فاز الروائي المصري نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988.
في رواية "ثرثرة فوق النيل"، انتقد نجيب محفوظ حالة التيه التي سقطت فيها مصر بسبب الحُكم الناصري فأغضب المشير عبد الحكيم عامر وأمر بالقبض عليه، قبل أن يتراجَع عن ذلك.

كثيرةٌ هي الدراسات التي اعتنت بأدب نجيب محفوظ وتفاصيل رواياته التي أدهشت العالم بأسره، لكن قليلة هي المقالات التي اهتمّت ببحث ما وراء ذلك الأدب وبتفاصيل الحياة التي غذّت محفوظ بتلك التفاصيل المدهشة التي عبّر عنها أحسن تعبير في أعماله. فأدب محفوظ - كأي أدب في الدنيا- لم ينبت في رأس صاحبه من تلقاء نفسه، وإنما هو حصيلة تراكمات عديدة لمواقف حياتية كبيرة وصغيرة ازدحمت مع بعضها في ذهن صاحبها ثم صُهرت فخرجت إبداعًا.

لذا، من الضروري كي نفهم أدب نجيب محفوظ أكثر أن نبتعد أكثر وأكثر عن أدبه ونحاول التعرُّف على ما خفي من حياته بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة، والتي ستكون مفتاحًا رئيسيًا لتذوُّق رواياته وفهم أحداثها الرئيسية الكُبرى. لماذا كتب عن ثورة 1919م بحماس لم يفعل مثله مع ثورة يوليو؟ لماذا التزم بقالب الحارة المصرية في أغلب أعماله؟ وكيف عبّر عن آرائه السياسية أدبيًا على ألسنة أبطاله؟

ظلَّ محفوظ طوال حياته يحمل "الهوَى الحُسيني". فرغم انتقاله للسكن في أماكن أخرى "أكثر رقيًا"، حرص على زيارة حي الحسين كل يومٍ تقريبًا.

كل هذه الأسئلة لن يُمكننا التعرف على إجابتها إلا بتتبع سيرة ابن الحارة المصرية، الذي نشأ في أبنيتها العريقة التي يعود زمن إنشائها إلى مئات السنين، والذي كان سطح منزله يُطلُّ على مسجد الحسين، والذي تشرّب تاريخ مصر مبكرًا حتى أنه اعتقد -وهو طفل- أن جيرانه في الشارع هم الفاطميون والمماليك الذين أسسوا دولاً عظيمة في مصر قديمًا وقرأ عنهم في متون الكتب.

ظلَّ نجيب محفوظ طوال حياته يحمل "الهوَى الحُسيني". فرغم انتقاله للسكن في أماكن أخرى "أكثر رقيًا"، إلا أنه حرص على زيارة حي الحسين كل يومٍ تقريبًا لفترة طويلة من الزمن، وفعل ما هو أكثر حينما خلّد حارات القاهرة القديمة في رواياته، ونادرًا ما خرج روائيًا عن تلك العوالم، ليكون خير مُعبِّرٍ عنها وتكون هي خير مُعبرةٍ عنه.

ولأجل "الحالة المصرية القديمة" التي عاشها محفوظ حتى النخاع، فإنه لم يحب السفر للخارج أبدًا. وحتى حينما مُنح نوبل رفض السفر إلى السويد وأوفد ابنتيه بدلاً منه. طيلة حياته لم يغادر مصر –إلا مضطرًا- 3 مرات؛ رحلتان منهما إلى اليمن ويوغوسلافيا بأمرٍ من الرئيس جمال عبد الناصر أما الثالثة فكانت إلى لندن للعلاج.

 

مع السياسة أم ضدها

 

يُتَّهم محفوظ دائمًا بأنه كان ينأى بنفسه عن الغوص في السياسة. لذا كان نادرًا ما ينطق بكلمة مُعارِضة بحقِّ حاكم مصري، وهو ما يتّضح من مقالاته الصحفية التي لم تتعرّض أبدًا لشخص الرئيس وإنما تدور في فلك الكلام العائم الذي قد ينتقد سياسات الدولة بشكلٍ عام. هو "رجل اللا موقف" كما وصفه الشاعر نجيب سرور، أو "الذي يرتدي قفازات الحرير في خطابه السياسي والاجتماعي" كما وصفه الشاعر نزار قباني.

