طردت بريطانيا 23 دبلوماسيا روسيا (أ ف ب)
طردت بريطانيا 23 دبلوماسيا روسيا (أ ف ب)

المصدر: قناة الحرة 

بقلم رياض عصمت/

أثارت محاولة الاغتيال بغاز الأعصاب، الأخطر سمية في العالم "نوفيتشوك"، التي وقعت في منطقة سالزبري بإنكلترا على المواطن البريطاني ذي الأصل الروسي سرغي سكريبال وابنته الشابة يوليا ضجة دبلوماسية وسياسية وأمنية أدت إلى استدعاء مئة عنصر من القوات المسلحة للتحقيق في الحادث الذي أدى أيضا إلى إصابة أحد عناصر الأمن المتفحصين لذلك الموقع بأضرار صحية بالغة.

سرعان ما أشارت بريطانيا إلى بصمات الاستخبارات الروسية، إذ ادعت أن روسيا هي الدولة الوحيدة التي استمرت بتطوير عقار "نوفيتشوك" في مختبر يقع في ضواحي موسكو خلال العقدين الأخيرين. لكن السلطات الروسية سارعت للزعم أن "نوفيتشوك" يطور أيضا في أربع دول أخرى هي جمهورية التشيك سلوفاكيا وبريطانيا والسويد، متجاهلة غياب أي دافع لتلك الدول في تصفية عميل مزدوج سابق.

ساهم العالم الروسي فيل ميرزايانوف في تطوير هذا الغاز المميت كسلاح يستخدم في صنع القنابل، وذلك حين كان يرأس مركزا يتبع لمعهد الأبحاث العلمية في الكيمياء العضوية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. لكن إفشاء سر ذلك السلاح المميت، الذي وصف كأخطر سلاح دمار شامل بعد السلاح النووي، جعل السلطات تسجن ميرزايانوف في عام 1993. وتمكن لاحقا من اللجوء إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث أعرب عن أسفه وهو في التسعين من العمر لاستخدام هذا السلاح ضد سكريبال وابنته.

يبدو أن تقنية الخناق ما زال شائعا، إذ أعلنت الشرطة البريطانية مؤخرا شروعها بالتحقيق حول مصرع رجل أعمال روسي عثر عليه مخنوقا

​​أما سرغي سكريبال، فأدت محاولة اغتياله وابنته إلى أكبر عملية طرد دبلوماسي منذ ثلاثين عاما، إذ أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي وجوب مغادرة 23 دبلوماسيا روسيا الأراضي البريطانية خلال أسبوع واحد، والمقاطعة الرسمية لحضور مونديال كرة القدم المقام في روسيا، وإجراءات أخرى تتعلق بتجميد أصول أموال روسية وسواها. وذلك وسط تصريحات استكبار وإنكار من الجانب الروسي، الذي سارع إلى التعامل بالمثل بطرده 23 دبلوماسيا بريطانيا وإصراره على إنكار ضلوعه في اغتيال رجل وابنته يحملان الجنسية البريطانية على أرض بريطانيا.

اقرأ للكاتب أيضا: حوار حضارات أم صدام حضارات؟

قصة سيرغي سكريبال واحدة من قصص الجاسوسية المثيرة. إذ تعاون الجاسوس سرا مع MI5 "الاستخبارات البريطانية" وتقاضى منها مبلغا كبيرا من المال، لكن الروس كشفوه وألقوا القبض عليه عام 2006. جردوه من جميع رتبه وأوسمته وحكموا عليه بالسجن 13 عاما، إلى أن أفرج عنه ضمن صفقة تبادل أسرى من جواسيس روسيا والغرب. هكذا، في العام 2010، أصدر الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف عفوا عن سكريبال. ولكن متى كانت أجهزة الاستخبارات تنصاع لعفو الرؤساء؟ وهل تحجم "كي. جي. بي." عن الشروع بمحاولة اغتيال لعميل انشق عنها وسلم أسرارها للغرب؟

