صورة لرواية "البحث عن عازار" للكاتب نزار الآغريِ

هو أوّل كاتب إيزيدي يصل للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة بـ"البوكر". وربما يكون "الأخير" على حدّ قوله "إذا استمرت الإبادات للإيزيديين على النحو الذي رأيناه في السنين الأخيرة".

نزار آغري روائي وناقد ومترجم سوري كردي إيزيدي، يقيم في أوسلو. يعرّف عن نفسه بأنّه قارئ أراد أن يصبح كاتباً. يقول إنّ هناك أشياء كثيرة في حياتنا تستحق أن تُدوّن ويقرأها غيرنا، "ولكن ينبغي أن تكتب بطريقة تقنع القارئ في ألا يتأسف على الوقت الذي يهدره في القراءة".

صدرت للكاتب مجموعة من الروايات، من بينها «أوراق الملا زعفران»، «كاكا والجدار»، و«شارع سالم»، قبل إصداره الأخير «البحث عن عازار» الذي رشّح لجائزة البوكر.

يروي العمل قصّة صداقةٍ بين إيزيدي ويهودي جمعتهما مدينة القامشلي السورية حين كانت تزدحم بالأعراق والديانات والجنسيات المختلفة، وفرّقتهما المدينة نفسها فيما بعد، ليبقى الحنين يسكن عيد كوري بعد رحيل صديقه عازار الذي استمرّ بحثه عنه على مدى 40 سنة.

تبدأ الرواية بوعد تقطعه ابنة الراوي على والدها بأن تواصل البحث عن صديقه عازار، وتبذل قصارى جهدها لإيجاده. يتردّد والدها في أن يقول لها إنّه يخاف ربما من فكرة العثور عليه، لأنّ عازار الذي يعرفه اختفى، وسيرى رجلا آخر "أثقلت كاهله السنون"، لم يعد كما عرفه فتى "بهيا كالسنونو" في الرابعة عشر من العمر.

تمتزج في الصفحة الأولى من الرواية الرغبة بالعثور على صديقه القديم مع الخوف من التحوّل الذي قد يطرأ على الإنسان بفعل العمر وما تفعله به السنوات الطويلة.

يظهر الزمن هنا بحلّة المجهول، وتُترجم مشاعر الخوف منه. ويبقى الزمن ثيمة أساسية في الرواية، على شكل حنين وذكريات. هذه العلاقة بين الإنسان والزمن والتحوّلات العمرية تعكس منذ البداية رقّة الراوي وهشاشته الإنسانية وهو يصحبنا بمتعة إلى خزين من قصصٍ كانت فيها صورة الحياة في الشرق الأوسط أقلّ عنفاً وأكثر محبة.

للحديث عن عمله الأخير وعن تجربة الكتابة والهجرة ومواضيع أخرى.. كان لنا مع نزار آغري هذا الحوار:

ماذا يعني لك وصول الرواية للبوكر – أظن أنّك أوّل كاتب إيزيدي يصل لقوائم الجائزة؟

يعني أن أحدهم قرأ الرواية ووجد فيها ما يستحق أن نحتفل به. نعم أنا أول كاتب إيزيدي يصل إلى القائمة. وقد أكون الأخير إذا استمرت الإبادات للإيزيديين على النحو الذي رأيناه في السنين الأخيرة.

كيف تعرّف عن نفسك للقرّاء الجدد الذين قد تفتح الجائزة أفقا لتوسعهم وأيضا لقرائك الأقدم؟

أنا قارئ أراد أن يصبح كاتباً. هناك أشياء كثيرة في حياتنا تستحق أن تدون ويقرأها غيرنا. ولكن ينبغي أن تكتب بطريقة تقنع القارئ في ألا يتأسف على الوقت الذي يهدره في القراءة. إن أفلحنا في ذلك نكون منحنا الكتابة الروائية الاسم الذي تستحق. أحاول أن أفعل ذلك.

الرواية مقسّمة إلى ثلاثة أقسام، الأخير هو الأقصر. كم استغرقت وقتاً لكتابتها وهل واجهت أيّ تحدّيات؟

الأقسام الثلاثة هي المراحل الزمنية التي مرت بها العلاقة بين الرواي وصديقه. مرحلة العيش معاً، وهي السنة الوحيدة التي قضياها معاً في المدرسة. مرحلة الفراق، التي امتدت أربعين سنة وهي فترة بحث الرواي عن صديقه. المرحلة الأخيرة هي لحظة اللقاء بعد ذلك الفراق الطويل.

لم أواجه أي تحد، كانت الكتابة رحلة ممتعة لأنها أعطتني الفرصة لأستعيد مراهقتي التي قضيتها في القامشلي.

ماذا تعني لك الكتابة بشكل عام، خاصّة في زمن استهلاكي جداً ودموي في بعض الأحيان؟

الكتابة شغف. أي أن تكتب لأن في أعماقك ما يشتعل ويجعلك ترتجف كما لو أنك ستقابل شخصاً عزيزاً عليك. الكتابة هي الشغف الذي يحمي الكاتب من كل ما هو خارجي أكان زمناً استهلاكياً أو حرباً عالمية أو أعاصير أو زلال. الكاتب وكتابته مثل حبيبين في صومعة.

تعيش حالياً في أوسلو.. هل أثّرت تجربة الهجرة على كتابتك؟ وكيف؟

بالطبع الهجرة تترك أثرها في حياتنا وبالتالي كتابتنا، لأن الكتابة هي جزء من هذه الحياة. هي تضيف مفردات جديدة إلى قاموس عيشنا وتمنحنا، من حيث لا ندري، آفاقاً أوسع في مقاربة العيش. نكتسب عادات  ومهارات وأساليب تواصل لم نكن اختبرناها من قبل.

وكل هذا يصب في ساقية الطفولة التي تمكث في أعماقنا.

شخصياً أعيش في تربة الطفولة. كل الهجرات والانزياحات الزمانية والمكانية فشلت في فصلي عن تلك المرحلة. لهذا أينما أعيش أشعر وكأنني ما زلت في المكان والزمان الذين صاغا كياني الروحي والنفسي والذهني مرة وإلى الأبد.

بطل الرواية عيد يتعرّض للتمييز والمضايقات العرقية ليس فقط، ليس فقط من أشخاص مغايري الأعراق، بل يُلحق به الأكراد أيضاً الأذية.. هل هذا يعني أنّ الانتماء العرقي لا يحمي في حال انطوى على اختلاف ديني طفيف؟

الاختلافات حين تتحول إلى عناصر للتمييز والتنافر بدل التنوع والتقارب تصبح أدوات فتاكة. كل انتماء في المجتمعات المتعصبة هو تهمة. أنت متهم لأنك من قومية ما، ومتهم لأنك من دين ما، ومتهم لأنك من طائفة ما. هذه الانتماءات ليس لنا يد فيها. نحن نرثها من أسلافنا ومع ذلك فهي تعين نظرة الآخر لنا رغماً عنا. الانتماء بالعادة يوفر شعوراً بالأمان في حضور المجموعة التي ننتمي إليها ولكنه سرعان ما يتمزق حين حين تصطدم المجموعة الكبرى بالهوية الصغرى.

لماذا برأيك هناك صعوبة في تقبّل الآخر  المختلف؟

أظن أن الأمر يتعلق بالموروث الديني. فنحن، في تعريف أنفسنا لأنفسنا، خير الناس والآخر، إذن، أقل خيراً منا. ومن كانت هذه نظرته للآخر، لن يسهل عليه تقبله.

