بقلم حسن منيمنة/ موقع الحرة
الهجوم التركي المجاني على عفرين، هذا الجيب المستقر في فوضى القتل السورية، يعيد إحياء جملة من الصور التسطيحية لماضي العلاقة بين تركيا وجوارها الجنوبي. فيتكرر لدى الشق الرافض للاعتداء، ضمن الإعلام والثقافة في المحيط العربي، استدعاء النعوت الطاعنة بالأتراك ولا سيما من خلال الإشارة إلى العثمانيين.
فما كان قد رسا، على مدى قرن كامل تقريبا، من التأكيد على أن الحقبة العثمانية تشكل "احتلالا" سابقا لما تلاه من استعمار وانتداب، بل على أكثر من صعيد استنزافا و"انحطاطا" يتجاوزان ما نجم عن الدخول الغربي إلى المنطقة، يعود اليوم إلى الظهور بعد أن انكفأ معظمه نتيجة اعتناق بعض الأحزاب والشخصيات في تركيا التسعينيات وما تلاها التوجهات الإسلامية، الظاهر منها والباطن. وهذا المد والجزر في التعامل مع الماضي العثماني القريب لمعظم المنطقة، وما يقابله في الثقافة التركية، والتي أقدمت في الفترة نفسها على ما يقارب القطع الكامل لعلاقتها بماضيها ومحيطها، يعمي المشترك بين كافة المجتمعات في المنطقة في بحثها عن التوفيق بين مقتضياتها الثقافية والسياسية المتواجهة. وقد يكون من المجدي الشروع بمقاربة جديدة تقر بالأصول العثمانية، ليس بالصيغة الحصرية طبعا، لمعظم الطروحات الفكرية والعقائدية السائدة في المحيط العربي وجواره.
فالقرن التاسع عشر شهد في الدولة العثمانية استفحال أزمة تقارب الوجودية في وطأتها. الدولة العثمانية كانت، وحسب، وريثة سلسلة طويلة من الممالك المركزية والسلطنات. بقي في الذاكرة الثقافية العثمانية منها الساسانية والإسلامية والبيزنطية، على التداخل والتلاحق بينها. والصيغة التي اعتمدتها هذه الدولة إزاء رعاياها، كسابقاتها، كانت قائمة على الجباية والنفير مقابل الحماية وقدر ضئيل على تفاوت من الرعاية. وفي استمرار للممارسات السابقة، فإن الدولة العثمانية قايضت الأقليات الدينية بأن أتاحت لها قدرا من الذاتية في إدارة شؤونها الداخلية بمقابل مالي ومقامي، أي أن المنة السلطانية استوجبت من الأقليات التسديد والرضوخ لسلطان الدولة بقدر ما فرضت عليها تحمل الإهانة والصغار من العموم.
ومع حلول القرن التاسع عشر، كان جليا لدى النخبة العثمانية (بلغتها التركية التي كانت حينئذ تحوي الفارسية والتي بدورها تحتضن العربية، وبأصولها العرقية المتنوعة) أن الأدوار قد دارت، وأن أوروبا المسيحية، والتي كانت خيول الغزاة العثمانيين قد بلغت حواضرها، قد انتقلت من الدفاع إلى الهجوم وأوشكت أن تطيح بالرجل العثماني المريض، بالحرب تارة، وبالرقي والنظم أطوارا. أي أن الوعي العثماني وصل إلى درجة إدراك أن نظام الإقطاعات والملل لم يعد وافيا للمحافظة على الدولة والسلطان، وأن تبديله أصبح متوجبا.
اقرأ للكاتب أيضا: هل انتصرت الطائفية؟
وإذا كانت الدولة العثمانية قد عاشت على مدى قرونها بقناعة ضمنية بأنه لكل من الشرع والقانون وظيفة في بناها، فإن القرن التاسع عشر شهد إقرارا عمليا باختلاف موضوعهما. فالأول، موضوعه العبادات بكامل الإطلاق والتقييد، كما المعاملات، مع غلبة التعميم على التخصيص؛ أما الآخر فموضوعه النوازل الخارجة عن أهلية شيخ الإسلام وعموم المفتين. الحداثة، وإن كان المصطلح لم يجترح بعد، كانت تطرق على أبواب الدولة المأزومة، وكان لا بد من الرد عليها. فكانت لها ثلاثة ردود.
