بقلم رياض عصمت/ موقع الحرة
بعد مرور حوالي ربع قرن على ظهور نبوءات المفكر والعالم الأميركي فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ ومستقبل الإنسانية، يتساءل المرء وهو يراقب تطور الأحداث المأساوية في عديد من بقاع العالم: هل ما جرى ويجري أمر مخطط له مسبقا من قبل قوى خفية تتلاعب بمصائر الأمم؟ أم أنه النتيجة الطبيعية لأنظمة مهترئة أصابها الصدأ في قارات العالم المختلفة؟
في العام 1989 شعر كثيرون بالصدمة عندما نشر فوكوياما مجموعة مقالات في مجلة "إنترناشيونال إنترست"، ما لبث أن جمعها في كتاب في عام 1992 أسماه "نهاية التاريخ وخاتم البشر" (أو "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، حسب ترجمة أخرى). كان سبب الصدمة أنه عقب تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار ما يسمى بالكتلة الاشتراكية راود الأمل كثيرين في الدول النامية بأنه متى وضعت الحرب الباردة أوزارها سيحل محلها حوار حضارات بدلا من الصراع على النفوذ والهيمنة، فأصابتهم توقعات فوكوياما لما سيكون عليه المستقبل بخيبة أمل. بدلا من ذلك التفاهم والتعايش والوئام، تنبأ فوكوياما بانتصار ساحق للليبرالية الغربية، ملوحا في الوقت نفسه بتجمع غيوم سوداء لصراع مرير مع الأنظمة الاستبدادية التي اتهمها بالافتقار إلى المبادئ الآيديولوجية السامية، خاصة لدى تصديها للأزمات.
شبه فوكوياما شرعية الحكم في السياسة بالاحتياط النقدي التي يقي الحكومات من انتهاج سبيل العنف، وذلك قبل سنوات من رؤية الناس في الأفق لتلك الأزمات تتفجر فعلا في بلدان أوروبا الشرقية، ثم في عدة بلدان من الشرق الأوسط. في الواقع، كانت عينا فوكوياما تحللان واقع جنوبي أوروبا ودول أميركا اللاتينية والجنوبية وبعض دول آسيا أكثر مما كانت عيناه على شمال إفريقيا والشرق الأوسط. رغم هذا، هبت أصوات عديدة في العالم العربي تنتقد تصورات كتاب "نهاية التاريخ وخاتم البشر" وتفندها على أساس التمنيات الطيبة بازدهار حوار الحضارات بدلا من الصدام بينها، وأعترف أنني كنت أنا نفسي في عداد منتقدي تنبؤاته آنذاك. أكد المفندون ثبات الأنظمة في حين لمح فوكوياما إلى حتمية انهيارها المستقبلي وحلول الديموقراطية/الليبرالية محلها، لأن الإصلاح المنشود كان أملهم بحيث بدا لهم أن ما ينطق به فوكوياما هو محض خيال، وأنه مجرد تعبير عن رؤى يمينية متشددة ومحافظة، بل لم يستبعد بعضهم أن تكون مرتبطة بنظرية المؤامرة الشائعة في التفكير العربي خلال ما يزيد عن ستين عاما.
اقرأ للكاتب أيضا: قمر يوجين أونيل يشع على المحرومين
في الواقع، هناك جزء من نظريات فوكوياما لا يخرج عن إطار التكهنات حتى يومنا الحاضر، رغم أنه يدخل في مجال التمنيات الطيبة، بحيث لا يدري أحد على وجه اليقين فيما إذا كان سيتحقق أم لا في المستقبل البعيد. من جهة، يبدو تعلق فوكوياما بنموذج الديموقراطية الغربية طوباويا، لأن للديموقراطية تجلياتها المتعددة حسب مفاهيم أمم الأرض المتباينة وطبيعة شعوبها. منذ صدر الإسلام مثلا ترددت كلمة "شورى"، وهي تعبر عن شكل من أشكال الديموقراطية، لكننا لا نرى اليوم بالتأكيد تلك الشورى تمارس ضمن التنظيمات المتطرفة، ولا ضمن المناطق التي تسيطر عليها بقوة السلاح. ولا شك أن الشورى تلاشت مع مرور الزمن في ظل امتداد إمبرطوريات إسلامية جغرافيا في أصقاع الأرض الشاسعة.
من جهة أخرى، نجد شعوبا أخرى عديدة لديها أنظمة تتشبه بالديموقراطية الغربية في ظل وجود البرلمانات، في حين أن تلك الأنظمة تمارس بصورة مستترة إجراءات النظام الشمولي.
من جهة ثالثة، فإن صناديق الاقتراع الديموقراطية في بعض البلدان من العالم الثالث أوصلت بعض الفئات المتطرفة دينيا إلى الحكم، مما هدد بإعادة تلك البلدان خمسين سنة أو أكثر إلى الوراء. أما في بعض البلدان، فانتهى الأمر إلى حكم العسكر الذي لا يعترف بالديموقراطية مهما وضع مكياجها ولبس لبوسها.
