أثارت رواية "عزازيل" جدلا واسعا بعد صدورها سنة 2008.
أثارت رواية "عزازيل" جدلا واسعا بعد صدورها سنة 2008.

عرفت الأوساط الثقافية العربية المعاصرة ظهور العديد من الكتب الجدلية. أثارت تلك الكتب عواصف من النقاش والأخذ والرد بين من وافق على ما دون فيها من أفكار، ومن رفضها وأتهم أصحابها بالكفر والزندقة والدعوة إلى لإلحاد.

نلقي الضوء في هذا المقال على عشرة كتب كانت في قلب العاصفة، لنعرف سياقاتها وأسباب الجدل الذي خلفته.

  • "تحرير المرأة" لقاسم أمين

صدر هذا الكتاب سنة 1899م. وأثار ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية والأوساط العامة على حد سواء.

دافع أمين في الكتاب عن المرأة. وطالب بالسماح بمشاركتها في كافة الأنشطة الاجتماعية، فقال: "من احتقار المرأة أن يحال بينها وبين الحياة العامـة والعمل في أي شيء يتعلَّق بها؛ فليس لها رأي في الأعمال، ولا فكر في المشارب، ولا ذوق في الفنون، ولا قدم في المنافع العامـة، ولا مقام في الاعتقادات الدينية، وليس لها فضيلة وطنيَّـة ولا شعور ملي...".

تعرض الكتاب للنقد اللاذع من جانب الكثير من المفكرين. على سبيل المثال رد عليه طلعت حرب بكتاب "تربية المرأة والحجاب". وقال: "أسمينا الكتاب تربية المرأة والحجاب، وهو اسم كنا نتمنى أن يجعله حضرة قاسم بك أمين عنوانًا لكتابه فإنه أليق من اسم تحرير المرأة…".

دافع العديد من الكتاب اللاحقين عن الكتاب فيما بعد. من هؤلاء الكاتب المصري محمد عمارة الذي قال في كتابه "قاسم أمين: تحرير المرأة والتمدن الإسلامي" "على عظم الضجة وضخامة الرفض اللذين قوبلت بهما صيحات قاسم أمين، فإن مطالب الرجل كانت متواضعة، بل شديدة التواضع، إذا ما قيست بما يجب لتحرير المرأة حقًا".

  • "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق

صدر هذا الكتاب سنة 1925، بعد سنة واحدة من سقوط الخلافة العثمانية. قلل عبد الرازق في الكتاب من مركزية منصب الخلافة في الإسلام. فقال إن: "الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام وأن هذه المسألة دنيوية سياسية أكثر من كونها مسألة دينية، ولم يرد بيان في القرآن ولا في الأحاديث النبوية في كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه".

في السياق نفسه، ذهب المؤلف إلى أن "زعامة النبي كانت زعامة دينية جاءت عن طريق الرسالة لا غير وقد انتهت الرسالة بموته فانتهت الزعامة... فإن كان لابد من زعامة بين أتباع النبي، فإنما تلك زعامة جديدة غير التي عرفناها للرسول... من نوع لا ديني".

اُنتقد المؤلف من قِبل المؤسسة الدينية. وأثارت أفكاره حفيظة القصر الملكي خصوصًا أن الملك فؤاد الأول -ملك مصر آنذاك- كان يُمَنّي نفسه بلقب الخلافة. تعرض علي عبد الرازق للكثير من المتاعب بعد صدور كتابه. مُنع الكتاب من التداول، وفُصل عبد الرازق من الأزهر، كما جُرد من شهادة العالمية. في السياق نفسه، ظهرت الكثير من الكتب التي انتقدته نقدًا لاذعًا. من أهم تلك الكتب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" لشيخ الأزهر محمد الخضر حسين، و"حقيقة الإسلام وأصول الحكم" لمحمد بخيت المطيعي، و"أصول الحكم في الإسلام" لعبد الرزاق السنهوري.

  • "في الشعر الجاهلي" لطه حسين

صدر الكتاب سنة 1926م عن دار الكتب المصرية. وأثار حالة واسعة من الجدل بين الخاصة والعامة. أُتهم طه حسين بالردة والكفر ومحاربة الإسلام. وحُركت ضده بعض الدعاوى القضائية. كانت الفكرة الرئيسة للكتاب هي التشكيك في الشعر الجاهلي المنقول لنا في المصادر التاريخية. يقول حسين معبرًا عن تلك الفكرة: "...إنني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك، أو قل ألح عليّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إن لم يكن يقيناً فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام...".

انتقد الكثيرون ذلك الرأي وقالوا بأن عميد الأدب العربي اقتبسه من بعض المستشرقين. زاد من الانتقادات الموجهة للكتاب أن بعض المقاطع الواردة فيه شككت في وجود بعض الشخصيات الدينية المهمة. من تلك المقاطع "...للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي...". رأى الكثير من علماء الأزهر أن حسين شكك في صحة وموثوقية القرآن. مُنع الكتاب من التداول لفترة ثم أُعيد طرحه تحت عنوان "في الأدب الجاهلي"، كما حفظت النيابة كافة البلاغات المقدمة ضد طه حسين.

  • "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ

نُشرت الرواية لأول مرة سنة 1950م على شكل سلسلة من الحلقات في جريدة الأهرام المصرية. لم يكتمل نشر الحلقات بسبب ردود الأفعال العنيفة التي تصاعدت ضد الرواية. ونُشرت في بيروت كاملة للمرة الأولى سنة 1967م. بينما مُنعت في مصر لفترة طويلة من التداول.

تدور أحداث الرواية في حارة من حارات صحراء المقطم في العاصمة المصرية القاهرة. تتناول القصة شخصية الجبلاوي الذي يمتلك بيتًا كبيرًا ويتمتع بالمهابة والقوة. يقع الصراع بين ابني الجبلاوي أدهم وإدريس. ويُطرد الأخوان من البيت وينزلا إلى الحارة. تحكي الرواية قصص أحفاد أدهم -جبل ورفاعة وقاسم- وكيف تمكنوا من التغلب على الشرور التي واجهوها جيلًا بعد آخر.

أحدثت الرواية جدلًا واسعًا في المجتمع المصري. اُتهم محفوظ بالإساءة إلى مقام الذات الإلهية والأنبياء والرسل. وتعرَّض لمحاولة اغتيال بسببها سنة 1994م، وذلك عندما أقدم شابان على الشروع في قتله بسبب ما ورد في الرواية من أفكار كفرية بحسب ما ذكرا!

دافع محفوظ عن روايته وما ورد فيها من رمزيات، فقال: "هي لم تناقش مشكلة اجتماعية واضحة كما اعتدت في أعمالي قبلها، بل هي أقرب إلى النظرة الكونية الإنسانية العامة".

كانت رواية "أولاد حارتنا" واحدة من أربع روايات منحت محفوظ جائزة نوبل للآداب سنة 1988م. تسبب ذلك في شيوع الكثير من نظريات المؤامرة حول الرواية ولا سيما بين الأصوليين الذين أرجعوا حصول محفوظ على الجائزة لما جاء فيها من أفكار مخالفة للدين والشريعة الإسلامية!

  • "الله والإنسان" لمصطفى محمود

صدر هذا الكتاب سنة 1955م عن دار المعارف بالقاهرة. ومُنع من التداول، وأُتهم مؤلفه بالدعوة للإلحاد وتم تقديمه للمحاكمة. ورد في التقرير الذي أعدتّه دار الإفتاء عن الكتاب أن المؤلف حاول أن يشخص أمراض وعيوب المجتمعات الإسلامية المعاصرة "…ولو أنصف -يقصد المؤلف- لعالج هذه العيوب من طريق آخر غير طريق الهجوم على الدين الإسلامي وعلى الأديان كلها هجومًا واضحًا نلمسه في كتابه في كثير من المواطن…".

تحول مصطفى محمود بعد ما يقرب من الثلاثين عامًا من نشر الكتاب ليصبح واحدًا من أشد المدافعين عن الإيمان. وبقي كتاب "الله والإنسان" شاهدًا على أفكاره في المرحلة المبكرة من حياته.

  • "معالم في الطريق" لسيد قطب

كتب المفكر الإسلامي سيد قطب هذا الكتاب خلال فترة سجنه في مستشفى ليمان طرة سنة 1954م. يذكر العديد من الباحثين أن شقيقة قطب اضطلعت بمهمة تهريب الكتاب من السجن أثناء زياراتها المتكررة للمستشفى. نُشر الكتاب للمرة الأولى -بشكل كامل- عن دار وهبة في القاهرة سنة 1964م.

