في الوقت الذي يبدي فيه فقهاء السنة بشكل عام موقفا رافضا للتصوير، يميل فقهاء الشيعة المعاصرون لقبول تصوير الإنسان بشرط الابتعاد عن التجسيم.
في الوقت الذي يبدي فيه فقهاء السنة بشكل عام موقفا رافضا للتصوير، يميل فقهاء الشيعة المعاصرون لقبول تصوير الإنسان بشرط الابتعاد عن التجسيم.

عرفت فنون الرسم والتصوير حضورًا قويًا في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى. تواجدت العشرات من اللوحات على جدران الكنائس والقصور في شتى أنحاء القارة العجوز. تماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأسًا في تصوير الإنسان والكائنات الحية. على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية للرسم في البلاد الإسلامية. أعلنت أغلبية الآراء الفقهية، السنية خاصة، عن معارضتها لتصوير كل ما هو حي. وأكدت حرمة تصوير النبي وأصحابه على وجه التحديد.

نلقي الضوء في هذا المقال على مسألة الرسم والتصوير في الثقافة الإسلامية. لنستعرض الآراء الفقهية والتاريخية في تلك المسألة، وكيفية التفاعل معها في المجالين السني والشيعي على الترتيب.

 

في المسيحية واليهودية

 

أكدت الشريعة اليهودية على حرمة الرسم وصناعة التماثيل. ظهر هذا التأكيد في محتوى الوصايا العشر التي "تلقاها" النبي موسى منقوشة على لوحي الشريعة في جبل حوريب، حسب الاعتقاد الديني اليهودي. ورد في الأصحاح العشرين من سفر الخروج: "لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ".

اختلف تفاعل المسيحيين مع تلك القضية. تقبلت المسيحية التصوير والرسم بصدر رحب. وأُدخلت الأيقونات -صور العذراء والمسيح والقديسين وآباء الكنيسة- إلى الكنائس، وأُحيطت بكل تمجيد وتقديس.

لم ير المسيحيون غضاضة في نشر صورة المسيح، بل وردت بعض القصص التي تزعم أن صورة يسوع قد نُقلت بشكل دقيق إلى الأجيال التالية.  تذكر إحدى تلك القصص الشعبية المنتشرة أن سيدة تُدعى فيرونيكا كانت تسكن في أورشليم وقت صلب المسيح. رأت فيرونيكا وجه يسوع المُلطخ بالدماء فمسحته بمنديلها الأبيض لتجد وجه المسيح وقد انطبع عليه. سافرت فيرونيكا بعدها إلى روما، واستخدمت المنديل في شفاء الإمبراطور الروماني. بعد فترة، استقر المنديل في خزائن البابوية في الفاتيكان ونُسخت عنه صورة المسيح المعروفة في أوروبا الآن!

ينقل ابن العبري المتوفى 685ه في كتابه "تاريخ مختصر الدول" قصة أخرى عن "صورة يسوع" المتداولة، فيقول إن أبجر ملك الرها كان مصابًا بالبرص. لمّا عرف بقدرة المسيح على شفاء الأمراض فإنه أرسل له تابعًا له يُدعى حنان، وطلب منه أن يأتي إليه. يحكي ابن العبري أن المسيح رفض ذلك، وأرسل له برسالة "... فلما أخذ حنان الجواب من المسيح جعل ينظر إليه ويصور صورته في منديل لأنه كان مصوراً وأتى به إلى الرها ودفعه إلى أبجر الأسود. وقيل إن المسيح تمندل بذلك المنديل ماسحاً به وجهه فانتقشت فيه صورته".

 

الرسم عند أهل السنة والجماعة

 

وردت الكثير من الأحاديث التي تظهر رفض الإسلام للرسم والتصوير. ينقل محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى 256ه في صحيحه بعضًا من تلك الأحاديث. منها أن النبي دخل بيت عائشة ذات مرة. فوجد ثوبًا عليه صور، فغضب ومزق الثوب وقال: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم". يؤكد النبي على المعنى نفسه في أحاديث أخرى. منها "إنَّ أشدَّ النَّاسِ عذابًا عندَ اللَّهِ المصَوِّرونَ". بناء على تلك الروايات، ذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى حرمة رسم ذوات الأرواح، فيما ذهب المالكية إلى جواز صنع الصور المسطحة لذوات الأرواح ولكن مع الكراهة.

يتعارض التحريم الفقهي القاطع للتصوير والرسم مع بعض الروايات التاريخية المُختلف على صحتها. من تلك الروايات ما ذكره أبو الوليد الأزرقي المتوفى في حدود 250ه، في كتابه "أخبار مكّة وما جاء فيها من الآثار"، من أن الكعبة في الجاهلية كانت تحتوي على الكثير من التماثيل والصور، ومنها صورة للنبي إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام، وصورة أخرى للمسيح عيسى بن مريم مع أمه. يذكر الأزرقي، أن الرسول لما دخل مكة في العام الثامن من الهجرة، توجه إلى الكعبة "ودخل إلى البيت، فأمر بثوب فبل بماء وأمر بطمس تلك الصور ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال: امحوا الجميع إلا ما تحت يدي".

