بقلم دارا عبدالله/ موقع الحرة
في كتاب بعنوان "شبكات الأمل والغضب"، للباحث مانويل كاستيل، يشير فيه إلى ظاهرة ملحوظة في عالمنا المعاصر، وهي دور السوق، وراحة الذائقة العامة في تحديد الإنتاج وصياغة ملامحه وشروطه.
صار خضوع الإنتاج الثقافي، لراحة الذائقة وسهولتها، شرطا للانتشار والربح والشهرة والمجد (كتب والتر بينجامين بشكل أدق وأعمق عن هذا الموضوع). يقارن كاستيل بين شيئين، الأول، هو دور الذائقة الأوروبية العمومية المعاصرة، في صياغة الإنتاج الأدبي للوافدين أو القادمين الجدد، مهاجرين أو لاجئين إلى هذه المجتمعات، وإنتاجهم لأدب وفكر يتوافق مع التصورات المسبقة، والأفكار النمطية السهلة للقراء الأوربيين، هذه الأفكار والتصورات القادمة، غالبا، من الخطابات السياسية والثقافوية المكرسة.
الثاني، هو دور الذائقة العامة في وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصا في موقع فيسبوك، في بناء وصياغة الكاتب العام العمومي، الكاتب الجماعي، في ظل غياب وتلاشي الكاتب الفرد الخاص. إذ أن اعتياد الكاتب الفرد على الشهرة والانتشار، تجعله يدمن (وهناك أبحاث علمية تتحدث عن الإدمان على الشهرة في وسائل التواصل، ودرجة إفراز الهرمونات) على قول كلام لا يحقق له سوى الشهرة والانتشار، ويكون الكلام غالبا، مكونا، من أفكار شعبوية، طائفية وقومية، وأي شيء يمس الغريزة، بعيدة عن التعقيد والتشابك.
مع مرور الوقت، يصبح الكاتب سجين تصور قرائه، ويعبر الفردانية حيث النقد والمواجهة والندية، ببطء وتدريج إلى العمومية، حيث الشعبوية والمسايرة والاندغام غير المشروط. إذا نحن أمام حالتين متشابهتين، الكاتب المهاجر في الغرب، وخضوعه لشروط ذائقة القارئ الأوروبي، والكاتب على وسائل التواصل الاجتماعي وخضوعه لذائقة من يقرؤونه باستمرار.
ويحمل كاستيل، الذي يدرس حالة الربيع العربي ووسائل التواصل الاجتماعي، بشكل دقيق وواضح، مسؤولية انتشار الكثير من الأفكار الطائفية والشعبوية والكتابة غير النقدية، إلى المثقف "المدمن" الداخل إلى هذه اللعبة غير النزيهة، والفاقد على قدرة قول شيء مخالف، لا يحقق له نفس الدرجة من "المجد" والانتشار.
في المثال الأول، هنالك عدة نماذج من كتاب مهاجرين، هنا في ألمانيا، والذين يكتبون، باعتقادي، حكايات بسيطة وشعبوية وتفتقد إلى العمق وحتى إلى المصداقية أحيانا، وتناسب التصورات الأوروبية المسبقة عن الإسلام والعرب والمرأة العربية والشرق وكل هذه الخزعبلات. ليجرب أحدهم أن يترجم رواية راجت لمهاجر في الغرب إلى العربية، وليخضع للنقد الجدي، أعتقد أنه لن يصمد.
في المثال الثاني، هنالك حسابات السوريين على موقع "فيسبوك"، الكثير منا، لا يستطيع أن يحكي بأريحية نقدية عن كثير من المواضيع، لأنه يتعرض فورا إلى موجات من الهجوم والتسخيف والتجريح، هذا واقع نعيشه الآن.
الدعوات الثقافية التي توجه للكتاب السوريين، للحديث عن المنفى واللجوء والهجرة والوطن والحرب والألم والفقدان، كلها تنتهي في مصب خدمة المزاج العام. من جهة أخرى، أخمن أن المنفى مفهوم غير دقيق في الحالة السورية. سابقا، كان الخروج من البلاد يعني انقطاعا معنويا ونفسيا كاملا عن موطن الأصل، ودخولا جديدا مطلقا إلى عالم مختلف ومغاير. لكن، غالبيتنا، ما زالت عالقة حتى أخمص قدمها في الحدث السوري معنويا على الأقل. وفرت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، والشبكة الرقمية، اتصالا معنويا مستمرا وتفاعلا يوميا مع الحدث الدائر في المكان الأصل.
المنفى كمفهوم، يفترض انقطاعا وخروجا وليس اتصالا وارتباطا بالحدث المعنوي للمكان الأصل. كما أن مفهوم الوطن والهوية والبلاد بدأ يتغير بشكل جذري خصوصا لدى الشباب من جيلي. إذ أن الوطن فقد بعده المكاني المادي المباشر، وصار جملة من المعاني والأفكار والتصورات. لدي صديق ألماني، يشعر تماما بأنه في "منفى" لما يذهب إلى القرى النائية المحافظة في ألمانيا، والتي يغلب عليها الخوف من اللاجئين والإسلاموفوبيا. في حين يشعر فعلا بأنه في مكان يشبهه، وفي "وطنه"، في حي "كرويزبرغ" في برلين، حيث المهاجرون واللاجئون والفنانون والطلاب، والحركات اليسارية والمثلية والنسوية النشطة.
كما أن ثمة أشخاص متدينون محافظون من سورية، يشعرون فعلا بأنهم في منفى في الغرب. المنفى له علاقة باعتقادي، بمنظومة القيم المعنوية السائدة في المكان الجديد، وعلاقتها بقيم المهاجر. كما أن ثمة خلطا بين الغربة والمنفى. الغربة اشتياق وحنين إلى الأهل والأصدقاء والأقارب والأمكنة، أما المنفى، فدخول إلى عالم قيمي جديد مغاير ومختلف تماما. ثمة أوروبيون أتشابه معهم في التفكير، وأشعر بينهم فعلا بأني في "وطني"، وثمة أناس من بلدي أختلف معهم بكل القيم والتصورات، وأشعر بينهم بأني في "منفى".
المنفى كسردية كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي تحطمت تماما.
♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦
وأخيرا، سأختصر مسألة ما يسمى باندماج السوريين في الغرب، بالواقعة الآتية التي اندلعت في أحد المقاهي في حي "كرويزبرغ" في برلين. كنت جالسا بالقرب من طاولة يجلس على طرفيها لاجئان سوريان. كل الحديث، كان يدور حول الصعوبات البيروقراطية التي تواجههما أثناء تسجيل الأوراق في مكتب البحث عن العمل، أو ما يسمى بـ "الجوب سنتر". وهو مكتب يقوم بتقديم مساعدة اجتماعية للعاطلين عن العمل، مساعدة اجتماعية مقبولة كافية للعيش، علما أن تمويل هذا المكتب يأتي بدرجة أولى، من ضرائب المواطنين العاملين. أي أن العاملين يقومون بإعالة العاطلين عن العمل. الشابان السوريان كانا يتحدثان عن إفلاسهما المالي بسبب البطء البيروقراطي الألماني، ويتذمران من تأخير الموافقة. عندما قدمت نادلة المقهى، وهي عاملة تدفع ضرائبها، وسألت الشابين السوريين بخصوص حساب كؤوس الشاي: تدافع الشابان السوريان على دفع الحساب، وتقاتلا من يدفع الحساب أولا..
ــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)