في مقالك "حين عرفت أنني أيزيدي"، تكتب عن انتحار شقيقك. كيف أثّرت فيك تلك الواقعة؟

كانت هذه أولى الصدمات التي واجهتها في حياتي. ترسخ في أعماقي خوف كبير من الآخر، الذي قد يكون صديقاً أو قريباً أو جاراً لمجرد أنك تحتلف عنه في شيء ما.

لن أبالغ إذا قلت أنني بعد تلك الصدمة مررت بحالات رعب حقيقية حين كنت أواجه لحظات بدا لي أن صديقي الكردي، المسلم، يمكن أن يهدد حياتي لأن ولاءه الديني، المتفوق على ربطة الصداقة التي تجمعه بي، يمكن أن تدفعه في أي لحظة لأن يقتلني.

مررت بحالات فعلية من هذا القبيل.

في المقال أيضاً، تكتب عن طغيان اللغة العربية بشكل أو بآخر كلغة أحادية ترفض المناهج التعليمية أن تضمّن لغات غيرها، والأمر نفسه فيما يتعلّق بالتعليم الديني. نحن ننظر اليوم إلى المشهد الإقصائي نوعاً ما في الدول العربية من دون أن نحلّل تراكمات الإقصاء على مدى سنوات. هل تعتقد أنّ ما حدث في السنوات الأخيرة من تطرّف من قبل جماعات دينية متشدّدة له جذور في ثقافة دول منطقة الشرق الأوسط؟

بكل تأكيد. التطرف ليس مرضاً بل هو نتيجة طبيعية لتراكمات التربية والتعليم والتلقين في المجتمع والبيت والمدرسة والجامعة والجامع. لن يظهر أي نزوع إقصائي، إرهابي، متطرف، في سويسرا، مثلاً، لأن المجتمع والبيت والمدرسة والجامع…الخ، كلها مبنية على دعامات من التعددية والتسامح. في ذلك البلد الصغير، هناك أربع لغات رسمية، وفضاء مفتوح لكل الديانات والطوائف والأفكار. لو أن سوريا قامت بعد الإستقلال، على مثل تلك الروح المتسامحة، المرنة، لكنا شهدنا ازدهاراً للغة والأدب والثقافية السريانية والآشورية والكردية، ولساد جو من الانفتاح وترسخ سلوك يدفع في اتجاه تقبل الجميع للجميع بدلاً من نبذ الجميع للجميع.

هل يمكن أن نغلّب الهوية المدنية والإنسانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واعتبار الهويات الأخرى أمر شخصي مرتبط بالعادات والتقاليد لتُمارس بسلام؟ وكيف السبيل لتحقيق ذلك؟

أكيد يمكن ذلك. المجتمعات التي حققت ذلك لم تهبط من السماء. هي اشتغلت على أرض الواقع. وضعت مناهج ودساتير وخطط ومشاريع تصب كلها في خلق كيانات مستقرة، مفتوحة لكل أبنائها، من دون توتر أو تعصب أو إقصاء.

الرواية فيها الكثير من الحنين. لماذا برأيك اندثرت قيم التعايش والتنوع والتعدد على مدى العقود الأخيرة؟ وهل الماضي أفضل من هذا الحاضر أم أنّه أيضاً من أسبابه؟

اندثرت للأسباب التي ذكرتها تواً. الماضي كان أكثر رحابة، رغم نواقصه، ولهذا كان أجمل.

لماذا اخترت تحديدا شخصية الإيزيدي واليهودي.. هل ترى تقارباً في المعاناة؟ وهناك أيضاً من انتقدوا الطوباوية التي قُدّمت فيها شخصية اليهودي. هل تعتقد أنّنا ما زلنا عاجزين عن رؤية اليهود بمعزل عن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؟

الجواب بكل بساطة هو لأنني عشت ذلك بالفعل. فالأحداث والوقائع والشخصيات  ذات جذور في الواقع. لم أخترع شخصيات كي أسجل موقفاً سياسياً أو فكرياً. هكذا كانت الحياة بالفعل وهكذا كنا نعيش. الفتى اليهودي، عازار، ليس رمزاً لليهودي والراوي عيد، لا يمثل الإيزيديين. إنهما حاضران في الرواية لأنهما ببساطة كانا حاضرين في الواقع. لم أتقصد اختيارهما. القدر هو الذي اختارهما ووضعهما في تلك البقعة وذلك الزمن.  