كم تذكر هذه الواقعة التي تصدرت وسائل الإعلام بمجموعة أفلام ظهرت في السنوات الأخيرة الماضية وفتحت صفحات الحرب الباردة من جديد، منها فيلم "السنونو الأحمر" من بطولة النجمة جنيفر لورنس وإخراج فرانسيس لورنس (اللذين لا يمتان بصلة القرابة لبعضهما). الفيلم مقتبس عن كتاب رجل الاستخابرات المركزية الأميركي السابق جيمس ماثيوز، الذي صاغ السيناريو له جوستين هايث. صنف الكتاب الأصلي بين الكتب الأكثر مبيعا، بحيث جلب لمؤلفه الثراء، لكن السيناريو والإخراج أفقدا الفيلم قدرا كبيرا من المصداقية والإقناع، إذ ركزا على تفاصيل مسهبة من مشاهد الجنس الفاضح، كأنما مدرسة الجواسيس الروس لا تلقن طالباتها وطلابها من مهارات الجاسوسية سوى فنون الإغواء الجسدي.

يشكل هذا الفيلم انعطافة مناقضة لأفلام أخرى جديدة عن حقبة الحرب الباردة، بعضها تحرى الجدية مثل "جسر الجواسيس"، وبعضها الآخر اتجه للحركة والمغامرة مثل "رجال الملك". تكمن مشكلة فيلم "السنونو الأحمر" في محاولته تصنع الجدية، في حين أن تفاصيله حافلة بالثغرات.

يبدأ الفيلم بداية قوية، إذ نتعرف إلى راقصة الباليه الشابة دومنيكا وهي تصاب بكسر فظيع في ساقها نتيجة خطأ يرتكبه زميلها. تفقد دومنيكا مستقبلها كراقصة وتمويل فرقة البولشوي لعلاج أمها، وتكتشف أن زميلها آذاها عامدا متعمدا لارتباطه بعلاقة جنسية مع منافستها، فتقدم على قتل الاثنين.

تضطر دومنيكا للموافقة على اقتراح خالها إيفان بأن تتعاون مع الاستخبارات الروسية، وأن تستخدم جمالها لإغواء شخصية متنفذة، لكنه يغتصب دومنيكا قبل أن ينقض عليه من الخلف قاتل ملثم يخنقه بسلك رفيع. بالتالي، يبتزها خالها إيفان من جديد لتقبل الانضمام كطالبة إلى المدرسة السرية التي تعد الجواسيس، والمسماة "السنونو الأحمر".

هنا، يركز السيناريو بإفراط على فتح الأقفال والتدريب الجنسي من قبل مدربة عجوز (تشارلوت رامبلينغ)، بحيث أن دومنيكا تطلق على تلك المدرسة اسم "مدرسة العاهرات". في المقابل، نرى عميلا للاستخبارات الأميركية في موسكو يخاطر بحياته ليبعد الأنظار عن شخص روسي غامض يسرب له معلومات سرية، مما يضطره لمغادرة موسكو إلى الولايات المتحدة مؤقتا.

قصة سيرغي سكريبال واحدة من قصص الجاسوسية المثيرة

​​تبدأ ثغرات السيناريو بالتزايد، فتكلف دومنيكا المبتدئة فجأة من جنرال رفيع المستوى بالتوجه إلى بودابست لإغواء العميل الأميركي واستخلاص هوية الخائن الروسي. تتراكم التفاصيل الميلودرامية في الفيلم دون أن تفلح في جعل المشاهد يتعاطف مع بطلته الروسية (جنيفر لورنس) أو التوحد مع بطله الأميركي (جويل إيغرتون).

