اعتصام مناهض للعنصرية ضد اللاجئين السوريين في لبنان (أ ف ب)
اعتصام مناهض للعنصرية ضد اللاجئين السوريين في لبنان (أ ف ب)

بقلم محمد المحمود/ موقع الحرة 

تقلقني أشد القلق مشكلة تنامي العنصرية في مجتمعاتنا التقليدية التي لا تزال ـ للتو ـ قد بدأت تبحث لها عن موضع قدم في فضاء الخطاب الإنساني المتنوع والمتسع باتساع العالم وتنوعه. تعترضنا هذه العنصريات البدائية التي تشاغب رحلة انفتاحنا الإنساني؛ بينما نحن لا نزال نعاني ارتباك البدايات الأولى/ الخجولة التي نحاول من خلالها البحث عن مرتكزات إنسانوية ـ ولو كانت خافتة أو واهمة ـ في تراثنا من جهة، وفي واقعنا المحدود من جهة أخرى؛ بغية التأسيس عليها من أجل بناء حوار تواصلي/ تثاقفي مع آخر تطورات الرؤية الإنسانية، ابتداء من الزمن الحداثي، إلى الزمن الما بعد حداثي.

انسياقا وراء هذا القلق؛ أجدني أطرح هذا السؤال المقلق: هل أنت عنصري؟ أو: هل أنا عنصري؟ لكن، لماذا هذا التساؤل الحائر أصلا؟ هل يجهل العنصري حقيقة عنصريته؟ هل تَلْتبس عليه تصرفاته بسبب صدورها عنه؛ فلا ترى الذات ذاتها بصورة واضحة، أم تَلْتبس عليه بسبب محايَثته لها، أم بهما معا؟ هل يفعل العنصري ما يفعل، ويقول ما يقول بصورة غير واعية؛ فيكون جهدنا هنا "محاولة توعوية/ إرشادية" لرده إلى عالمه الواعي؛ حتى يتبصر ذاته، أي حتى يعي تشوهاته في مرآة الآخر؟

في الحقيقة، نحن نحاول مقاربة كل هذا وأكثر؛ مما لا يتسع له المقال. لكننا نتعمد تسليط الضوء على زاوية نرى أنها هي الأهم في سياقنا الراهن. ومن هنا نقول: قد يعلم العنصري حقيقة عنصريته، قد يمارسها عن سبق إصرار واعتقاد؛ واعيا بخروقاتها للمبدأ الإنساني، بل وبحمولتها التدميرية للمجتمع الذي يحاول موضعتها فيه؛ منساقا وراء مكاسب ومنافع ذاتوية قصيرة المدى وقصيرة النظر، ولكنها شديدة الخطر. وفي المقابل، قد يكون العنصري غير واع بحقيقة أن ما يفعله يدخل في مسارات التعنصر اللاإنساني، فهو يرى نفسه ـ بمرآة نفسه ـ مجرد محب لذاته بصورة فطرية/ بدائية، مجرد متحيز بشكل إيجابي لدوائر انتمائه القريبة، الأقرب فالأقرب، مجرد محام ضد الآخرين؛ بدافع من تلك المحبة المحدودة والمختصرة والفقيرة واللاواعية للذات ولكل ما يتعلق بالذات.

من الطبيعي أن يرفض العنصري وصف نفسه بـ "العنصري. لكن، ليس معيار استحقاق التوصيف مشروطا باعتراف أو بعدم اعتراف المتصفين بها

​​العنصريون في مجتمعنا هم من النوع الثاني في الغالب، أي من العنصريين الذين لا يعون كونهم عنصريين، بل ويغضبون عندما يصفهم أحد بالعنصريين. ومن هنا جاء طرح السؤال: هل أنت عنصري/ هل أنا عنصري. فالعنصرية التي تطل بأعناقها اليوم في مجتمعاتنا هي ـ في الغالب الأعم ـ عنصرية غير واعية؛ مع كونها عنصرية حادة وصاخبة؛ على الرغم من رثاثتها وبدائيتها، بل وسوقيتها في معظم الأحيان.

اقرأ للكاتب أيضا: الليبرالي العنصري!

من الطبيعي أن تكون كل التوصيفات السلبية ـ والعنصرية منها ـ مظنة رفض؛ حتى من أشد المتصفين بها. من الطبيعي أن يرفض العنصري وصف نفسه بـ "العنصري. لكن، ليس معيار استحقاق التوصيف مشروطا باعتراف أو بعدم اعتراف المتصفين بها. المعيار هو حصول الموقف الضدي المتحيز تجاه الآخر، هذا الموقف المتضمن للكراهية ضرورة؛ حتى وإن اسْتَعْلنَ بمبررات وقائعية/ تجريبية يحاول أن يدرأ بها حد تصنيفه بـ "العنصري".

يستطيع الإنسان أن يتعرف على حقيقة مسلكه إذا ما أراد ذلك بحق. لكن ليس من خلال ربط هذا المسلك بالذات وعلائقها، فهو هنا لن يستطيع (لأنه جعل ذاته معيارا لذاته)، وإنما من خلال مقايسة مسلكه بما يجري في العالم كله، خاصة في العالم الأول/ العالم المتقدم/ العالم الحر، الذي هو ـ شئنا أم لم نشأ ـ مرجعية كونية باعتراف الجميع، سواء أكان اعترافا بلسان المقال أم اعترافا بلسان الحال.

في مكان نجد أن للعنصرية دعاتها وأنصارها المبررون لكل سلبياتها، بل الساعون لنزع الصفة السلبية عنها

​​لهذا، وكي تتضح الصورة بشكل أفضل، وحتى تعرف إلى أي الفريقين تنتمي؛ نقول: في معظم دول العالم هناك توجهان رئيسيان يتقاسمان مجمل الحراك الفكري والاجتماعي، ويتشعب منهما كثير من التوجهات التي تتفرد ببعض الخيارات الجانبية، غير أن تلك التوجهات مهما تشعبت فهي ـ في الفرز النهائي ـ تميل إلى هذا التوجه أو ذاك؛ بحكم غلبة التصورات ومصدر الرؤية في الأساس:

  1. توجه "ما بعد أناوي"، انفتاحي، إنساني، واسع الأفق، يرى أن الآخرين ـ على اختلاف أديانهم وطوائفهم وأعراقهم وبلدانهم وطبقاتهم الاجتماعية ـ ليسوا أعداء، بل هم مصادر إثراء. وهذا توجه يسود الغرب الليبرالي/ الإنساني في العموم، ويُعدُّ الخارج عليه – بعنصرية/ بتمييز/ بانتهاك لحقوق الإنسان – خارجا على السياق الغربي العام، بل يصل في أحيان إلى تجريمه بقوة المنطق القانوني.
    ​​
  2. توجه "أناوي"، ذاتوي، انغلاقي، عنصري، لديه توجس مرضي من كل المختلفين/ من كل الآخرين، كل بحسبه، وهو يرى أن الآخرين أعداء، أو كالأعداء، وبالتالي يجب الحذر منهم، واستبعادهم في أقرب فرصة؛ لأن ضررهم ـ كما يرى ـ متحقق بالضرورة، أي بضرورة اختلافهم. وهذا هو توجه الأحزاب والتيارات القومية والدينية المنتشرة في دول العالم الثالث/ النامي، كما أنه توجه الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرفة/ العنصرية، المنبوذة ـ أو شبه المنبوذة ـ في كل دول الغرب الليبرالي.

اقرأ للكاتب أيضا: العنصرية في الزمن الليبرالي

إذن، وكما هو ملاحظ هنا، العنصرية موجودة في كل مكان. نعم، في مكان نجد أن للعنصرية دعاتها وأنصارها المنافحون عنها، المناضلون في سبيلها، المبررون لكل سلبياتها، بل الساعون لنزع الصفة السلبية (= عنصرية) عنها؛ بمنح السلوكيات العنصرية توصيفات ذات مظهر إيجابي/ مقبول. لكن، يبقى ثمة فارق أساسي/ جوهري بين وجودها في عالمنا الثالث، ووجودها في العالم الأول، وهو أنها في العالم الأول/ الغرب الليبرالي غالبا ما تكون هامشية، منبوذة، محتقرة، مطاردة، بل هي مجرد استثناء شاذ خارج على السياق العام، بينما هي في العالم الثالث/ النامي تتسيد المشهد الثقافي والاجتماعي، بل وتتحول إلى مصدر فخر عند كثيرين؛ فتصبح قيمة اجتماعية عليا، يتوسلها الجميع، حتى غير المقتنعين بها؛ مزايدة من أجل القبول الاجتماعي/ الجماهيري.

إنك، وبإزاء هذين العالمين المتمايزين، تستطيع أن ترى نفسك، تستطيع أن تجيب على السؤال الذي يَتَعَنْون به هذا المقال: هل أنت/ أنا عنصري؟ إن كنت من الفريق الأول، فأنت ـ بخياراتك ـ لست عنصريا، لست عنصريا بمقدار تماهيك مع معايير العالم الحر المرتهن لحقوق الإنسان. أما إن كنت من الفريق الثاني؛ فأنت عنصري بلا شك، عنصري بمقدار ما ترفض الآخر وتتوجس منه، وبمقدار ما تنغلق على ذاتك/ على أبناء دينك/ أبناء وطنك/ أبناء مذهبك... إلخ؛ حتى وإن كنت تحلف أغلظ الأيمان أنك لست عنصريا، ولا تحب العنصريين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

مواضيع ذات صلة: