المصدر: موقع الحرة
بقلم محمد المحمود/
يجتهد المعنيون بتدبير السلامة الأمنية في العالم الإسلامي للحد من تدفق الثقافة التي تغذي التوجهات الإرهابية، سواء على مستوى المؤسسات، أو على مستوى الأنشطة المتعلقة بالأفراد. ويتوجه اهتمام هؤلاء أساسا، وعلى نحو متزايد، صوب الثقافة الدينية التي يتشرعن بها الإرهابيون علانية، بعد أن أكدت الدراسات الثقافية والأمنية أن الثقافة الدينية المتطرفة من أهم الدوافع التي تقف خلف السلوك الإرهابي الذي يجتاح العالم اليوم، بما فيه العالم الإسلامي.
من الواضح أن الإرهاب في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة هو إرهاب ديني بامتياز. وتدل كل المؤشرات على أن الإرهاب سيبقى إرهابا دينيا في مدى المستقبل المنظور؛ حيث لا تكف كل الوقائع الإرهابية المعاصرة (التي تقتل المدنيين بالمجان؛ لتحقيق أهداف سياسية) عن الانتساب إلى مرجعيات ثقافية دينية ذات بعد جماهيري، تؤسس لمقولات واضحة ومباشرة، تقف وراء عمليات التجييش/ الحشد التي تسبق الفعل الإرهابي، أو هي مقولات لاحقة؛ تتبع الفعل الإرهابي تبريرا، بل وتبجيلا. ولهذا، رأى المعنيون بمكافحة الإرهاب أن استباق الفعل الإرهابي لا بد أن يبدأ من هناك، من بعيد، أي من بدايات تشكل الرؤية المتطرفة/ المتزمتة التي تخاصم كل المختلفين/ المغايرين، بل وكل صور الاختلاف.
لكن، إذا كان يمكن اعتبار التزمت الديني، أو التطرف الديني مقدمة أولية ضرورية لأي مجتمع يتشكل إرهابيا، وبالتالي لأي مجتمع يمتلك الاستعدادات اللازمة لاحتضان مقولات الإرهاب، فإن الرؤية الأبعد والأعمق لا بد أن تتجاوز المقولات الإرهابية التي يصنعها "وعاظ التطرف الديني المعاصرون"، (الذين لا يتشرعن خطابهم أساسا بالتواصل المباشر مع النص المقدس، وإنما بالاتكاء على منظومات فكرية/ دينية واسعة متجذرة في التاريخ: وقائع ومقولات) إلى نقد هذه المنظومات بالذات؛ لأنها إن سقطت أو تزعزعت الثقة بها في وعي الجماهير المتدينة/ المؤمنة؛ تلاشت ـ بالتبع ـ مقولات المتطرفين المعاصرين، وأصبحت مجرد كلام في الهواء.
إذن، الحرب على الإرهاب بتجفيف منابعه الفكرية لا تكون بالتوقف عند ما نراه ونسمعه على ألسنة الخطباء والدعاة وكتاب المنشورات التحريضية، بل لا بد من الحفر ـ ثقافيا ـ إلى مدى أبعد، إلى ما نحاول تجاهله أو التعمية عليه. لا بد من مصارحة أنفسنا ـ قبل مصارحة الآخرين ـ بحقيقة أن التطرف الديني يقف خلفه خطاب ديني له أعلامه الكبار، ومؤلفاته الموسوعية، وهو يمتد في عمق التاريخ/ تاريخنا، إلى أكثر من ألف عام.
اقرأ للكاتب أيضا: المرأة بين الحجاب والنقاب
نحن إلى الآن ـ وللأسف ـ ننقد الهوامش؛ ونترك المتون، ننقد التلاميذ الصغار؛ ونترك الأعلام الكبار، نواجه الوكلاء المبشرين؛ ونترك الذين من ورائهم، أولئك الذين أكدوا لهم أن التبشير بهذه المقولات المتطرفة/ المتزمتة فرض ديني.
نحن نحتاج إلى توسيع نطاق المواجهة مع الفكر المتطرف، بل نحتاج إلى أن تشمل المواجهة كل الجبهات؛ حتى تلك الجبهات التي نستهين بتأثيرها. ما نراه ونسمعه لا ينفذ إلى عقولنا وقلوبنا من خلال المناهج الدراسية وخطب الجمعة ومواعظ الفضائيات فحسب، وإنما من خلال وسائل التواصل الجماهيرية أيضا، بل ومن خلال بعض الفنون والفعاليات العامة، بما فيها الفعاليات ذات البعد الترويحي التي يقوم على تنظيمها مؤدلجون دينيا، أو متعاطفون مع المؤدلجين دينيا.
لكن المهم، بل والأهم، أن هذه الوسائل، بل وكثير من خطب الوعاظ ومحاضرات "المُتَمَشْيخين" لم تكن لتؤثر كل هذا التأثير الكبير؛ لو لم يكن وعاظها يتكئون على مقولات راسخة، وأعلام موقرة محصنة ضد أي نقد في السياق الديني، وكتب رفعت ـ في وعي هذا الجيل المتدين ـ إلى درجة القداسة؛ فأصبح مجرد الاستشهاد بها يقتضي الصوابية المطلقة التي لا تحتاج لدليل، بل هي دليل الأدلة كما يزعمون ـ ضمنا!
لا بد أن نعترف أن هناك مرجعيات تراثية متخمة بمقولات التكفير والقتل، وأن شبابنا منذ يبدأ التدرج في مدارج الوعي يسمع الثناء تلو الثناء على هذه المرجعيات وعلى أصحابها، ويؤكد له مدرسوه، وشيوخه، وخطباء جمعته، والمتصدرون في فضائياته، أن أعلام هذه المرجعيات لا ينطقون إلا بالحق الخالص الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وعندما يكبر، ويجد من يحرضه على التطرف، ومن ثم، على الإرهاب بواسطة مقولات منقولة بالنص المثبت من هذه المرجعيات التي أصبحت في تصوره مرجع الصواب الديني؛ سيجد نفسه معتقدا أن الإرهاب هو عين الصواب، إذ هو انتصار الإسلام أو انتفاضة الإسلام أو انبعاث الإسلام الصحيح! كيف لا يؤمن بصوابيتها، وكيف لا يجد نفسه ملزما بتنفيذ ما تدعو إليه، وكيف لا يعتقد أن بذل روحه في سبيل تطبيق مقولاتها هو الفوز الكبير في الآخرة، وقد نشأ لا يسمع إلا الثناء والتقديس لأصحابها؟
لا ينفع أن ننقي/ نطهر المناهج الدراسية من مقولات التطرف، بينما كتب التطرف والتكفير التراثية محصنة ضد النقد، ومن يجرؤ وينتقدها؛ يجد نفسه في مشاكل لا حصر لها. لا ينفع أن نراقب (مع أن الرقابة لا تجدي، بل النقد هو المناعة الحقيقة) كل ما يقوله المحاضرون في محاضراتهم الجامعية، والمدرسون في حصصهم المدرسية؛ لأن كثيرا من الكتب التي تتضمن مقولات التكفير والقتل والتحريض ضد الآخر، تتسيد مشهد القرائية الدينية، بل ويوصي بها الأساتذة في الجامعات، ويحضون طلابهم عليها، مبجلين لأصحابها بوصفهم حماة العقيدة وسدنة (الإسلام الصحيح)!
لا يكفي أن تسكت المناهج، وتخلو من التحريض على العنف والكراهية، أي لا يكفي الموقف السلبي، بل لا بد أن تسهم هذه المناهج في تفنيد مقولات التطرف والعنف بأسلوب نقدي يفند مقولات التطرف من أساسها، وأن تكون مهمة المناهج الدينية الأساسية تفنيد مقولات المتطرفين في القديم والحديث، وزعزعة الثقة بحملة راية الصراع العقائدي على امتداد التاريخ.
مشكلتنا أننا نهرب من المشكلة بدل مواجهتها، نرفض أن يستخرج المتأسلم أو الواعظ الديني التقليدي مقولات العنف والكراهية من بطون كتبنا المبجلة؛ ليجعلها تخاطب واقعنا المعاصر، ونعده ـ حينئذ ـ داعية إرهاب؛ بينما نشتم ونعنف ونشكك في كل من ينتقد العنف والكراهية في بطون تلك الكتب التي يمتاح منها الإرهابي مقولاته، ويجد فيها مشروعية مشروعه.
