بقلم جمال أبو الحسن/ موقع الحرة
صحا العالم في 6 شباط/فبراير الماضي على خبر مدهش: شركة خاصة، هي SpaceX نجحت في إرسال واحد من أكبر الصواريخ (فالكون هيفي) إلى الفضاء. يعكس الخبر فتحا اقتصاديا وتكنولوجيا بكل المعاني. في السابق كان الفضاء مجالا حصريا للحكومات. السبب هو التكلفة العالية لإنجاز المشروعات الفضائية، وما يرتبط بها من قدرات بحثية وعلمية نادرة لا تتوفر سوى للحكومات. في الستينيات من القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة تنفق 4% من الميزانية الفيدرالية على مشاريع الفضاء. اليوم، يوشك الفضاء أن يتحول إلى صناعة خاصة تقبل عليها الشركات والأفراد. هناك من يتوقع أن يكون أول "تريليونير" في العالم (أي شخص لديه ألف مليار دولار) أحد رواد هذه الصناعة الفضائية الوليدة.
قصة SpaceX، لصاحبها "إيلون ماسك" تجسد "روح الرأسمالية" أكثر من أي محاضرة أو كتاب يتناول هذا النظام الاقتصادي الذي يقف وراء المعجزات العلمية والتكنولوجية في عالمنا المعاصر. سيرة "إيلون ماسك"، المولود في جنوب إفريقيا عام 1971، تقول لنا الكثير والكثير عن كيفية عمل هذا النظام. تكشف عن السبب الذي جعل من الرأسمالية النظام الوحيد القادر على اجتراح تلك المعجزات.
بدأ "إيلون ماسك" حياته العملية بشركة صغيرة Zip2 من تلك التي ندعوها بالشركات الناشئة startups لإنتاج أدلة السفر للمجلات. اقترض رأسمال الشركة (28 ألف دولار) من والده. قام عام 1999 ببيعها إلى شركة Compaq بـ 307 مليون دولار. قام بعدها باستثمار الأموال في شركة تقوم بالعمليات البنكية على الانترنت Online Banking. ثم باع الشركة لـ eBay وربح 180 مليون دولار. وفي 2001 شرع في التفكير في وضع مستعمرات على المريخ!
اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: ما الذي يحركها؟ (1)
جوهر الرأسمالية هو الاستثمار المستمر. ذلك هو المحرك الرئيس الذي يدفعها إلى الأمام باستمرار.
الركن الثاني للرأسمالية هو الأفكار. "إيلون ماسك" يقول إنك لا بد أن تفكر فيما وراء ما هو معتاد، وأن تجد البيئة التي تكافئ هذا النوع من التفكير. التجريب عنصر أساسي في هذه العملية، والفشل أيضا! ليس غريبا أن يكون توماس إديسون هو المثل الأعلى لـ "ماسك". السبب ـ كما يقول ـ يكمن في أن إديسون نجح في نقل أفكاره إلى السوق، بينما فشل علماء آخرون ـ مثل "نيكولا تسلا" على سبيل المثال ـ في أن يفعلوا الشيء نفسه.
منذ عام 2001، وحتى الإطلاق الناجح للصاروخ هذا الشهر، خاض "ماسك" رحلة طويلة من التجربة والخطأ. من النجاحات الصغيرة والفشل المدمر. رأى أن السفر التجاري عبر الفضاء سوف يكون صيحة المستقبل. سيصير القفزة القادمة للبشر. أن يتحول بنو الإنسان إلى "جنس عابر للكواكب". إنها قفزة تساوي خروج أول الكائنات الحية من الماء إلى اليابسة!
هذا النوع من التفكير "رأسمالي" من الطراز الأول. تفكير ليس ببعيد عن روح المغامرة التي حققت القفزات الكبرى للبشرية في الأعوام الـ 500 الماضية. المسألة لا تتعلق فقط بالربح. "ماسك" قال إن الكثيرين حذروه من أنه على وشك أن يخسر أمواله في التجارب الفاشلة لصناعة صواريخ وإرسالها للفضاء. كان رده أن المكسب في حد ذاته ليس غايته. هو بالطبع يريد للشركة أن تصير مشروعا ناجحا، ولكنه لا يبحث في الأساس عن النشاط الذي يدر عليه ربحا مضمونا، وإلا كان اتجه نحو العقارات!
لاحظ أن "ماسك" هو ابن شرعي لثقافة "وادي السيليكون"، حيث يشكل الابتكار العنصر الرئيسي في منظومة اقتصادية تمثل قمة الرأسمالية المعاصرة. الابتكار يتولد من تصادم الأفكار وانفجارها، وانشطارها. يتولد من المغامرة المستمرة والشغف بالتجريب. مثلا: شاهد ستيف جوبز أفكارا مذهلة في "زيروكس"، من ضمنها فكرة "الفأرة" (Mouse) التي صارت جوهرية في الكومبيوتر الشخصي. لم تكن "زيوروكس" "رشيقة" بما يكفي لصناعة كومبيوتر بسعر مناسب على مستوى جماهيري. رأى "ستيف جوبز" هذا "الأفق الجديد" ماثلا أمامه، فما كان منه إلا أن اقتحمه. فكر في شيء قريب مما فكر فيه "ماسك": ثورة كبرى توصل الكومبيوتر إلى كل يد. "ماسك" بدوره فكر في أن يكون السفر عبر الفضاء نشاطا تجاريا، وليس حكرا على وكالة الفضاء "ناسا".
اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: أصل الفكرة (2)
جوهره ثقافة وادي السيليكون هذا التفاعل بين أفكار خلاقة في مكان محدود جغرافيا. قوة النظام الرأسمالي تكمن في أنه يوفر الفرصة لتحويل هذه الأفكار إلى واقع. هو نظام يكافئ الابتكار، بغض النظر عمن يقوم به. أغلب الشركات الكبرى التي نعرفها اليوم، بداية من HP وليس انتهاء بـ "آبل" و"مايكروسوفت" و"غوغل" بدأت في مرآب أو كاراج. في التسعينات، سأل أحدهم "بيل غيتس" عن الشيء الذي يؤرقه ويقض مضجعه فأجاب: "أن يكون هناك شخص ما يعمل في كاراج ما على تكنولوجيا لا نعرف بها في مايكروسوفت". حدث هذا بالفعل. في التسعينات كان الفتيان "سيرجي" و"لاري" يعملان في كاراج على تطوير شيء سيغير وجه تكنولوجيا المعلومات: "غوغل".
نعود لـ "إيلون ماسك"، أول شخص يرسل صاروخا "خاصا" في مدار حول الأرض. هو سعى لشراء صاروخ من الروس عام 2002. وجد أن السعر الذي عرضوه (9 مليون دولار) مبالغا فيه، وأن تكلفة المواد الأولية الداخلة في تصنيع الصاروخ لا تتجاوز 3% من السعر. قرر صناعة الصاروخ بنفسه وأنشأ SpaceX. أخفقت الشركة ثلاث مرات في تحقيق إطلاق ناجح للصاروخ، قبل أن تنجح في المرة الرابعة عام 2008. جوهر تفكير "ماسك" هو خفض التكلفة عبر استخدام الصواريخ أكثر من مرة. ما فعله هذا الشهر، يعبد أمام البشر طريقا مدهشا نحو عالم جديد شجاع!
ــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)