بقلم محمد المحمود/ موقع الحرة
يعتمد عنوان هذا المقال على مفارقة صارخة في مستويين: مستوى المقولات النظرية، ومستوى التطبيقات العملية. فالمقولات الليبرالية التي تكتسب هويتها من انفتاحها على آفاق المتنوع الإنساني، هي ـ بالأساس ـ على الضد من المقولات العنصرية المنغلقة على محدودية الجزئي والفئوي والخاص. كما أن التحققات التطبيقية ذات المنحى الليبرالي، كانت، ولا تزال، تؤكد ـ على اختلاف وتنوع تجاربها ـ أولوية الإنسان، ابتداء بأولوية المسارات التحررية، وانتهاء بواجب الاستحقاق الحقوقي.
بناء على هذا، نجد أن توصيف "الليبرالي" بأنه قد يكون "عنصريا" يبقى مجرد دعوى تكذبها المقولات النظرية والتطبيقات العملية المنتسبة إلى الليبرالية؛ منذ بداية بزوغ نجم الليبرالية قبل قرنين تقريبا؛ وإلى اليوم. فالمرء إما أن يكون ليبراليا، وإما أن يكون عنصريا، ولا مجال للجمع بين متناقضين أشد ما يكون التناقض والخصام.
لكن، ماذا عن "الليبرالي" الذي يرفع عقيرته بأفكار/ مقولات/ دعاوى عنصرية، أو يتبجح ويفتخر بممارسات عنصرية، أو يدعو لها ويباركها، ألا يمكن توصيفه بـ "الليبرالي العنصري"، خاصة وأنها أصبحت "ظاهرة إعلامية"، تزداد كثافتها في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تغيب الرقابة ويتعذر الاستدراك التحريري؟
للجواب على هذا يجب أن ندرك حقيقة مفادها أن الليبرالية ليست صفة مستحقة بمحض الانتساب الادعائي، أو بالتسجيل/ الانتظام في حزب ليبرالي، أو بالتماهي مع تيار ليبرالي، أو حتى باقتطاف بعض المقولات الليبرالية في هذا المجال أو ذاك وتبنيها، وإنما هي صفة تتحقق ـ تحققا نسبيا على كل حال ـ بالصدور عن رؤى تحررية/ انفتاحية/ إنسانية، يمكن مقاربة تمظهراتها لدى هذا الليبرالي أو ذاك، في مستوى القول النظري، وأيضا في مستوى العمل التطبيقي.
اقرأ للكاتب أيضا: العنصرية في الزمن الليبرالي
إذا اتفقنا على هذا، يصبح من المؤكد أن ليس كل "ليبرالي" ليبراليا، أي ليس كل من يدعي الليبرالية يستحقها بمحض ادعائه لها. "الليبرالي" إذا ما وجد/ ضبط متورطا في مقولات أو ممارسات تنتقص من الحرية أو من الانفتاح الإنساني على الآخر أو من التسامح... إلخ المبادئ الليبرالية، تسقط عنه صفة "اللبرلة" بمقدار ما ينتهك من مبادئها. وهذا يعني أن ليس ثمة ليبرالي كامل الليبرالية؛ لأن الليبرالية ليست وصفة جاهزة وناجزة يحوزها المرء بالكامل بمجرد قرار أو إقرار أو إعلان، بل هي صفة مفتوحة لفعالية مرنة، تأخذ في التطور والنمو والاكتمال، وهي ـ في كل الأحوال ـ لا تتحقق إلا بمقدار.
وبما أنها صفة مفتوحة على التطور والنمو والاكتمال، وبالتالي على النسبية، فلا شك أن ثمة "خوارق" تنتهك التوصيف الليبرالي، فتصيبه بالقصور والضمور والتآكل. وبالنظر إلى المبادئ، كما بالنظر إلى السياق التاريخي، يصبح من المؤكد أن العنصرية بالذات تقتل الصفة الليبرالية من أساسها؛ فالعنصري هو شخص يقف على التضاد التمام المناقض والمناهض لكل القيم والمبادئ الليبرالية. العنصري ليس شخصا غير ليبرالي فقط، بل هو النقيض/ المضاد لكل ما هو ليبرالي؛ من حيث كون العنصرية تتضمن ـ بالضرورة ـ مبادئ التحيز والانغلاق والتمييز التي تنتهك شرط التحقق الإنساني.
وهنا يأتي السؤال الذي يلامس إحداثيات واقعنا العربي عموما، والخليجي خصوصا، وهو: لماذا يحاول بعضنا وصف نفسه بأنه "ليبرالي"، بل ويدعو ـ أحيانا ـ لبعض مبادئ الليبرالية بحماس شديد؛ بينما هو يصر على تبني الأفكار والرؤى العنصرية؟ هل هذه العملية ـ "الفصامية" كما تبدو ـ عملية واعية، أم هي مجرد تناقضات عرضية يمليها العقل اللاواعي جراء التوفر على مكبوتات ليس هذا مجال تفصيلها؟
في اعتقادي، هي عملية شبه واعية، أو هي واعية في بعض جوانبها، بينما هي غير واعية في جوانبها الأخرى. هذا "الليبرالي العنصري" لم يتمثل الليبرالية ادعاء عن قناعة أساسية راسخة بمبادئها، بل هو لا يعي اشتراطاتها ولا تحولاتها في التاريخ، كما لا يستطيع استشراف مآلاتها على المدى المنظور، وإنما كل ما في الأمر أنه وجد في "المنحى التحرري" الظاهر فيها وسيلة فعالة للتحلل من بعض قيود المحافظة الاجتماعية/ الدينية الراسخة. إنه يريد الليبرالية، ولكن ليس كمنظومة فكرية واسعة المدى، تتغيا الإنسان، الإنسان بالمطلق، الإنسان من حيث هو إنسان، وإنما يريدها فقط لتقديم بعض الأفكار المبتسرة التي يحاول توظيفها لخدمة نضالاته الهامشية المحدودة في صد هيمنة بعض المحافظين في بعض المجالات.
ليبرالية العنصري هنا ليست نفعية فحسب، بل هي جزئية، وقصيرة النظر، وأنانية أيضا. ولعل أهم خوارمها أنها ليبرالية في اتجاه واحد، إنها ليبرالية تريد أن تطلب وتأخذ لنفسها ولأبناء جلدتها ما تشاء، ولا تطلب ولا تريد أن تعطي غيرها شيئا، إنها تريد الحرية/ الحقوق/ الإنسانية لنفسها/ لبني جلدتها، بينما هي ـ في الوقت نفسه ـ تنادي بمنع هذه الحرية والحقوق عن الآخرين المختلفين في العرق أو الدين أو الجنس أو الوطن أو المذهب أو التوجه الفكري.
اقرأ للكاتب أيضا: الإسلاموية وأدلجة التاريخ
الليبرالي العنصري يطلب من حكومته أن توفر له كل ما يخطر على باله من حقوق وحريات إنسانية، بل ويغضب منها عندما تتريث أو تتردد في تحقيق بعض ما يتمناه في هذا المجال، لكنه ـ مع كل هذا التأكيد والإلحاح والاحتجاج بالحق الإنساني ـ يطلبها لنفسه/ لفئته/ مشاكليه فقط. والأسوأ من ذلك أنه لا يكتفي بأن يطالب بها لنفسه فقط، بل إنك تجده على الضفة الأخرى مستميتا في فعل مضاد، حيث هو ينادي ويطالب حكومته بحجب أكبر قدر من الحريات والحقوق عن الآخرين: "الوافدين"، "غير المجنسين"، "البدون"، "أبناء المواطنات"... إلخ الآخرين المختلفين!
وإذا كنت قد قلت في مقال سابق: العنصريون لدينا عنصريون عندما تكون العنصرية صادرة عنهم تجاه "آخر ما"، ولكنهم يرفضون العنصرية، بل ويشنعون عليها أشد التشنيع عندما تستهدفهم ولو بالقليل من سلبياتها، فيصح أن أقول هنا: الليبراليون المزيفون لدينا هم ليبراليون عندما تكون الليبرالية تمنحهم حقوقهم أو ما يتصورنه حقوقا لهم، بينما هم من أشرس أعداء الليبرالية (وهذا واضح في كتاباتهم، وخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي) عندما تريد هذه الليبرالية أن تمنح غيرهم من البشر الذين يعيشون معهم على أرض واحدة ولو بعضا من حقوق إنسانية هي من بديهيات الفكر الليبرالي.
أنا لا ألوم المحافظين الانغلاقيين؛ من متأسلمين متشددين، وعروبيين مأزومين، فهؤلاء متسقون مع منطقهم العام، إنهم انغلاقيون رافضون للحرية ولكثير من الحقوق، سواء كانت هذه الحريات والحقوق لهم أو لغيرهم، فهم يحرمونها على أنفسهم قبل أن يحرموها على غيرهم. هم يعترفون بذلك ويفتخرون به، ونحن نعرفهم بذلك ونؤنبهم عليه. هؤلاء واضحون ومبدئيون لا يلبسون لكل حالة لبوسها، بينما الليبراليون العنصريون يريدون أن تمنحهم دولهم كل ما تمنحه دول الغرب الليبرالي لمواطنيها؛ من دون أن يوافقوا ـ فضلا عن أن يطالبوا ـ على أن تمنح دولهم للوافدين أو البدون أو غير المجنسين... إلخ بعض ما تمنحه دول الغرب الليبرالي للمهاجرين والعاملين على أراضيها!
الليبرالية منظومة مبادئ وقيم، وكأية مبادئ وقيم لا يمكن أن تتجزأ؛ وإلا سقطت من الأساس. لهذا أقول: أيها الإنسان العربي التائه في عالم اليوم بين منظومة الانتماءات الأولية المتحيزة بطبعها من جهة، ومنظومة المبادئ الإنسانية العامة من جهة أخرى، لا يمكن أن تضع قدما على الضفة الليبرالية، بينما قدمك الأخرى على الضفة العنصرية؛ من أجل أن تستنفع من هذه ومن تلك في وقت واحد. أيها العربي، عليك أن تعي نفسك كإنسان أولا وقبل كل شي، وأن تدرك ـ تبعا لذلك ـ أن عالم الإنسان أصبح واحدا رغم تنوعه، وأن التهوين من المبادئ الإنسانية في مجال، يعني ـ على المدى البعيد/ اللامباشرـ التهوين منها في كل مجال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)