قد يكون في هذه الآراء شيئ من الصحة، لكنها - رغم ذلك - لم تتفهّم طبيعة محفوظ المُسالمة، والتي كانت تدفعه دائمًا للنأي عن التشاجر والاشتباك مع أي أحد وليس رجال السُلطة وحدهم. لكنّه في المقابل كان يتمرّد على تلك الطبيعة بشكلٍ غير مُباشر في رواياته ممارسًا ما يُمكن تسميته بـ"السياسة المخفية"؛ فكثيرًا ما كان يضع أبطاله في مواقع المُعارضة ويجعلهم ينطقون بأشدِّ عبارات النقد تجاه النظام الحاكم التي لا يستطيع التصريح بها بنفسه وإلا اعتُقل. وهو ما فعله مثلاً في "بداية ونهاية" التي فيها وجّه نقدًا حادًّا للنظام الملكي بعدما كشف حجم التفسّخ المجتمعي الذي ساد مصر في أواخر ذلك العهد، وهي الحالة التي مهّدت لقيام ثورة يوليو لاحقًا.

يحكي نجيب محفوظ أنه طيلة طفولته لم يدخل منزله إلا كتاب واحد أو اثنان منزله، لذا كان عليه أن يبذل جهدا مضاعفا في مرحلة شبابه لتعويض ما فاته من القراءة.

وفي رواية "ثرثرة فوق النيل"، انتقد حالة التيه التي سقطت فيها مصر بسبب الحُكم الناصري فأغضب المشير عبد الحكيم عامر قائد الجيش وأمر بالقبض عليه، قبل أن يتراجَع عن ذلك القرار لاحقًا.

أما في روايته "أمام العرش"، فأوضح آراءه في كافة حكام مصر بدايةً من الملك الفرعوني مينا وحتى أنور السادات بشكلٍ روائي أيضًا يسهل التملُّص منه لاحقًا حال مواجهته به، بعدما جعلهم يتقابلون جميعًا ويتبادلون النقاش والعتاب حول طريقة حُكم كل واحدٍ منهم للبلاد.

وكان لافتًا أن نجيب محفوظ أيضًا كان يحتج بالامتناع عن الكتابة أحيانًا، وهو ما فعله عقب قيام ثورة يوليو 1952، والتي دخلت في صدامٍ مع حزب الوفد - الذي كان ينتمي إليه نجيب ويمتلك أكبر شعبية في البلاد قبل الثورة- ومع تتالي المحاكمات التي عقدتها الثورة لقادة الوفد وحملات التشويه التي نُظمِّت لزعيمه مصطفى النحاس، اختار نجيب محفوظ أن يتوقّف عن الكتابة، وهو الحال الذي استمر 7 سنواتٍ كاملة عاد بعدها للتأليف عبر طرحه رواية "أولاد حارتنا".

لم يتورّع نجيب محفوظ عن أي عملٍ سياسي دعا إليه حزب الوفد؛ شارك في المظاهرات وكاد يُقتل في إحداها، وكان يحرص على حضور المؤتمرات الانتخابية لقادة الوفد.

وبشكلٍ عام، فإن نجيبًا لم يُمارس السياسة الفعلية إلا في أعوام طفولته ومراهقته، بعدما تفتّحت عيناه - وهو طفل- على مظاهرات 1919 التي كان يُشاهدها من مشربية منزله، وعلى والده وهو يوقّع توكيلات تأييد زعيم الوفد سعد زغلول. لذا فإنه نشأ عاشقًا لحزب الوفد، معتبرًا إياه أمل مصر الوحيد في الخلاص من الاحتلال الإنجليزي!.

لذا، لم يتورّع عن أي عملٍ سياسي دعا إليه الوفد؛ شارك في المظاهرات وكاد يُقتل في إحداها، كان يحرص على حضور المؤتمرات الانتخابية لقادة الوفد وعلى رأسهم سعد زغلول ومصطفى النحاس، أفسح المجال للحديث عن بطولات رجال الوفد ولثورة 1919م في أعماله، وأهمها "الثلاثية".

ولا شك فإن النهج المُعادي الذي سارت فيه ثورة يوليو ضد حزب الوفد لعب دورًا في إسكات محفوظ، وهو الأمر الذي تحوّل إلى عادة استمرّت معه حتى مات، فإذا أردنا تتبّع آرائه المُعارِضة لن يكون علينا قراءة مقالاته، بل رواياته.

 

نجيب محفوظ والنساء

 

لعبت نشأة محفوظ دورًا معقدًا في بناء علاقاته بالنساء، فهو ينحدر من أسرة كبيرة فيها إخوة وأخوات إلا أنهم جميعًا كانوا أكبر منه بفارق كبير، فما أن شبَّ وعيه حتى وجد نفسه طفلاً وحيدًا تعتني به أمه في ظل انشغال والده الدائم بأعماله ثم موته المفاجئ بينما عمّرت والدته طويلاً ما سمح لها بأن تطبع شخصيتها عليه كثيرًا.

لسببٍ مجهول لا يعرفه محفوظ نفسه، كانت أمه تحرص على اصطحابه لزيارة الأماكن التاريخية؛ المتاحف، المساجد والكنائس القديمة وغيرها. وبالطبع فإن زيارة مسجد الحسين كانت طقسًا أساسيًّا في صِغره.

الغريب، أن محفوظًا لم يتربَّ على القراءة. يحكي أنه طيلة طفولته لم يدخل منزله إلا كتاب واحد أو اثنان كانا هدية من أحد أصدقاء والده، وهو ما وضعه في مأزق كبير عقب بلوغه مرحلة الشباب بسبب إحساسه المستمر أنه يحتاج لوقتٍ ومجهود كبيرين لتعويض ما فاته من زمن لم يكن يقرأ فيه بانتظام، وهو ما عوّضه بنظامٍ صارم يقرأ فيه 3 ساعات يوميًّا كل ما يصله من أدب عالمي وعربي.

الرئيس المصري محمد حسني مبارك مستقبلا نجيب محفوظ في نوفمبر 1988، أياما قليلة عقب فوزه نوبل.

بخلاف علاقته بأمّه، كان محفوظ على موعدٍ مع قِصّة الحب الأولى في حياته وهي فتاة جميلة كانت تقطن في منزلٍ مجاور في العباسية. كان يستمتع بمجرد النظر إليها، وهي اللحظات التي استلهم منها لاحقًا بعض لحظات الحب التي جمعت بين فهمي عبد الجواد -أحد أبطال الثلاثية- وبين جارته بعدما تبادلا الإعجاب. في كلتا الحالتين فشل محفوظ وفهمي في الظفر بحبيبتيهما؛ مات فهمي مبكرًا أما محفوظ فقد ضاعت منه قصة حُبه الأول بسبب صغر سِنه.

وعقب مرور بعض السنوات على واقعة "ضياع الحُب الأول"، يسقط محفوظ في حياة العربدة الكاملة بعدما أصبح زبونًا دائمًا على بيوت الدعارة الرسمية والسرية، وكذا بات من رواد الكباريهات. في هذه الفترة، وصف محفوظ سلوكه بأنه كان سلوك "حيوان جنسي". وهنا، يجب أن نعلم أن الدعارة لم تكن نشاطًا مجرّمًا في مصر، وإنما كانت "محلات العاهرات" تُفتح بمقتضى رخصة رسمية من وزارة الداخلية، وظلَّت هذه الممارسات قانونية حتى عام 1949م.

لم يتوقف نجيب عن هذا الشره إلا عقب زواجه من أخت صديقه، وهي الزيجة التي قام بها سرًّا خوفًا من إغضاب والدته التي كانت تُخطط لتزويجه من إحدى قريباتها. تزوّج محفوظ من "عطية الله" في إحدى العوامات المبنية على النيل، وهو المكان الذي قضى فيه "أسعد أيام حياته" على حد وصفه، ليس فقط لأنه استمتع فيه بلحظات زواجه الأولى، ولكن لأنه كان يُطلُّ على النيل معشوقه الأول.