تسبب هذا الكتاب في شق صف الإسلاميين في حقبة الستينات من القرن العشرين. وافق الكثير من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين على أفكار قطب الواردة في الكتاب، بينما رُفضت تلك الأفكار من قِبل أغلبية الأعضاء. في هذا السياق، كتب حسن الهضيبي المرشد العام الأسبق للجماعة كتابه الشهير "دعاة لا قضاة" للرد على أفكار قطب.

يُعد كتاب معالم في الطريق واحداً من أهمّ الكتب المؤثرة في الوجدان الأصولي المعاصر لمّا ورد فيه من أفكار اعتمدت عليها الحركات الجهادية جيلًا بعد آخر. طرح قطب في كتابه فكرة الجاهلية. وأكد "أنَّ الأرض لله، ويجب أن تخلص لله، ولا تخلص لله إلَا أن ترتفع عليها راية لا إله إلّا الله، وليس الطريق أن يتحرَّر النّاس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو فارسي إلى طاغوت عربي، فالطاغوت كلّه طاغوت...".

أعاد المؤلف تقديم الخطاب الفقهي القديم الذي اعتاد تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، فقال: "إنَّ هناك داراً واحدة هي دار الإسلام، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله، وتُقام فيها حدوده، ويتولَّى المسلمون فيها بعضهم بعضًا، وما عداها فهي دار حرب، علاقة المسلم بها إمَّا القتال، وإمَّا المهادنة على عهد الأمان، ولكنَّها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين".

يبني المؤلف على تلك الأفكار فينتهي إلى أن "المجتمع الإسلامي -بصفته تلك- هو وحده المجتمع المتحضر، والمجتمعات الجاهليَّة -بكلّ صورها المتعددة- مجتمعات متخلّفة". يتجدد الجدل حول الكتاب حتى اللحظة. وتُعاد قراءته كثيرًا من قِبل التنظيمات الجهادية المسلحة في شتى أنحاء العالم.

  • "آيات شيطانية" لسلمان رشدي

صدرت هذه الرواية في لندن سنة 1988م للمؤلف سلمان رشدي، وهو كاتب بريطاني من أصل هندي. تبدأ الرواية بتخيل وقوع حادث إرهابي في طائرة، فيموت جميع ركابها وينجو اثنان فقط. الأول وهو "جبريل" رمز الخير، والآخر وهو الشيطان رمز الشر. اعتمد رشدي في كتابه على بعض الروايات التراثية التي تذكر أن الشيطان تمكن ذات مرة من خداع النبي محمد. فقرأ النبي كلمات إبليس وهو يظن أنها من كلام الله. استغل رشدي تلك الرواية لرسم صورة مشوهة لنبي الإسلام. يظهر النبي في الرواية بصفته مريضًا نفسيًا، وبكونه نموذجًا للشخصية النفعية الانتهازية التي تلجأ لشتى الوسائل بغية الوصول لأهدافها.

أثارت الرواية ردود أفعال غاضبة واسعة النطاق. بعث متشددون برسائل تهديد لسلمان رشدي ولدار النشر التي أصدرت الرواية. ومُنع الكتاب من التداول في أغلبية الدول الإسلامية، كما خرجت عشرات المظاهرات للتنديد به في كل من الهند والباكستان وبنجلاديش وإيران والسودان. وأُحرق عدد كبير من الكتب في إنجلترا من قِبل المسلمين المحتجين.

تمثلت أشهر ردود الأفعال الغاضبة في الفتوى الصادرة عن رجل الدين الشيعي آية الله الخميني، المرشد الأعلى "للثورة الإسلامية" في إيران حينذاك. أهدر الخميني دم سلمان رشدي بصفته "مرتدًا". وقال في فتواه: "إنني أبلغ جميع المسلمين في العالم بأن مؤلف الكتاب المعنون "الآيات الشيطانية" الذي ألف وطبع ونشر ضد الإسلام والنبي والقرآن، وكذلك ناشري الكتاب الواعين بمحتوياته قد حكموا بالموت، وعلى جميع المسلمين تنفيذ ذلك أينما وجدوهم؛ كي لا يجرؤ أحد بعد ذلك على إهانة الإسلام، ومن يُقتل في هذا الطريق فهو شهيد".

