كثيرةٌ هي الدراسات التي اعتنت بأدب نجيب محفوظ وتفاصيل رواياته التي أدهشت العالم بأسره، لكن قليلة هي المقالات التي اهتمّت ببحث ما وراء ذلك الأدب وبتفاصيل الحياة التي غذّت محفوظ بتلك التفاصيل المدهشة التي عبّر عنها أحسن تعبير في أعماله. فأدب محفوظ - كأي أدب في الدنيا- لم ينبت في رأس صاحبه من تلقاء نفسه، وإنما هو حصيلة تراكمات عديدة لمواقف حياتية كبيرة وصغيرة ازدحمت مع بعضها في ذهن صاحبها ثم صُهرت فخرجت إبداعًا.
لذا، من الضروري كي نفهم أدب نجيب محفوظ أكثر أن نبتعد أكثر وأكثر عن أدبه ونحاول التعرُّف على ما خفي من حياته بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة، والتي ستكون مفتاحًا رئيسيًا لتذوُّق رواياته وفهم أحداثها الرئيسية الكُبرى. لماذا كتب عن ثورة 1919م بحماس لم يفعل مثله مع ثورة يوليو؟ لماذا التزم بقالب الحارة المصرية في أغلب أعماله؟ وكيف عبّر عن آرائه السياسية أدبيًا على ألسنة أبطاله؟
ظلَّ محفوظ طوال حياته يحمل "الهوَى الحُسيني". فرغم انتقاله للسكن في أماكن أخرى "أكثر رقيًا"، حرص على زيارة حي الحسين كل يومٍ تقريبًا.
كل هذه الأسئلة لن يُمكننا التعرف على إجابتها إلا بتتبع سيرة ابن الحارة المصرية، الذي نشأ في أبنيتها العريقة التي يعود زمن إنشائها إلى مئات السنين، والذي كان سطح منزله يُطلُّ على مسجد الحسين، والذي تشرّب تاريخ مصر مبكرًا حتى أنه اعتقد -وهو طفل- أن جيرانه في الشارع هم الفاطميون والمماليك الذين أسسوا دولاً عظيمة في مصر قديمًا وقرأ عنهم في متون الكتب.
ظلَّ نجيب محفوظ طوال حياته يحمل "الهوَى الحُسيني". فرغم انتقاله للسكن في أماكن أخرى "أكثر رقيًا"، إلا أنه حرص على زيارة حي الحسين كل يومٍ تقريبًا لفترة طويلة من الزمن، وفعل ما هو أكثر حينما خلّد حارات القاهرة القديمة في رواياته، ونادرًا ما خرج روائيًا عن تلك العوالم، ليكون خير مُعبِّرٍ عنها وتكون هي خير مُعبرةٍ عنه.
ولأجل "الحالة المصرية القديمة" التي عاشها محفوظ حتى النخاع، فإنه لم يحب السفر للخارج أبدًا. وحتى حينما مُنح نوبل رفض السفر إلى السويد وأوفد ابنتيه بدلاً منه. طيلة حياته لم يغادر مصر –إلا مضطرًا- 3 مرات؛ رحلتان منهما إلى اليمن ويوغوسلافيا بأمرٍ من الرئيس جمال عبد الناصر أما الثالثة فكانت إلى لندن للعلاج.
مع السياسة أم ضدها
يُتَّهم محفوظ دائمًا بأنه كان ينأى بنفسه عن الغوص في السياسة. لذا كان نادرًا ما ينطق بكلمة مُعارِضة بحقِّ حاكم مصري، وهو ما يتّضح من مقالاته الصحفية التي لم تتعرّض أبدًا لشخص الرئيس وإنما تدور في فلك الكلام العائم الذي قد ينتقد سياسات الدولة بشكلٍ عام. هو "رجل اللا موقف" كما وصفه الشاعر نجيب سرور، أو "الذي يرتدي قفازات الحرير في خطابه السياسي والاجتماعي" كما وصفه الشاعر نزار قباني.
قد يكون في هذه الآراء شيئ من الصحة، لكنها - رغم ذلك - لم تتفهّم طبيعة محفوظ المُسالمة، والتي كانت تدفعه دائمًا للنأي عن التشاجر والاشتباك مع أي أحد وليس رجال السُلطة وحدهم. لكنّه في المقابل كان يتمرّد على تلك الطبيعة بشكلٍ غير مُباشر في رواياته ممارسًا ما يُمكن تسميته بـ"السياسة المخفية"؛ فكثيرًا ما كان يضع أبطاله في مواقع المُعارضة ويجعلهم ينطقون بأشدِّ عبارات النقد تجاه النظام الحاكم التي لا يستطيع التصريح بها بنفسه وإلا اعتُقل. وهو ما فعله مثلاً في "بداية ونهاية" التي فيها وجّه نقدًا حادًّا للنظام الملكي بعدما كشف حجم التفسّخ المجتمعي الذي ساد مصر في أواخر ذلك العهد، وهي الحالة التي مهّدت لقيام ثورة يوليو لاحقًا.