عُرف عن محفوظ عشقه الجامح للنيل، حتى أنه كان كثيرًا ما يتجوّل جواره لساعاتٍ طويلة لا يفعل شيئا غير تأمّل صفحة المياه الرمادية الهادئة، وهو ما انطبع في الكثير من رواياته وفي مشاهد سير أبطالها بمحاذاة النيل للتفكير في حياتهم، كأنه يصف نفسه هو وليسوا هُم!

أكثر ما أحبّه محفوظ في زوجته "عطية الله"، أنها كانت مُتفهّمة لطقوسه في الكتابة ورفضه إضاعة وقته في المناسبات الاجتماعية، وهي الطِباع التي لم تحاول أن تغيّرها، بل تواءمت معها وهيأت له أفضل الأجواء الممكنة للكتابة الهادئة، وهو الجميل الذي يدين فيه لزوجته بالكثير من الفضل.

 

السادات: نجيب محفوظ حشاش!

 

قبيل حرب أكتوبر، أقدم نجيب محفوظ على فِعلة نادرة وهي مُعارَضة رأس الدولة، بعدما أقدم رفقة أعضاء فريق المثقفين المصريين -بصحبة توفيق الحكيم- على توقيع بيان يُطالب بإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب. هذه الخطوة أغضبت السادات فأمر بمنع المُوقِّعين جميعًا من الكتابة في الصُحف الحكومية وقال جملة شهيرة بحقّ أديب نوبل "حتى الحشّاش اللي اسمه نجيب محفوظ وقّع معاهم"، المفارقة أن السادات نفسه كان معروفًا بشُرب الحشيش!

في هذه الجُملة لم يتجنَّ السادات كثيرًا على محفوظ، والذي اعترف -أكثر من مرة- بأنه اعتاد تناول الحشيش كثيرًا. ولفهم هذا الأمر يجب وضعه في سياقه الاجتماعي وفي سياق حياة نجيب محفوظ نفسها. اعتاد محفوظ الجلوس لساعاتٍ طويلة في المقاهي يتأمل في وجوه الناس ويستلهم منهم حكايات يقصّها روائيًا حتى أنه اعتبر "المقهى" أحد الأعمدة الرئيسية لتجربته الروائية.

نجيب محفوظ يجلس مبتسما في مقهاه المفضل وسط القاهرة، في اليوم الذي أعلن فيه عن فوزه بجائزة نوبل للآداب في أكتوبر عام 1988.

وفي وقتٍ ما من تاريخ مصر، لم يكن الحشيش ممنوعًا في البلاد، بل كان الناس يشربونه علنًا في المقاهي سعيًا لـ"نيل شعورٍ بالانبساط يُساعدهم على التجلي" حسبما حكى محفوظ لاحقًا.

بل إن كثيرًا من الصُحف والأطباء في ذلك العصر كانوا ينظمون حملات كبيرة للترويج للحشيش بين الناس بسبب فوائده الطبية! بل إن للفنان الشعبي الشهير سيد درويش أغنية شهيرة يُشيد فيها بالحشيش قائلاً "ده الكيف مزاجه إذا تسلطن .. أخوك ساعتها يحن شوقا إلى حشيشي ميتى ميشي".

يحكي محفوظ: "عرفت الحشيش عن طريق أحد أصدقائي، وكنا نشربه بصورة علنية في المقاهي وبحسبة رجال الأمن أحيانًا". ويعتبر أن الحشيش كان "نِعم الصديق" للمصريين بسبب المحن الكثيرة التي مرّوا بها ومن كثرة شيوعه اعتبر أنه "ما من مصري من أولاد البلد إلا ويحمل صفة حشاش"!.

مراجع إضافية

  • "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، رجاء النقاش (كتاب)
  • "نجيب محفوظ يتذكر"، جمال الغيطاني (كتاب)
  • "نجيب محفوظ.. وطني مصر"، محمد سلماوي (كتاب)
  • "نجيب محفوظ والسياسة"، محمد الجوادي (كتاب)

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".