من جهة رابعة، نجد أن الديموقراطية أزكت الانقسام الشعبي في بعض دول أوروبا والعالم الغربي نفسه بوصول اليمين المتشدد أحيانا إلى الحكم انطلاقا من شعارات طنانة أغرت الجماهير. أما بعض الأنظمة الأخرى التي تتزين بزي الاشتراكية فربما تمتعت بشكل ديموقراطي خارجي، لكنها رسخت ضمنيا الاستبداد والحكم البوليسي. بالتالي، فإن عديدا من جوانب نظرية فوكوياما تبدو غير مؤكدة حتى الآن، ولم يثبت بعد صحتها من بطلانها في عالمنا المتخبط فوق رمال متحركة.
اليوم، بعد مرور أكثر من 25 عاما على صدور مقولات فوكوياما وإنكار عديد من المفكرين والباحثين لها، نفاجأ بأن جزءا من نظرياته تحقق على أرض الواقع، وضمنها ما أطلق عليه جزافا اسم "الربيع العربي"، رغم أن مضاعفات ذلك الربيع المأمول في السنوات السبع التالية للعام 2011 تجعل من الأجدر أن يطلق عليه اسم "الخريف الدامي".
اقرأ للكاتب أيضا: الإعلام بين الالتزام والإلزام
لا أحد يدري على وجه اليقين فيما إذا كان الجزء الآخر من نظريات فوكوياما سيتحقق في المستقبل أم أنه سيكون مجرد أضغاث أحلام. لكن الإشارات الراهنة توحي بأنه سواء كان ما يحدث الآن هو نمو عضوي للمجتمعات البشرية الطامحة للتغيير وتحطيم الثبات في المكان أم هو جزء من مؤامرة عالمية الغرض منها إنهاك دول بعينها والعمل على تفتيتها وزرع الفرقة بين شعوبها، فإن اعتراض مسيرة التاريخ الحتمية في نهاية المطاف سوف يؤدي ـ لا سمح الله ـ إلى إراقة مزيد من الدماء، حدوث مزيد من الدمار، تنامي نزعات انفصال وتقسيم سوف تغير خرائط مناطق عديدة من الشرق والغرب على حد سواء، تفاقم الخلافات بين دول متجاورة كان يمكن لتعاونها أن يكون عاملا للتقدم والازدهار. الأخطر من هذا كله خلق شرخ روحي عميق في بنية الشعوب التي تقطن كل بلد من تلك البلدان التي تعاني من صراعات دامية.
قبل فترة، حاول فوكوياما تبرير مقولاته القديمة للعالم العربي والإسلامي، وصرح بآراء معتدلة جعلت كثيرين يعيدون النظر في أفكاره، التي حاول بها منذ عام 1989 قراءة المستقبل بكل ما يملك من بصيرة ومعرفة علمية واسعة أكثر مما قصد منها الدعوة لاتباع نهج عدواني وتسلطي وقسري إزاء دول العالم النامي، على أساس هيمنة القطب الواحد. مؤخرا، حاول فوكوياما تصحيح سوء الفهم لآرائه بأن نفى أن يكون رفض الحداثة أمرا متأصلا في الدين الإسلامي، ورأى بدلا من ذلك إن الإسلام ـ مثله مثل المسيحية والهندوسية والكونفوشيوسية وسواها ـ هو نظام مركب شهد تطورات متعددة عبر التاريخ، منوها بالنزعات الليبرالية في كل من تركيا ومصر وإيران خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. بالتالي، لم يعد أمرا مسلما به تفسير نظريات فوكوياما بأنها تزكي الصراع بين الحضارات، بل إن جوهر رؤيته هو أن العالم سيدين بالديموقراطية بالرغم من مقاومة بعض المجتمعات لهذا خشية من التهديد الناجم عن التحديث. علينا ألا ننسى، بالمقابل، في أن هذا ـ إذا صح ـ فإنه سيجري في نهاية التاريخ وآخر مرحلة للإنسانية.
سواء صدق القليل أم الكثير من آراء فوكوياما، فإن كتابه "نهاية التاريخ وخاتم البشر" يستحق إعادة القراءة على ضوء الأحداث التي عصفت بالعالم خلال سبع سنوات بدأت منذ أوائل عام 2011، وتجاوزت أحداثها أقصى حدود الخيال، ومن بينها أحداث "الربيع العربي"، أزمة أوكرانيا، سباق التسلح النووي، ظهور تنظيمات إرهابية غامضة المنشأ، والصراعات المتفاقمة ذات المنحى الطائفي البغيض، فضلا عن التنافس الاقتصادي المحموم الذي يهدد عديدا من دول الغرب والشرق والشمال والجنوب بالمديونية والكساد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)