تنشأ علاقة بين دومنيكا ونيت ناش الأميركي، وتوافق على التعاون معه لتأمين علاج أمها المريضة والتخلص من سلطة عمها. تنحو حبكة الفيلم نحو مسحة تجارية في تشويق مفتعل، وتعاد دومنيكا من بوادبست لتخضع لاستجواب وتعذيب كي تعترف أين أخفت الوثائق التي حاولت دبلوماسية أميركية سكيرة تسليمها للروس، لكنها تصمد إلى أن ينقذها من الإعدام الجنرال الروسي (جيرمي آيرونز)، ويصارحها أنه هو العميل المزدوج.

اقرأ للكاتب أيضا: هل الديموقراطية أم الشمولية مستقبل العالم؟

يعيد الجنرال دومنيكا إلى بودابست، ويطلب منها أن تكشف للسلطات عن اسمه، كي يعينوها في موقعه لتكمل التعاون سرا مع الغرب ضد نظام الفاسد. ويا لها من فكرة بالغة السذاجة من كاتب السيناريو، إذ لا تنطلي حتى على الأطفال إمكانية أن تقفز مبتدئة على السلم الوظيفي لأخطر جهاز في الدولة!

لكن، بهذه الصورة وحدها يفلح السيناريو في تطوير علاقة دومنيكا ونات الغرامية في بودابست، قبل أن يقاطعها الخناق الروسي فيقيده ويشرع بسلخ جلده، إلى أن تتدخل دومنيكا وتتعاون مع حبيبها الأميركي للإجهاز على ذلك الخناق، ثم تقوم بإبلاغ أعلى سلطة في موسكو باسم العميل المزدوج.

هنا، تأتي مفاجأة الفيلم الصاعقة التي تعوض عن عديد من الهنات وخيبات الأمل، إذ يكتشف المشاهد أن دومنيكا رتبت بإحكام دلائل اتهام عمها الحقير إيفان بأنه الخائن، فيعتقل لتتم صفقة تبادل دومنيكا كأسيرة الاستخبارات الأميركية مع العم الأسير لدى الاستخبارات الروسية، ليغتاله قناص على أرض المطار ويطمر السر معه.

هكذا، تنجح دومنيكا في اصطياد عصفورين بحجر واحد، إذ تكرم في بلادها كبطلة محافظة على سر الجنرال الذي يبقى في موقعه عميلا للغرب، وفي الوقت نفسه تجني سرا فوائد التعاون مع العميل الأميركي الذي أحبت وأنقذت.

لم تتم محاولة اغتيال سرغي سكريبال بالإغواء الجنسي بالطبع، بل هناك احتمال أن يكون الغاز المميت قد دس في هدية حملتها ابنة سكريبال في حقيبة سفرها وهي عائدة من رحلة إلى موسكو. لكن يبدو أن تقنية الخناق ما زال شائعا، إذ أعلنت الشرطة البريطانية مؤخرا شروعها بالتحقيق حول مصرع رجل أعمال روسي يدعى نيكولاي غلاشكوف عثر عليه مخنوقا في منزله بجنوب غربي لندن، وكان يشغل منصب نائب مدير شركة الطيران الروسية، لكنه سجن في عام 1999 بتهمة غسيل الأموال والاحتيال، ثم حكم عليه عام 2006 بقضية أخرى مع وقف التنفيذ، مما أتاح له اللجوء إلى بريطانيا ليصبح من أشد منتقدي الرئيس بوتين.

والأغرب من ذلك أن غلاشكوف عقد أواصر صداقة حميمة مع رجل الأعمال الروسي المعارض بوريس بيريزوفسكي، الذي سبق أن عثر عليه مشنوقا هو الآخر في حمام منزله في منطقة بركشير عام 2013، دون أن يخلص التحقيق إلى نتيجة. ترى، هل يوجد للخناق المحترف في فيلم "السنونو الأحمر" نظائر واقعية تقوم بتصفية المعارضين والمنشقين بطرق غامضة دون أن تخلف أثرا؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

مواضيع ذات صلة: