بقلم حسن منيمنة/ موقع الحرة
المواجهة ليست بين الرأسمالية والاشتراكية. هذه تقول بأن الانتاج من صلاحية القطاع الخاص ودور الدولة هو التأطير وحسب. فيما تلك تقول بأن إطلاق يد القطاع الخاص، وإن بمقادير من التأطير يفتح الأبواب أمام الاستغلال ويعمق التفاوت في الدخل ومستويات المعيشة، فلا بد للدولة من دور فاعل في صلب الإنتاج وفي إعادة توزيع للدخل من خلال النظام الضريبي. والواقع أن الرأسمالية الصرفة ليس لها وجود في عالم اليوم، فيما الاشتراكية المفرطة، أي الشيوعية، قد أثبتت عقمها وتعارضها مع الصالح الاجتماعي حيث اعتمدت. فجميع الدول، بما فيها الولايات المتحدة، والتي دعت وما تزال إلى اعتماد الاقتصاد الحر، أي الرأسمالي، تتضمن جرعات من "الاشتراكية". بل المواجهة هي بين رؤيتين لموقع السيادة في النظام السياسي: هل السيادة للحاكم، أم هل هي للمواطن؟
الديمقراطية الصادقة هي المبنية على أساس أن المواطن هو السيد وأن الحاكم مفوض من المواطن لخدمته، ولأجل مسمى، وخاضع لمساءلته المتواصلة، ومقيد بأفعاله بالأطر المرسومة، والتي ليس من صلاحيات الحاكم تبديلها. أي أن المواطن هو رب العمل، والحاكم هو الموظف المولج بتأدية الخدمة والمسرح تلقائيا إلا إذا ارتأى المواطن التمديد له. والانتخابات الحرة النزيهة هي السبيل الأول، وليس الوحيد، لممارسة المواطن حقه باختيار الحاكم ومحاسبته. وحيث أن آراء المواطنين تختلف، فالانتخابات هي وسيلة الاستطلاع لجمهور المواطنين، وفق صيغة تعتمد الأكثرية العددية (سواء كانت مطلقة أو نسبية) وتراعي اعتبارات النظام السياسي المتوافق عليه. ففي الولايات المتحدة، مثلا، الشكل الاتحادي للنظام يفرض في الانتخابات الرئاسية اعتماد النتائج على مستوى الولايات، لا المجموع الصرف لأصوات الناخبين.
ومقابل النظام الجمهوري، وتحت مسميات مختلفة منها الصريح ومنها المدلس، يبرز النظام "القيادي"، حيث القائد، أو الملك، أو المرشد، أو ولي العهد، أو الريس، هو في موقعه ليس بفعل تفويض من المواطن، بل هو الحاكم أصلا وابتداء وعلى المواطنين، أو الرعية، أداء الطاعة والبيعة له. وإذا كان النظام الجمهوري أقرب إلى شكل مؤسسة أعمال، رب العمل فيها المواطن، فإن النظام القيادي أقرب إلى شكل الأسرة، رب الأسرة فيها الحاكم، تخاطبه الرعية ويخاطبهم بصفته الأب (أو العم) المستوجب للبر والطاعة وإن قسا.
فإذا كانت الانتخابات في النظام الجمهوري فعل تأكيد على سيادة المواطن، فهي في النظام القيادي بديلا مستحدثا عن البيعة المتوجبة على الرعية. وأشكال التوظيف للانتخابات، بصبغتها الديمقراطية المفترضة تتفاوت.
اقرأ للكاتب أيضا: من هو وريث الدولة العثمانية؟
وقد يكون النموذج الأكثر استقرارا و"إبداعا" هو الذي تعتمده إيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979. فبعد قرون طويلة من حكم الشاهنشاه، حل حكم الولي الفقيه، فلم يكن الانتقال من سلطة القائد المطلق إلى سيادة المواطن، بل إلى سلطة تزيد عن سابقتها في زعمها وإطلاقها، فإذا كان الشاه ملكا لملوك غابوا منذ أمد، فإن الولي الفقيه هو صاحب الولاية التشريعية وظل الحجة وقائم الزمان. ولكن في حين ترزح إيران تحت وطأة سلطة المرشد الأعلى المطلقة، فإن نظامها يزعم كذلك أنها جمهورية تشهد انتخابات رئاسية دورية يتنافس فيها المرشحون، ونتيجة الفوز فيها ليست محسومة مسبقا. أي أن إيران تقدم شكلا "ديمقراطيا" يستدعيه أنصارها عند الطعن بخصومها. أما الواقع، فإن باب الترشيح مغلق إلا أمام من اختارتهم المرجعية الدينية، فيما صلاحيات الرئيس المنتخب محصورة بالجوانب الإجرائية القابلة للنقض.