  • "نقد الخطاب الديني" لنصر حامد أبو زيد

تألف هذا الكتاب، بالأساس، من مجموعة من الأبحاث التي قدمها نصر حامد أبو زيد سنة 1992م لجامعة القاهرة للحصول على رتبة الأستاذية. رُفِض طلب نيل الترقية العلمية بأغلبية أعضاء لجنة الحكم. سرعان ما تعدت أفكار الكتاب أسوار الجامعة لتتسبب في اندلاع معركة فكرية حامية الوطيس. رأى المدافعون عما ورد في الكتاب أن نصر تناول موضوع نقد الخطاب الديني "من زوايا لم يجرؤ أحد من قبله على الخوض فيها، وبذل جهدًا جبارًا في تفكيك رموز الخطاب الديني، ونقضها وأثبت عوارها على حد تعبيرهم". على الجانب الأخر، هوجم الكتاب من قِبل معارضيه الذين وصفوه بكونه "بحث عبثي مثل كل أبحاث أبو زيد السابقة، جاء ليهدم الأسس التي بني عليها الفكر الإسلامي، وليس بحثًا موضوعيًا يحتمل النقاش الأكاديمي".

وصل الجدل حول الكتاب إلى أروقة المحاكم بعدما حرك بعض المحامين قضايا حسبة ضد نصر، وطالبوا بتفريقه عن زوجته. صدر الحكم بالتفريق بعدما رفض أبو زيد نطق الشهادتين في المحكمة. هاجر أبو زيد بعدها مع زوجته إلى هولندا ليعمل بجامعة ليدن!.

  • "أبي آدم" لعبد الصبور شاهين

صدر هذا الكتاب في منتصف التسعينات تحت اسم "أبى آدم: قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة". أكد شاهين في كتابه أن النبي آدم ولد من أب وأم من البشر فهو أول إنسان، وليس أبو البشر كما هو معروف. قدم شاهين تفسيرًا مختلفًا للآيات القرآنية التي تعرضت لخلق الإنسان. وذكر أن الله خلق البشر ثم اصطفى منهم آدم واختاره ليصبح الشخص العاقل المُكلف بالرسالة.

هوجم الكتاب على نطاق واسع. ورُفضت نظرية شاهين بوصفها معارضة للنص القرآني الواضح. دافع المؤلف عن كتابه في مناظرة تليفزيونية فقال إن: "هدفه الرئيسي كان تصفية تفسيرات قصة آدم من الإسرائيليات المشهورة". وذكر أن الاستنتاجات التي توصل إليها تستقيم مع الحقائق العلمية التي توصل العلماء إليها بعد اكتشاف هياكل بشرية موغلة في القدم، مثل إنسان جاوة، وإنسان بكين، وإنسان نياتندرال.

  • "عزازيل" ليوسف زيدان

نُشرت هذه الرواية سنة 2008م عن دار الشروق في مصر. وفازت بجائزة البوكر العربية سنة 2009م. أثارت الرواية عاصفة من الجدل بسبب ما ورد فيها من أفكار تتعلق بالمعتقدات اللاهوتية المسيحية. حُركت ضد زيدان عدد من الدعاوى القضائية التي اتهمته بازدراء الدين المسيحي.

وأصدر القمص عبد المسيح بسيط كتاب بعنوان "عزازيل... جهل بالتاريخ أم تزوير للتاريخ". أيضًا، أصدر سكرتير المجمع المقدس بالكنيسة القبطية المصرية الأنبا بيشوي كتابًا كاملًا للرد على زيدان بعنوان "بحث وثائقي تاريخي وعقائدي لمواجهة عزازيل... الرد على البهتان في رواية يوسف زيدان". وصف الأنبا بيشوي الرواية بأنها "لا تقدم أي فائدة ترتقي بالإنسانية، أو تخدمها، بل على العكس، فأخف وصف، بل والوصف الأكثر تأدبًا أنها رواية تهدم القيم الأخلاقية، التي تحمي المجتمع من الانهيار، وتهدم الإيمان بوجود الله أصلًا بصفة عامة، وحقائق الإيمان المسيحي الأرثوذكسي بصفة خاصة". من جهة أخرى، اُتهم زيدان بأنه سرق روايته من رواية اسم الوردة للكاتب الإيطالي أومبيرتو إيكو. لم تمنع تلك الانتقادات الرواية من تصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعًا لفترات طويلة.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".