وفي رواية "ثرثرة فوق النيل"، انتقد حالة التيه التي سقطت فيها مصر بسبب الحُكم الناصري فأغضب المشير عبد الحكيم عامر قائد الجيش وأمر بالقبض عليه، قبل أن يتراجَع عن ذلك القرار لاحقًا.
أما في روايته "أمام العرش"، فأوضح آراءه في كافة حكام مصر بدايةً من الملك الفرعوني مينا وحتى أنور السادات بشكلٍ روائي أيضًا يسهل التملُّص منه لاحقًا حال مواجهته به، بعدما جعلهم يتقابلون جميعًا ويتبادلون النقاش والعتاب حول طريقة حُكم كل واحدٍ منهم للبلاد.
وكان لافتًا أن نجيب محفوظ أيضًا كان يحتج بالامتناع عن الكتابة أحيانًا، وهو ما فعله عقب قيام ثورة يوليو 1952، والتي دخلت في صدامٍ مع حزب الوفد - الذي كان ينتمي إليه نجيب ويمتلك أكبر شعبية في البلاد قبل الثورة- ومع تتالي المحاكمات التي عقدتها الثورة لقادة الوفد وحملات التشويه التي نُظمِّت لزعيمه مصطفى النحاس، اختار نجيب محفوظ أن يتوقّف عن الكتابة، وهو الحال الذي استمر 7 سنواتٍ كاملة عاد بعدها للتأليف عبر طرحه رواية "أولاد حارتنا".
لم يتورّع نجيب محفوظ عن أي عملٍ سياسي دعا إليه حزب الوفد؛ شارك في المظاهرات وكاد يُقتل في إحداها، وكان يحرص على حضور المؤتمرات الانتخابية لقادة الوفد.
وبشكلٍ عام، فإن نجيبًا لم يُمارس السياسة الفعلية إلا في أعوام طفولته ومراهقته، بعدما تفتّحت عيناه - وهو طفل- على مظاهرات 1919 التي كان يُشاهدها من مشربية منزله، وعلى والده وهو يوقّع توكيلات تأييد زعيم الوفد سعد زغلول. لذا فإنه نشأ عاشقًا لحزب الوفد، معتبرًا إياه أمل مصر الوحيد في الخلاص من الاحتلال الإنجليزي!.
لذا، لم يتورّع عن أي عملٍ سياسي دعا إليه الوفد؛ شارك في المظاهرات وكاد يُقتل في إحداها، كان يحرص على حضور المؤتمرات الانتخابية لقادة الوفد وعلى رأسهم سعد زغلول ومصطفى النحاس، أفسح المجال للحديث عن بطولات رجال الوفد ولثورة 1919م في أعماله، وأهمها "الثلاثية".
ولا شك فإن النهج المُعادي الذي سارت فيه ثورة يوليو ضد حزب الوفد لعب دورًا في إسكات محفوظ، وهو الأمر الذي تحوّل إلى عادة استمرّت معه حتى مات، فإذا أردنا تتبّع آرائه المُعارِضة لن يكون علينا قراءة مقالاته، بل رواياته.
نجيب محفوظ والنساء
لعبت نشأة محفوظ دورًا معقدًا في بناء علاقاته بالنساء، فهو ينحدر من أسرة كبيرة فيها إخوة وأخوات إلا أنهم جميعًا كانوا أكبر منه بفارق كبير، فما أن شبَّ وعيه حتى وجد نفسه طفلاً وحيدًا تعتني به أمه في ظل انشغال والده الدائم بأعماله ثم موته المفاجئ بينما عمّرت والدته طويلاً ما سمح لها بأن تطبع شخصيتها عليه كثيرًا.
لسببٍ مجهول لا يعرفه محفوظ نفسه، كانت أمه تحرص على اصطحابه لزيارة الأماكن التاريخية؛ المتاحف، المساجد والكنائس القديمة وغيرها. وبالطبع فإن زيارة مسجد الحسين كانت طقسًا أساسيًّا في صِغره.
الغريب، أن محفوظًا لم يتربَّ على القراءة. يحكي أنه طيلة طفولته لم يدخل منزله إلا كتاب واحد أو اثنان كانا هدية من أحد أصدقاء والده، وهو ما وضعه في مأزق كبير عقب بلوغه مرحلة الشباب بسبب إحساسه المستمر أنه يحتاج لوقتٍ ومجهود كبيرين لتعويض ما فاته من زمن لم يكن يقرأ فيه بانتظام، وهو ما عوّضه بنظامٍ صارم يقرأ فيه 3 ساعات يوميًّا كل ما يصله من أدب عالمي وعربي.
بخلاف علاقته بأمّه، كان محفوظ على موعدٍ مع قِصّة الحب الأولى في حياته وهي فتاة جميلة كانت تقطن في منزلٍ مجاور في العباسية. كان يستمتع بمجرد النظر إليها، وهي اللحظات التي استلهم منها لاحقًا بعض لحظات الحب التي جمعت بين فهمي عبد الجواد -أحد أبطال الثلاثية- وبين جارته بعدما تبادلا الإعجاب. في كلتا الحالتين فشل محفوظ وفهمي في الظفر بحبيبتيهما؛ مات فهمي مبكرًا أما محفوظ فقد ضاعت منه قصة حُبه الأول بسبب صغر سِنه.
وعقب مرور بعض السنوات على واقعة "ضياع الحُب الأول"، يسقط محفوظ في حياة العربدة الكاملة بعدما أصبح زبونًا دائمًا على بيوت الدعارة الرسمية والسرية، وكذا بات من رواد الكباريهات. في هذه الفترة، وصف محفوظ سلوكه بأنه كان سلوك "حيوان جنسي". وهنا، يجب أن نعلم أن الدعارة لم تكن نشاطًا مجرّمًا في مصر، وإنما كانت "محلات العاهرات" تُفتح بمقتضى رخصة رسمية من وزارة الداخلية، وظلَّت هذه الممارسات قانونية حتى عام 1949م.

لم يتوقف نجيب عن هذا الشره إلا عقب زواجه من أخت صديقه، وهي الزيجة التي قام بها سرًّا خوفًا من إغضاب والدته التي كانت تُخطط لتزويجه من إحدى قريباتها. تزوّج محفوظ من "عطية الله" في إحدى العوامات المبنية على النيل، وهو المكان الذي قضى فيه "أسعد أيام حياته" على حد وصفه، ليس فقط لأنه استمتع فيه بلحظات زواجه الأولى، ولكن لأنه كان يُطلُّ على النيل معشوقه الأول.
عُرف عن محفوظ عشقه الجامح للنيل، حتى أنه كان كثيرًا ما يتجوّل جواره لساعاتٍ طويلة لا يفعل شيئا غير تأمّل صفحة المياه الرمادية الهادئة، وهو ما انطبع في الكثير من رواياته وفي مشاهد سير أبطالها بمحاذاة النيل للتفكير في حياتهم، كأنه يصف نفسه هو وليسوا هُم!
أكثر ما أحبّه محفوظ في زوجته "عطية الله"، أنها كانت مُتفهّمة لطقوسه في الكتابة ورفضه إضاعة وقته في المناسبات الاجتماعية، وهي الطِباع التي لم تحاول أن تغيّرها، بل تواءمت معها وهيأت له أفضل الأجواء الممكنة للكتابة الهادئة، وهو الجميل الذي يدين فيه لزوجته بالكثير من الفضل.
السادات: نجيب محفوظ حشاش!
قبيل حرب أكتوبر، أقدم نجيب محفوظ على فِعلة نادرة وهي مُعارَضة رأس الدولة، بعدما أقدم رفقة أعضاء فريق المثقفين المصريين -بصحبة توفيق الحكيم- على توقيع بيان يُطالب بإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب. هذه الخطوة أغضبت السادات فأمر بمنع المُوقِّعين جميعًا من الكتابة في الصُحف الحكومية وقال جملة شهيرة بحقّ أديب نوبل "حتى الحشّاش اللي اسمه نجيب محفوظ وقّع معاهم"، المفارقة أن السادات نفسه كان معروفًا بشُرب الحشيش!
في هذه الجُملة لم يتجنَّ السادات كثيرًا على محفوظ، والذي اعترف -أكثر من مرة- بأنه اعتاد تناول الحشيش كثيرًا. ولفهم هذا الأمر يجب وضعه في سياقه الاجتماعي وفي سياق حياة نجيب محفوظ نفسها. اعتاد محفوظ الجلوس لساعاتٍ طويلة في المقاهي يتأمل في وجوه الناس ويستلهم منهم حكايات يقصّها روائيًا حتى أنه اعتبر "المقهى" أحد الأعمدة الرئيسية لتجربته الروائية.
وفي وقتٍ ما من تاريخ مصر، لم يكن الحشيش ممنوعًا في البلاد، بل كان الناس يشربونه علنًا في المقاهي سعيًا لـ"نيل شعورٍ بالانبساط يُساعدهم على التجلي" حسبما حكى محفوظ لاحقًا.
بل إن كثيرًا من الصُحف والأطباء في ذلك العصر كانوا ينظمون حملات كبيرة للترويج للحشيش بين الناس بسبب فوائده الطبية! بل إن للفنان الشعبي الشهير سيد درويش أغنية شهيرة يُشيد فيها بالحشيش قائلاً "ده الكيف مزاجه إذا تسلطن .. أخوك ساعتها يحن شوقا إلى حشيشي ميتى ميشي".
يحكي محفوظ: "عرفت الحشيش عن طريق أحد أصدقائي، وكنا نشربه بصورة علنية في المقاهي وبحسبة رجال الأمن أحيانًا". ويعتبر أن الحشيش كان "نِعم الصديق" للمصريين بسبب المحن الكثيرة التي مرّوا بها ومن كثرة شيوعه اعتبر أنه "ما من مصري من أولاد البلد إلا ويحمل صفة حشاش"!.
مراجع إضافية
- "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، رجاء النقاش (كتاب)
- "نجيب محفوظ يتذكر"، جمال الغيطاني (كتاب)
- "نجيب محفوظ.. وطني مصر"، محمد سلماوي (كتاب)
- "نجيب محفوظ والسياسة"، محمد الجوادي (كتاب)