والمقصود أن "تهذيب" المرتكزات الأساسية التي يقوم عليها العنف ضد الآخر في تراثنا لا يحل المشكلة، بل يغطي عليها فقط. فمثلا، إذا لطفنا بعض ملامح التكفير في مسألة: "الحكم بغير ما أنزل الله"، فهذا لا يكفي؛ لأن الكتب والرسائل التي تتخذ من هذه القضية سبيلا إلى تكفير الدول الإسلامية، ومن ورائها المجتمعات الإسلامية، لا تزال رائجة، ولا يزال أصحابها محصنين ضد النقد، بل يرفعهم الخطاب الديني التقليدي إلى مراتب القداسة، والويل لمن ينظر إليهم شزرا؛ فكيف بمن يحاول فضح تطرفهم على رؤوس الأشهاد!
إن الاعتراف هو بداية الحل؛ فهل نعترف أن مقولات التطرف والإرهاب رائجة في كتبنا التراثية، وأنها تطل برأسها بشكل مباشر أو غير مباشر بين الحين والآخر، وأنها في كل الأحوال، تحظى بالتقدير الجلي أو الخفي من رموز التقليدية؛ فلا يستطيع أحد نقدها بشكل جذري وصريح؟
هل ندرك أن "المحرض على التكفير والإرهاب" لا يحتاج إلى أكثر من أن يحضر تلك النصوص منسوبة إلى أعلامها المبجلين، وحينئذ؛ لن يستطيع الشاب المتدين الصمود أمام تكفير يراه مسطورا في كتاب ديني بين يديه؛ كتاب طالما سمع الثناء التقديسي عليه وعلى صاحبه؟
ألم نسمع ما عرضه بعض الباحثين موثقا، وفي فضائيات شهيرة، من مقولات تحض على العنف والتصفية الجسدية في مناهج "الأزهر" الدراسية، مع أن "الأزهر" ـ كما يقال في طول العالم الإسلامي وعرضه ـ هو المعقل العلمي الذي يعد اليوم من مرجعيات الاعتدال السني التي يشار إليها عند التأكيد على تسامح الإسلام؟
ألم يقم أحد الباحثين باستعراض بحثي لفتاوى ابن تيمية؛ فوجد أكثر من 400 موضع في مجموع الفتاوى (في الفتاوى فقط)، يقول فيها هذا "الشيخ المبجل"، وبالنص الصريح: "يستتاب، فإن تاب وإلا قتل" على مسائل خلافية تافهة في معظم الأحيان؟
كيف سيكون الحال عندما تواجه شابا متدينا نشأ على تقديس ابن تيمية بهذه الفتاوى التي تشرعن للقتل صراحة؟ كيف سيستطيع شبابنا المتدين الصمود أمامها وهم الذين نشأوا على اعتبار أقوال هذا الشيخ أدلة بحد ذاتها؟
اقرأ للكاتب أيضا: العنصرية والمجتمع الحديث
في نهاية المطاف، لا بد من التأكيد على أن المشكلة أكبر من ابن تيمية، المشكلة في الحقيقة تتعلق بالمتلقي، ومنهجية التلقي، فابن تيمية هو ابن ظروفه الخاصة والعامة، ابن نفسيته وابن ثقافته وابن صراعاته وابن مشكلات عصره. وهو قد قال ما قال، ومضى منذ قرون.
المشكلة فينا نحن، فلو نشأ شبابنا على خطاب ثقافي انفتاحي لا يصنم ابن تيمية وأمثاله، أي خطاب نقدي يتعاطى مع ابن تيمية وأمثاله باعتبارهم بشرا يعبرون عن آرائهم النسبية فقط، وأن كل ما قالوه يبقى مجرد محاولات بشرية متواضعة لإصابة مراد الله؛ كما يقولون هم بأنفسهم.
لو تفاعل الشباب المتدين مع كثير من البحوث ذات الأفق الواسع، تلك التي تستفيد من ابن تيمية، ولكنها في الوقت نفسه تنتقده، وتعترض عليه، وتفند أقواله في مواضع كثيرة؛ لتعذر استخدام مقولاته في تعزيز خطاب التطرف والإرهاب. وطبعا، عندما أقول هنا: ابن تيمية، فهو مجرد مثال فقط، ويمكن لك أن تقيس عليه بقية أعلام القداسة في تاريخنا القريب والبعيد!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)