المصدر: موقع الحرة
بقلم نضال منصور/
عدت إلى بغداد بعد غياب طويل استمر 26 عاما، كنت متلهفا لأجد إجابات على أسئلة التحولات الكبرى منذ سقوط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003.
ماذا حدث، وماذا تغير بعد مضي 15 سنة على التبشير بالديمقراطية، وبعد أن دخلت الدبابات الأميركية بغداد وأسقطت تمثال الديكتاتور من ساحة الفردوس في لحظة فارقة لا يمكن أن تنساها الذاكرة؟
كثيرون رحبوا بالدبابات الأميركية وبجنود المارينز لتخليصهم من نظام شمولي، وكثيرون أيضا رفضوا أن تستباح بغداد، ولم يقبلوا بما سمي بتحرير العراق من نظام مستبد، واعتبروا ما حدث احتلالا للسيطرة على ثروات العراق، وقصة الأسلحة الكيماوية لم تكن سوى كذبة فاضحة.
الانطباع الأول أن بغداد لم تتغير. فالشوارع والمباني ما زالت كما هي منذ تركتها آخر مرة. أكثر ما يثير الانتباه والحزن الحواجز الإسمنتية المسلحة التي ترتفع لتحيط بالشوارع والمباني، وهي ما يسميها العراقيون "الصبات"، وتزداد كثافة حين تصل إلى حاجز أمني أو "سيطرة" أمنية، أو إن اقتربت أكثر مما سميت بعد سقوط نظام صدام بـ "المنطقة الخضراء" وأصبحت مقرا للسلطة الجديدة في العراق "رئاسة الوزراء، البرلمان، وزارة الدفاع، ومقرا للسفارة الأميركية.
سؤال لم أعرف الإجابة عليه، لماذا سميت بالمنطقة الخضراء؟
في بغداد أول القواعد، وأنت القادم من عمان، أن تتكيف مع فكرة الحواجز الأمنية المتعددة وأن تسترخي. وحين سألت عنها مرافقي من شبكة الإعلام العراقي، أجابني بتهذيب "لقد تراجعت كثيرا بعد الاستقرار الأمني وهزيمة داعش"، وقلت بصوت عال ليتهم يرسمون عليها شيئا يثير البهجة والفرح، حتى يزيلوا من داخل الناس الشعور بجدران السجن، والعراق فيه أجمل المبدعين والرسامين ليفعلوا ذلك؟
اقرأ للكاتب أيضا: القمم العربية... من لاءات الخرطوم إلى توسل إسرائيل لقبول السلام
رغم قباحة الجدران الإسمنتية فإن ما يخفف كآبة هذا الجو هذا الترحاب الكبير من رجال الجيش العراقي بضيوفهم، وممازحتك بلهجة عراقية تشيع أجواء الأمل وتشعرك بالأمان.
حين التقيت بالزعيم السياسي عمار الحكيم سألته بانزعاج عن هذه الحواجز، فأجابني "حين تستعيد الدولة هيبتها تسقط هذه الحواجز والجدران، فالمواطن حينها يكون مطمئنا".
الحقيقة التي لا تخفى أن بغداد استعادت طمأنينتها بعد أن توقفت منذ زمن بعيد الانفجارات، ويسأل الحكيم مرافقي الإعلامي خلال لقائي به: "هل تتذكر متى تاريخ آخر تفجير؟ إننا نمضي في طريق النصر".
كلام الحكيم ليس للدعاية الانتخابية التي تقترب من الأبواب، بل واقع ملموس حين تتجول في شوارع بغداد إلى ما بعد منتصف الليل، ويتعبك الازدحام المروري في ساعات متأخرة، وتجد المقاهي في شوارع الكرادة، والمنصور مكتظة بالعراقيين، فالإرهاب لم يدحر على أبواب بغداد فقط، بل هزم من مشاعر الناس ووجدانهم وهذا هو الأهم، وأنا فعلت مثلهم، كنت أتجول مع أصدقائي في أزقتها دون مرافقة أمنية وسيارات مصفحة.
طوال خمسة أيام في بغداد كنت أقرأ بنهم شديد شعارات الائتلافات والقوائم الانتخابية التي تستعد لخوض انتخابات البرلمان في الثاني عشر من أيار/مايو المقبل. القاسم المشترك الذي تحاول إظهاره بشكل واضح أنها تمثل العراق بكافة طوائفه، كلهم يتسابقون للتأكيد والإعلان أن قوائمهم عابرة "للطائفية"، وهذا سمعته من قياديين عراقيين التقيتهم بدءا من رئيس مجلس النواب سليم الجبوري، مرورا بنائب رئيس الجمهورية رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، وهو ذاته ما شدد عليه عمار الحكيم.
الطائفية التي تسيدت المشهد السياسي منذ عام 2003 حتى سقوط داعش، وأعادت استنساخ التجربة اللبنانية في المحاصصة لا بواكي لها في العراق الآن، ولا يتجرأ زعيم سياسي هناك حتى وأن كان موسوما بالطائفية أن يجاهر بذلك.
إياد علاوي "الشيعي" الذي يخوض الانتخابات بائتلاف الوطنية والمعروف بمعاداته للطائفية منذ أن كان رئيسا للحكومة، يرى "أن بعض الزعماء السياسيين في العراق لم يغادروا مربع الطائفية فعليا، وشعاراتهم الآن قبيل الانتخابات غزل للمواطن والشارع العراقي الذي يكره الممارسات والخطاب والتحشيد الطائفي الذي دمر العراق وأوصله لهذا الحال".