فإذا كان النظام الجمهوري الحقيقي يقوم على الإقرار بدور المواطن على أنه السيد الراشد، والنظم القيادية تفترض قصور الرعية وطفولتها، فإن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران يبدو وكأنه يغدق على الناخبين صفة المراهقة، أي لهم أن يشتركوا بالعملية السياسية، إنما شكليا وحسب، وضمن أطر وقيود تمنع جنوحهم. أما مقابل هذه المنة الأبوية، فعلى عموم الإيرانيين الإذعان لسلطة رجال الدين على دقائق التفاصيل والامتثال للمسعى الشمولي. فالانتخابات في إيران أداة تمويه وأداة تنفيس، التمويه لتحسين الصورة خارجيا، والتنفيس لتقديم ما يرضي البعض وإن بقدر محدود، بما يبدد طاقات الاعتراض.
أما في الإطار المشرقي العربي، فبعض الانتخابات هي ممارسة حق يراد بها باطل. الحق هو استفتاء الناخبين، أما الباطل فهو تزكية من هو للتو في موقع الغلبة. أشنع نموذج من هذا القبيل هو "الانتخابات الرئاسية" التي عقدها نظام دمشق في خضم المأساة السورية، والتي أذل في إطارها ضحايا القمع وأرغمهم على مبايعة رأس النظام في ظل شعارات تتعهد بأن بقاءه "للأبد" وتتوعد خلاف ذلك بإحراق البلد. هو أحرق البلد على أي حال، غير أن ثمة من يرى، ومنهم روسيا الاتحادية صاحبة الطموح بأن ترتقي إلى مصاف الدولة العظمى، أن هذه الممارسة القبيحة تضفي على النظام "الشرعية".
اقرأ للكاتب أيضا: هل انتصرت الطائفية؟
هي الشرعية كذلك ما تسعى إليه الحكومة المصرية في إطار الانتخابات المقبلة، ولكنها شرعية أبوية لا ترضى بالمعارضة، فتعتقل من تسول له نفسه تحدي الرئيس في المعترك الانتخابي، وتتعامل مع النقد على أنه خيانة. فالانتخابات هنا ليست للترجيح بين الخيارات المتباينة، بل إظهار وحسب للقدرة على التعبئة والحشد.
أما في كل من العراق ولبنان، فثمة مساحة ضمن النظام الانتخابي للتنافس، إلا أن التنافس في الحالتين كاذب وملغوم لصالح أطراف مهيمنة، تدعم كل منهما إيران في مسعاها المتواصل إلى تجيير النظم السياسية في أكثر من قطر عربي لصالحها.
في لبنان، استغلت إيران واقع الاحتلال الإسرائيلي، خلال القرن الماضي، لوضع اليد على المقاومة أولا، والطائفة الشيعية تاليا. وفي حين أن استيلاءها الشمولي على هذه الطائفة لم يتم، فإنها استفادت من تركيبة النظام السياسي في لبنان، والتي تشترط "الميثاقية"، أي ضرورة مشاركة ممثلين رئيسيين من جميع الطوائف الكبرى في القرارات السيادية، لفرض واقع مدعوم بالسلاح وباستغلال قابلية زعماء الطوائف على تغليب المصالح الخاصة على الصالح العام، للسعي إلى توطيد نفوذها من خلال الانتخابات المقبلة.
والواقع مماثل في العراق، حيث الشحن الطائفي، والسلاح الملتبس في ولائه، يفسح المجال أمام الدفع باتجاه نتائج تعكس القوة لا الخيار الحر للمواطن. إمكانيات خرق النتيجة المفروضة بالقوة واردة، غير أن هذا الخرق، إذ يعجز عن تجاوز الحجم الرمزي، من شأنه وحسب إضافة المزيد من الشرعية على نظام انتخابي غير قادر، من حيث إعداده، عن التعبير الصادق عن إرادة وطنية جامعة.
من إيران إلى مصر، مرورا بالعراق ولبنان وسورية، ليست الانتخابات معيارا للتقدم باتجاه النظام التمثيلي الصادق، بل هي في أكثر من حالة للسعي إلى تحقيق خلافه. طالما أن نظرة الحاكم إلى المواطن هي أنه قاصر، أو في أحسن الأحوال مراهق، قابل للتعبئة فيما الطاعة متوجبة عليه، وطالما أن هذا المواطن يرضى بهذا التوصيف، فلا جمهوريات صادقة هنا، بل قياديات، وإن بتسميات مختلفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)