع النفس، فإذا كان "هذا العنصري" يجد نفسه في كل قضية يقف موقفا سلبيا من "الآخر" فليعرف يقينا أنه عنصري. فمثلا، إذا كان يغالي في الموقف الضدي من "الوافدين" في مجال الوظائف، وفي الوقت نفسه هو ضد من يطلبون التجنيس مِن أبناء بنات الوطن، وضد الاستثمار الأجنبي، وضد زواج المواطنات من غير مواطنين وزواج المواطنين من غير مواطنات... إلخ، فهذا ليس رأيا محايدا في قضية محددة (والرأي المحدد هنا طبيعي، وليس عنصريا)، بل هو موقف شامل يصدر عن وعي كلي "كاره لكل الآخرين" في كل الأحوال. وهذا الموقف الذي تنتظم أشتات قضاياه مشاعر الكراهية هو ـ بلا خلاف ـ جوهر/ منبع العنصرية التي يهرب الجميع منها، بينما يقع بعضهم في مستنقعاتها عن سبق إصرار، أو في لحظة تَوَهان فكري غير حميد.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)