هناك جزء جميل في الرواية يضيء على علاقة محببة بين أب وابنته، بعيداً عن السلطة الأبوية المتعنتة أحياناً. كيف ترى دور المرأة في المجتمع وكيف تكتب عنها؟

وضع المرأة في مجتمعاتنا جزء من الصورة الشاملة. كلما كان المجتمع منفتحاً وحراً ومتسامحاً كانت المرأة أكثر حضوراً في الفضاء الجمعي وكانت لها شخصية قوية ودور بارز والعكس صحيح.

وسط ما حدث من مجازر بحق الإيزيديين من قبل تنظيم داعش قي الفترة الأخيرة، كيف باعتقادك يمكن تحقيق العدالة؟

بمحاسبة المجرمين والقتلة، ولكن قبل ذلك مراجعة النصوص التي دفعت بهم إلى ارتكاب تلك الجرائم.

هناك علاقة حب أسطورية (حب صوفي) بين بطليّ الرواية. على الرغم من أنّ صداقتهما كانت زمنياً قصيرة، لكنّ أثرها دام عشرات الأعوام. هل هناك رسالة معيّنة من ذلك؟

نعم وهذه الرسالة هي أن الحب يجعل كل شيء جميلاً ويسقي نفوسنا وينقي أعماقنا ويجعلنا سعداء ومروجين للسعادة في آن واحد.

هل هناك ثقافة موحّدة يمكن أن تجمع سائر مكوّنات المنطقة؟ وهل تعتقد أنّ ما يفرّق بينهم هو الدين أم صراع السلطة والسياسة؟

الثقافة الواحدة تخنق. ينبغي أن تكون البوابات مفتوحة لكل الثقافات واللغات والأفكار والأحلام، بعيداً عن «أمة واحدة ذات رسالة خالدة». لكل قومية أو شعب أو إثنية أو مجموعة، في إطار حدود أي بلد، رسالة فليكن الفضاء مفتوحاً لكل الرسائل، للجميع حق في يرددوا أغانيهم ويبتكروا ألحانهم ويكتبوا رواياتهم على تلك الأرض بعيداً عن أي وصاية فوقية.

هناك أيضاً في الرواية تقدر للفنّ المنتمي لأجيال أقدم وأيضاً لكتاب. كيف تنظر للمشهد الفني والثقافي الحالي مقارنة بما يُسمّى بالزمن الجميل؟

كل شيء الآن يبعث على لأسى. ننظر إلى المشهد من حولنا ونشعر بحنين فعلي إلى لحظات كان العيش فيها عادياً وبسيطاً ولكن مغلفاً بنوع من الطمأنينة والأناقة. غابت الطمأنينة وغابت الأناقة. الأشياء الآن مخيفة وبشعة.

 

مواضيع ذات صلة:

عبور
الفيلم توعوي عن العنف الاقتصادي القائم على النوع الاجتماعي في لبنان

وصلت شظايا حملات التحريض ضد مجتمع الميم عين في لبنان، إلى فيلم "عبور"، الذي واجه حملة تجييش حالت دون تمكنه من العبور إلى المسرح الوطني اللبناني في طرابلس، رغم أن الجمعية المنتجة له تؤكد أن مضمونه بعيد عما يدّعي مهاجموه.

الفيلم الذي أثار بلبلة من إنتاج جمعية ورد للتنمية والتطوير، وقد روّجت له بأنه فيلم توعوي عن العنف الاقتصادي القائم على النوع الاجتماعي، وبعد أن كان مقررا عرضه في الثامن عشر من الشهر الجاري تم تأجيل ذلك نتيجة الحملة التي شنت ضده.

أول من أطلق الحملة على الفيلم هو الباحث في الفكر والسياسة، أحمد القصص، الذي تساءل في منشور على صفحته عبر موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" فيما إن كان أهل "مدينة العلم والعلماء يسمحون باستباحة مدينتهم ويشرّعون أبوابهم لهؤلاء المفسدين في الأرض".

القصص اعتبر في منشوره أن "طرابلس مستهدفة مجدّداً بهجوم جندري... عبر سينما أمبير هذه المرّة"، شارحاً "ما يؤكّد التهمة على هذا الفيلم أنّ الجمعيات الداعمة للنشاط هي جمعيات نسوية أو جندرية، ومنها مؤسّسة Kvinna till Kvinna، بالعربية: المرأة للمرأة. إنّها مؤسّسة سويدية المنشأ، أهمّ ما يلفت النظر فيها أنّ استراتيجيتها للفترة 2023-2028 تتضمّن العمل على مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي (الجندر)".

لكن رئيسة جمعية ورد للتنمية والتطوير، المعالجة النفسية والأسرية، مهى الأتاسي الجسر، تؤكد أن "من يقف خلف تجييش الشارع ضد الفيلم والجمعية هم أشخاص يستخدمون أسلوب الترهيب بهدف إحداث بلبلة ومن خلفها شهرة لهم، ادّعوا أننا نروّج للمثلية الجنسية قبل مشاهدتهم الفيلم، مع العلم أن محتواه مستوحى من قصص نساء طرابلسيات سبق أن خضعن للتدريب في جمعيتنا، اطلعنا على معاناتهن، فرغبنا بالإضاءة عليها كخطوة أولى لمعالجتها في المجتمع الذي تكثر فيه تلك المآسي ومحاكمنا المدنية والشرعية شاهدة على هذه الحالات".

وتشدد الأتاسي في حديث لموقع "الحرة" على أنه "كان يفترض بمن شنّوا الحملة على الفيلم تطبيق الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين. إلا أنهم هاجمونا من دون أن يتبيّنوا الحقيقة".

بين التوعية وعدم العبيثة

صوِّر "عبور"، وهو فيلم وثائقي مدته 12 دقيقة، في نوفمبر من العام الماضي، بما يتوافق كما تقول الأتاسي "مع البيئة الطرابلسية ومبادئها ومبادئ اللبنانيين، للمحافظة على الأسرة التي تعتبر أساس المجتمع، وهو يهدف إلى إيصال رسالة الباحثة النفسية ميلاني كلاين التي تؤكد أن وجه الأم مرآة لأطفالها، بمعنى أن حالتها النفسية تنعكس عليهم وكذلك على أسرتها وبالتالي المجتمع، فإما أن تكون رافعة أو مدمّرة لهم".

ومن أهداف الفيلم كذلك "الإضاءة على سلبيات العنف الاقتصادي المجتمعي وضرورة تمكين المرأة اقتصادياً كي تكون فعّالة ومنتجة ودعامة قوية لأسرتها وزوجها في ظل التحديات الاقتصادية الصعبة التي يمر بها البلد، وتوعيتها قانونياً على حقوقها وواجباتها، ونفسياً كي تنشر الإيجابية في محيطها".

تشابه الأسماء بين الفيلم اللبناني وفيلم تونسي يتحدث عن المثلية الجنسية هو الذي أدى إلى شن الحملة ضده، كما تقول الأتاسي، شارحة "أنهينا تصوير الفيلم (الذي تأخر عرضه لأسباب لوجستية)، قبل عرض الفيلم التونسي على يوتيوب، ولم نسمع بالأخير إلا حين شنّت الحملة ضدنا"، مشددة " تشابه الأسماء لا يعني تشابه المحتوى، كما أن وجود داعم سويدي مشترك لا يعني أننا انصعنا الى أجندات غربية لمجرد وجود تمويل، ولا يعني أننا تخلينا عن حضورنا المحافظ، فالجمعية والقيّمون عليها يلتزمون بمبادئهم ولهم القدرة على فرض شروطهم لتحقيق غاياتهم وغاية المجتمع الطرابلسي على خلاف الكثيرين".