الرد الأول هو السعي إلى الانتقال من الدولة القائمة على السلطة إزاء الإقطاعات والملل، إلى علاقة بين الدولة والأفراد، تشبها بما شهدته أوروبا، بما يستدعي ذلك من تنشيط لهوية عثمانية جامعة تربط الفرد بالسلطة (أو السلطان) دون غلاف المقاطعة أو الملة، وتبني هذه العلاقة على أساس الرعاية قبل الجباية. والمعادلة الجديدة تتطلب تلقائيا الإقرار بمساواة مبدئية بين الأفراد. ولم تكن الدولة العثمانية، ولا مجمل رعاياها من المسلمين، في واقع التسليم الفوري والكامل بهذا المقتضى، إلا أن "التنظيمات" التي أقرت في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وإن تعثر تنفيذها، تمثل السعي نحو التقدم في هذا الاتجاه. ونوايا الدفع باتجاه المساواة، إذ تجسدت في سلوك بعض الولاة، ومنهم مثلا مدحت باشا في بغداد وبيروت، فإنها أثارت لدى العديد من المتضررين ردود فعل معاكسة. ولا يمكن الفصل بين هذا المسعى وبين ما شهده جبل لبنان ودمشق بين أربعينيات القرن التاسع عشر وستينياته من قتل واستهداف للمسيحيين.
أما الرد الثاني، وإن جاء كذلك متمثلا بطروحات أوروبية، إلا أنه شاء التأكيد على خصوصية ذاتية من خلال قراءة التخلف المستجد على أنه عائد إلى التبديد القومي. فكان الطرح الطوراني والذي يرى بالعنصر التركي المادة الإقدامية في هذه الدولة المريضة، ويذهب إلى ضرورة تشديد صبغته، فكانت تركيا الفتاة، وكان الاتحاد والترقي بشعاراته البراقة بالحرية والعدالة والمساواة، وبأفعاله القاتلة بحق الشعوب التي تخرج عن معياريته. فبعد أن كان اضطهاد الأقليات مؤطرا بالسياق الديني الذي يسمح به إلى حد متبدل، أمسى الاضطهاد دون حد، وصولا إلى مجازر حافظ الناشطون الأرمن على ذكرى بعضها إلى اليوم، فيما ضاعت أو تكاد ذكرى ما عداها.
استدعاء الخصوصية كان كذلك مضمون الرد الثالث، ولكن ليس على أساس العصبية القومية، بل بناء على تجديد لمفهوم الأمة الإسلامية، ليتجاوز حدود الدولة العثمانية، وليستحدث سلطانها لقب خليفة المسلمين قاطبة، بتصور عقائدي يقابل تآكل سلطان الدول الإسلامية بالدعوة إلى انضوائها تحت لواء واحد. وكما كل من الردين السابقين، ما نتج عن هذا التصور البديل، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، كان كذلك إتاحة مضاعفة للقمع.
وبعد الطلاق الثقافي بين المحيطين العربي والتركي، وانغماس تركيا الجمهورية في القرن العشرين بفعل بتر للتاريخ والموروث، جاءت الطروحات في الإطار العربي لترى العروبة استرجاعا لمجد قومي طمسته شعوبية الحقبة العباسية، ثم لتقدم النموذج الإسلامي على أنه إحياء لمرحلة الخلفاء الراشدين، فيما استقر تصوير التجاوب مع الحداثة على أنه نتاج الدخول الأوروبي، حيث أوروبا ضمنا هي الفاعلة ومجتمعات المنطقة هي المفعول بها. وفي هذه القراءات، والتي تقفز على المرحلة العثمانية الأخيرة، بل تنعتها وما قبلها بالانحطاط، فعل اقتطاع يحاكي ما أقدمت عليه الثقافة التركية.