يخوض الانتخابات العراقية ما يقارب 7 آلاف مرشح، ورغم النقد الواسع لكثير من الزعامات السياسية السابقة، فإنهم سيستأثرون بالمشهد السياسي مرة أخرى، ورغم الحديث عن قوائم عابرة للطائفية فإن الإعلاميين المتابعين للانتخابات يشيرون إلى خمس قوائم أساسية تمثل الاتجاهات الشيعية، وقائمتان أساسيتان تمثلان السنة، وقوائم تمثل الأكراد وأن حدثت لأول مرة اختراقات عربية بالترشح في المناطق الكردية.
يتفق المراقبون للمشهد الانتخابي على أن أيا من القوائم مهما كانت قوية لن تستطيع أن تشكل حكومة بمفردها، وأن الائتلافات والأحزاب السياسية نشطت أكثر مما سبق، ويشيرون على الصراع المعلن والخفي لزعيمي حزب الدعوة نوري المالكي وحيدر العبادي. ويتكرر الأمر في إقليم كردستان الذي تعرض لهزيمة ساحقة بعد فشل استفتاء الاستقلال، واعتبر انتحارا سياسيا للزعيم التاريخي مسعود بارزني الذي يتعرض للحصار والإضعاف، ولا يتردد معارضون له من القول "الإذلال".
يرى المتابعون أن حيدر العبادي، رئيس الوزراء الذي يتجول في العراق ليروج لهزيمته لداعش ولقائمته "النصر"، هو الأقرب ليحصد أكثر المقاعد البرلمانية مقارنة بالقوائم الأخرى، ويعتقدون أن الناخب العراقي الذي يتوق للاستقرار والأمن قد يتوجه لدعم قائمة "الرئيس العبادي" وإعطائه فرصة لإكمال مشروعه، وأن حدث ذلك فإن تحالفات ما بعد الانتخابات ربما أول ضحاياها زعيم قائمة دولة القانون نوري المالكي، ويتبعه قادة قائمة الفتح هادي العامري وقيس الخزعلي (الحشد الشعبي)، وهو ما سيفتح الباب للتناغم مع رياح التغيير الدولي والإقليمي. وأول الخطوات وقف الهيمنة الإيرانية، وإعادة ترتيب الأولويات رغم صعوبة ومخاطر هذا الخيار في الداخل العراقي بسبب وجود أذرع سياسية، وربما قوة عسكرية تتبع الهوى الإيراني.
القضية الأخرى التي تسيطر على الشارع العراقي - إلى جانب هدم المعبد الطائفي - محاربة الفساد الذي نخر العراق، فرغم مضي ما يقارب 15 عاما على سقوط صدام فإن بغداد لم تشهد إعمارا وتنمية ملموسة، ويتذرع القادة السياسيون والحكومات بأنهم لم يلتقطوا أنفاسهم لتحقيق هذا الأمر، فهم في مواجهات مستمرة مع الإرهاب ومحاولات إسقاط المشروع السياسي العراقي الجديد الذي بدأ عام 2003، وإن اعترفوا على حياء بوقوع أخطاء وحصول فساد!
اقرأ للكاتب أيضا: في منتدى الإعلام العربي: "السوشيل ميديا" تغزو وتنتصر والصحافة المحترفة تحتضر وتموت!
همس صحافي مرموق بأذني بأن هناك خبيرا اقتصاديا صرح بأن "الثروات التي أنفقت وسرقت منذ سقوط النظام كانت تكفي لرصف كامل العراق بالذهب الخالص"، ربما يكون هذا الكلام في سياق المبالغة، لكن التذمر الشعبي يتزايد وهو ما يدفع زعيما مثل مقتدي الصدر للنزول إلى الشارع متظاهرا ومحتجا ومطالبا بمحاربة الفساد، أكثر العناوين شعبية في العراق.
تغير العراق، وأكثر ما تغير أن الناس الذين كانوا لا يتجرأون على رفع صوتهم معارضة خوفا من البطش بهم في زمن "البعث"، لم يعودوا يبالون ولا يتوقفون عن توجيه أصابع الاتهام والنقد واستخدام الإعلام الموزع في ولاءاته السياسية والطائفية، لفضح الخصوم، حتى وإن وصل الأمر لنشر أفلام "جنسية" اتهم فيها مرشحون للانتخابات.
ينتظر العراقيون بعد مضي عقد ونصف أكثر من فضاء لحرية التعبير، وأحزاب تتصارع على السلطة تباشير الديمقراطية التي تخرج من عباءة الطائفية. وينتظرون وعدا بالرفاة والتنمية لم يتحقق، ووطنا لا يسرق منهم يستردون فيه هويته الجامعة الموحدة التي لا تقبل القسمة والتقسيم.
يحلمون ببغداد التي أحبوها وعشقوها دون جدران إسمنتية مسيجة، وبنهر دجلة يفيض عليهم فرحا، وصوت ناظم الغزالي ينسج قصص العشاق، وصوت "استكانات" لحنا مختلفا لا يعرفه إلا العراقيون.
بغداد التي عرفوها لا تعترف بالموت، ولا تقبل أن تلبس عباءة سوداء، باختصار بغداد أبجدية نقيض للموت والخراب.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)