وشددت "بعد الذي حصل سنبقي على اسم الفيلم مع إضافة كلمة ثانية له، أي عبور إلى... تلافياً لأي لغط مستقبلي، مع العلم أن خصّ كلمة عبور بمجتمع الميم عين أمر ظالم بحق لغتنا العربية الواسعة وتجهيلٌ للمعنى الأصلي للكلمة التي تعني الاجتياز، كما أننا بدأنا بتصوير جزء ثان للفيلم".

لكن القصص يرى في حديث لموقع "الحرة" أن "لا مسوغاً لاسم الفيلم ولم يقع الاختيار عليه عبثاً، بل لأن محركات البحث عنه عبر الإنترنت تؤدي إلى مصطلح العبور الذي يدل على التحوّل الجنسي، عدا عن وجود فيلم تونسي عن المثلية الجنسية يحمل ذات الاسم".

كما أن الترويج للفيلم استند كما يقول القصص على مصطلحات معادية للشريعة الإسلامية وعناوين مشبوهة لا بل مدانة، منها "النوع الاجتماعي الذي يعني الجندر، ويفيد بوجود أكثر من جنسين للإنسان، أي مجتمع الميم عين، كذلك مصطلح العنف الاقتصادي الذي يعني عدم المساواة بين الذكر والأنثى، ويقوم على رفض أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين في الإرث ورفض ولاية الأب على ابنته في التزويج وفكرة القوامة وغيرها"، ويشدد "أياً يكن مضمون الفيلم يكفي اسمه والشرح الذي روّج له للهجوم عليه".

من جانبه يرى مسؤول التواصل في منظمة حلم، ضوميط قزي، أن "الهجوم على الفيلم، هو نتيجة مباشرة لحملات التحريض ضد أفراد مجتمع الميم عين، هذه الحملات أصبحت عشوائية لذلك طالت الجمعيات النسوية المدافعة عن المرأة"، ويشرح "للأسف نحن نشهد قمعاً وحالات عنف غير مبررة تخرج أحياناً عن إطار المنطق كما حصل من خلال ربط فيلم عبور بالمثلية الجنسية، ما يعني أنه تمت شيطنته ليسحب بعدها من التداول إلى حين استبدال اسمه إرضاء لمن قادوا الحملة ضده".

تراجع تحت الضغط  

بعد الهجوم الذي شنّه القصص على الفيلم، وصلته رسالة من المسرح الوطني اللبناني، أفيد من خلالها أنه "ألغى عرض الفيلم إلى أن يتم التوضيح من الجهة المنظمة له للجهات التي اعترضت عليه".

ومما جاء في الرسالة أن "المسرح الوطني اللبناني هو مسرح مجاني مفتوح للجميع لعرض أعمالهم الفنية" وفيما يتعلق بفيلم عبور "ليس من إنتاج أو تنظيم المسرح"، وبناء لطلب الجهة المنتجة له "قدمنا لهم المسرح مجان لعرضه وإذا كان هناك أي اعتراض على ذلك يمكنكم توجيه اعتراضكم إلى الجهة المنتجة والمنظمة للفيلم فهي من يحق لها الرد". 

الأتاسي عبّرت عن استغرابها من موقف القيميين على المسرح الوطني اللبناني، لاسيما "لجهة نفيهم علمهم بالفيلم بعد تهديدهم من قبل مسلحين كما أطلعونا، رغم أن كل مشاهده صوّرت مدفوعة وليس مجاناً على مسرحه وبمشاهدة حيّة له وبمشاركة ممثلين الفيلم وهم أبناء المسرح الوطني، وقد برروا ذلك بخوفهم من التعرض لأي مكروه".

الخوف الأساسي كما تقول الأتاسي يجب أن يكون من المشاكل التي تعاني منها المرأة اللبنانية بشكل عام والطرابلسية بشكل خاص، ومنها "عدم الالتزام بما نصت عليه الأديان السماوية التي كرّمت المرأة وانصفتها، لذلك نجد أنها تحرم من الميراث وتعجز عن الحصول على طلاقها لعدم امتلاكها المال لدفع بدل أتعاب المحامي، ومنهن من لا يُسجَّل زواجهن في المحاكم الشرعية لأسباب مادية، وهناك من يُحرمن من اكمال تعليمهن أو يتعرضن للتنمر والتحرش والابتزاز في عملهن، أو يُستحوذ على ما ينتجنه من قبل والدهن أو زوجهن".

أما القصص فيعتبر أن "وضع المرأة في العالم الإسلامي بما فيه طرابلس ولبنان أفضل بكثير من وضعها في الحضارة والثقافة الغربية، والمشاكل التي أصابتها في بلادنا هي نتاج عدم تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل كاف، وحل ذلك يكون عبر هذه الأحكام وليس الانتقال إلى الثقافة الغربية".

يذكر أن الشهر الماضي تعرّض فيلم "باربي" لهجوم ترأسه وزير الثقافة اللبناني محمد وسام المرتضى، حيث طالب بمنع عرضه في البلاد بحجة ترويجه "للشذوذ والتحول الجنسي، وتعارضه مع القيم الأخلاقية والإيمانية"، حسب تعبيره، وبعد تأجيل عرضه وافقت اللجنة المكلفة بالرقابة على أفلام السينما في لبنان على طرحه في جميع دور العرض.

حملات ترهيبية

الحملات ضد مجتمع الميم عين في مدينة طرابلس شمال لبنان لم تقتصر على الفيلم، فقبل أيام اقتحم أفراد بتغطية إعلامية مركزاً للتوعية على الصحة الجنسية في مجمع الرحمة الطبي تديره جمعية مرسى، وذلك بذريعة الترويج للمثلية الجنسية، حيث قاموا بتفتيش محتوياته واستجواب الطبيبة المسؤولة عنه.

"الهجوم على مركز طبي يقدم خدمات الصحة الإنجابية والجنسية لكل أفراد المجتمع بغض النظر عن انتمائهم الديني وجنسيتهم وهويتهم وميولهم الجنسية، وذلك بعد الحديث عن ترويجه للمثلية ومن ثم الزنى، هو مؤشر لمنحى خطير" كما يشدد قزي، ويتساءل "ما الذي يمنع من تهجّموا على هذا المركز من الهجوم على صيدليات وعيادات طبية أخرى لمنع تقديم خدمات مشابهة"؟

المستغرب بحسب قزي أن "المركز مرخص ومدعوم من وزارة الصحة ومع ذلك لم يعلّق الوزير فراس أبيض على الحادثة، كذلك حال نقابة الأطباء والجسم الطبي، رغم أن السكوت عن ذلك يعني شرعنة الاعتداء على مراكز مشابهة في مناطق أخرى".

وبعد الهجوم على المركز، نفى مجمع الرحمة الطبي التابع لجمعية الشباب الإسلامي "بشكل قاطع تقديم خدمات لدعم المثلية أو التشجيع عليها" مشدداً في بيان على أن "تلك الأخبار ملفقة وغير صحيحة ولا تمت للواقع بأي صلة"، ومعتبراً أن "الصحة حق أساسي للإنسان، ومهمة مجمعنا الطبي تقديم الرعاية الصحية بأعلى مستوى من الجودة، ونحرص كل الحرص على الحفاظ على ثقافة مدينتنا مدينة العلم والعلماء وقيمها".

وشرح البيان أن المجمع يقدّم "خدمات طبية وتأهيلية بالشراكة مع وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية ودائرة الرعاية الصحية الأولية في وزارة الصحة" لافتاً إلى أن "مركز الرعاية الصحية الأولية يقدم كافة الخدمات الصحية ومن ضمنها خدمات الصحة الانجابية مثل متابعة المرأة الحامل وخدمات تنظيم الأسرة والكشف عن أمراض وسرطانات الجهاز التناسلي على يد نخبة من الأطباء الاختصاصيين بهدف تحسين صحة الأسرة".

خطورة.. رسمية

الأخطر أن مسؤولين لبنانيين مشاركون كما يقول قزي في "شيطنة المثلية الجنسية والتحريض عليها وتأجيج العنف ضدها"، آخرهم وزير الاعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد المكاري، الذي استقبل قبل أيام في مكتبه في الوزارة، وفداً ممن يطلقون على أنفسهم "إعلاميون وإعلاميات ضد الشذوذ الجنسي".

وبحسب الوكالة الوطنية للإعلام، ذكر المكاري أمام الوفد أن "موضوع الشذوذ اليوم هو هاجس كل البيوت والعائلات. ونحن في لبنان متمسكون بالقيم العائلية وبتراث اجتماعي معين، ولكن المشكلة ليست بسيطة ولا تعالج بسرعة ربما بمشاركة الجميع والوزارات المعنية لاسيما التربية والشؤون الاجتماعية ويجب أن يدرس في اتجاهات عدة والاتجاه الأساس، هو التربية من الأجيال الصغيرة وصعوداً".
 
أضاف المكاري "هناك أمر يتعلق بالتكنولوجيا لا أحد يستطيع ايقافه، كما أن هناك مسائل ايجابية وسلبية دخلت كل بيت. الاعلام عموماً ملتزم بالثوابت المتعلقة بهذا الموضوع وهناك ما هو متعلق بالإنترنت حيث إننا نفتقد القدرة على ضبط هذا الأمر"، لافتاً إلى أنه "نحن على استعداد في مؤسساتنا لنشر الوعي، فالموضوع ليس بصغير ولبنان يتعرض كباقي البلدان لهذه الأمور، ونحن مستعدون بالشراكة مع وزارات ومؤسسات اخرى للقيام بكل ما من شأنه حماية مجتمعنا وأسرنا وقيمنا الاجتماعية".

اعتبار وزير الإعلام أن "المثلية ضد قيم العائلة والأخلاق، أمر مخز ومخجل" كما يقول قزي "لاسيما وأنه يمثل جهة رسمية يفترض أن تساوي بين جميع المواطنين، وهذا التصويب على فئة من المجتمع يؤكد عجز الحكومة اللبنانية ووزرائها عن تحقيق أي إنجاز، لا بل على العكس هم يساهمون في تدهور البلد أكثر".

وتوجه قزي إلى من يطلقون على أنفسهم "اعلاميون واعلاميات ضد الشذوذ الجنسي" بالقول "عليكم معرفة أن الانقضاض على أفراد مجتمع الميم عين هو فتح باب الانقضاض على أي إنسان لمجرد ابداء رأيه، وأول من سيطالهم ذلك هم الصحفيين والإعلاميين".

"عندما يتبنى أمثال هؤلاء من الاعلاميين ما يتداوله البعض حول وجود حملات تروّج للمثلية أو ما يسمونه الشذوذ الجنسي"، يعني كما يقول قزي "أنهم يطلبون من السلطات ضبط الخطاب العام وبالتالي قمع الصحفيين ووسائل الاعلام، وهذا يتنافى مع دورهم المهني ويدفع إلى التساؤل فيما إن كانوا أبواقاً لأنظمة عسكرية أو ميليشيات دينية أو فعلاً أنهم إعلاميون هدفهم تغطية المسائل التي تعني جميع المواطنين ومن ضمنهم أفراد المجتمع الميم عين".