أما التصور الأقرب إلى الواقع، فهو إن الفكر القومي العربي عامة، والبعثي خاصة، هو محاكاة تكاد أن تصل إلى حد التطابق مع الطورانية التركية، فيما الطرح الإسلامي يعود مباشرة إلى القرن التاسع عشر العثماني، بتواصل صريح من جمال الدين الأفغاني ثم محمد عبده ثم محمد رشيد رضا ثم حسن البنا ثم سيد قطب ثم عبدالله عزام، وصولا إلى أسامة بن لادن وأبو بكر البغدادي. نعم، جرى "تأصيل" التوجه الإسلامي من خلال استيعاب التوجه المتشدد والذي كان قد أكده أئمة الدعوة النجدية، بناء على ما قدمه محمد بن عبد الوهاب للدولة السعودية الأولى، إلا أن الطرح الوهابي كان ولائيا، أي أن ورثته اليوم بشكله الكامل هم السلفية المسماة (رغما عنها) جامية ومدخلية، أما الجهادية، بثوريتها وأستاذيتها، فتعود بوضوح إلى القراءة الحداثية والتي تشكلت في السياق العثماني في القرن التاسع عشر.
اقرأ للكاتب أيضا: مساءلات بحق الأفارقة، الأميركيين والعرب
كل من الحداثة العربية، على افتقادها اكتمال الاستيعاب في الثقافة، والقومية العربية، والتي هبط نجمها، والتوجهات الإسلامية، في مسعاها التدريجي أو القطعي باتجاه الأستاذية والخلافة، ابتدأت بأشكالها المعاصرة في الزمن العثماني، والدولة العربية، في صيغتها الجمهورية المفترضة تتماهى، بأبويتها وانتقائيتها في تلقي الحداثة الغربية، بالتجربة الأتاتوركية، صاحب مقولة "من أجل الشعب، رغما عن الشعب"، وإن هي فشلت حيث حقق هي مقادير من النجاح. ثمة دولتين في المنطقة اختارتا الابتداء حيث توقفت "التنظيمات" العثمانية، وهما لبنان وإسرائيل.
أما إسرائيل، فاعتمدت الصيغة التي أنجزتها التنظيمات العثمانية، أي التحسين البطيء لما يمكن تسميته اليوم بمفهوم المواطنة، حيث الفرد مواطن في دولته. ولكن إسرائيل، كما الدولة العثمانية المجتهدة باتجاه الترقي إنما الفاشلة، تبقي على درجات من المواطنة. لدى الباب العالي، الصدارة كانت للمسلمين، وإن كان السعي نظريا إلى تحقيق المساواة مع الملل الأخرى. أما في إسرائيل، فالصدارة طبعا لليهود، وما عداهم على مساواة منقوصة.
أما لبنان، فبدا وكأنه ابتدأ حيث انتهت التنظيمات ومضى إلى الأمام، والرؤيا كانت أنه على الدولة أن تصبح، تقريبا، على مسافة واحدة من جميع الطوائف. ولكن الدولة الهزيلة والتاريخ السقيم دفعا بلبنان، بدلا من السير من التنظيمات قدما إلى تبديل الوجهة، واختيار الرجوع الصريح إلى الوراء. فبدل أن يسعى النظام السياسي في لبنان إلى تحقيق أولوية الفرد والمساواة وفق المقتضى الأول للحداثة، ينشط ويجتهد ويبتكر ليعزز دور الجماعات، أي الطوائف، على حساب الأفراد، وصولا إلى نظام لبعض الأفراد فيه أفضلية الضعفين بحجة "حقوق" الطوائف بالمساواة. فالطوائف هي الكيانات الاعتبارية التي تبذل الجهود لصون حقوقها، لا الأفراد، تماما كما كان الحال فيما سبق تنظيمات الدولة العثمانية.
يطلق في أدبيات المعارضين لتركيا على السياسة التركية نعت "العثمانية الجديدة". هي فعلا كذلك. ولكن هذه الصفة تنطبق على كافة أهل المنطقة، القوميين منهم والإسلاميين، وسائر المصارعين لحداثة لم تكتمل. الميراث العثماني هو فعل السعي إلى مواجهة ضرورة الانتقال من منطق الجماعة إلى منطق الفرد، والمنطقة بأكملها هي الوريث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)