نُقلت هذه الرواية في الكثير من المصادر المعتبرة في القرون التالية، ومنها تاريخ الإسلام لشمس الدين الذهبي المتوفى 748ه، إذ أوردها ثم علق عليها ببعض الشواهد المثبتة لها.  ومن ذلك ما ورد عن التابعي عطاء بن أبي رباح المتوفى 114ه، من أنه لما سُئل عن هذه الصورة، قال: "أدركت تمثال مريم مزوقًا في حجرها عيسى قاعد، وكان في البيت -يقصد الكعبة- ستة أعمدة سواري، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب"، ولما سُئل عطاء عن توقيت إزالة هذا التمثال من الكعبة، أجاب بأن ذلك قد وقع في الحريق الذي نشب بالكعبة في زمن عبد الله بن الزبير في سنة 64ه. يشير ذلك إلى ما يبدو وكأنه نوعًا من أنواع التسامح مع الصور في حقبة الإسلام المبكر.

يوضح زكي محمد حسن في كتابه "التصوير وأعلام المصورين في الإسلام" أن المجتمعات الإسلامية عرفت فنون الرسم والتصوير رغم الرفض الفقهي، فيقول: "لا نستطيع أن ننفي قطعيًّا وجود أي تصوير ديني في الإسلام، فإن بعض المصورين الإيرانيين عمد إلى حياة النبي وإلى بعض الحوادث الجسام في تاريخ الإسلام فاتخذ منها موضوعات لصور كانت تشتمل في بعض الأحيان على رسم النبي. بيد أن هذه الصور نادرة جدًّا، ولم تحز رضاء رجال الدين في يوم من الأيام، بل إن أكبر الظن أنهم كانوا لا يعلمون عنها شيئًا، وإلا لما قدر لها أن تعيش بما فيها من تحدٍّ مضاعف، بالتصوير في حد ذاته، وبتصوير النبي نفسه فضلًا عن ذلك".

يؤكد حسن على أن هناك مجموعة كبيرة من الصور الدينية -والتي يظهر فيها النبي والصحابة- قد وردت في بعض المخطوطات الإسلامية القديمة، ومنها على سبيل المثال مخطوطة كتاب الآثار الباقية لأبي الريحان البيروني المتوفى 440ه، ومخطوطة كتاب جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله الهمذاني المتوفى 718ه، ومخطوطة كتاب روضة الصفا لمير خواند المتوفى 903ه. وجود الصور الدينية في تلك المخطوطات يبيّن أن الكثير من المؤرخين والشعراء والفنانين لم يلقوا بالًا بالتحريم الفقهي للرسم.

من جهة أخرى، عرف الفن التركي في العصر العثماني ازدهارًا للتصوير والرسم في شكل المنمنمات -وهي لوحات صغيرة تحتوي على مجموعة من الزخارف وتُرسم على هامش النصوص الدينية كأشكال توضيحية-. كان السبب في ذلك هو تأثر العثمانيين بالحضارة البيزنطية التي كانت لا تزال مؤثرة في القسطنطينية من جهة. وتأثرهم بالدولة الصفوية الفارسية التي شاعت فيها الرسوم والتصاوير من جهة أخرى. حكى الرسامون العثمانيون قصة الإسلام فيما يقترب من 800 صورة فنية. ظهر فيها النبي وكبار الصحابة -مع تغطية وجوههم- في مواقف مهمة ترجع إلى حقبة الإسلام المبكر. يُعتقد أنه تم إنتاج تلك المجموعة في القرن السادس عشر بأمر من السلطان العثماني مراد الثالث.

في العقود الأخيرة، تسامح الفقهاء -نوعًا ما- مع التصوير والرسم بشكل عام. ولكن استمر الرفض الفقهي السني للتصوير الديني، خاصة للأنبياء والصحابة، قائمًا حتى اللحظة. على سبيل المثال رفض المجمع الفقهي الإسلامي بمكة السماح برسم النبي أو الصحابة. جاء في بيانه "...إن تخييل شخصه -أي النبي- الشريف بالصور سواء كانت مرسومة متحركة أو ثابتة وسواء كانت ذات جرم وظل أو ليس لها ظل وجرم كل ذلك حرام لا يحل ولا يجوز شرعًا، فلا يجوز عمله وإقراره لأي غرض من الأغراض أو مقصد من المقاصد أو غاية من الغايات وإن قصد به الامتهان كان كفرًا... وكذلك يمنع ذلك في حق الصحابة، فإن لهم من شرف الصحبة والجهاد مع رسول الله والدفاع عن الدين والنصح لله ورسوله ودينه وحمل هذا الدين والعلم إلينا ما يوجب تعظيم قدرهم واحترامهم وإجلالهم".

 

صور الأئمة عند الشيعة

 

وردت الكثير من الروايات الشيعية التي ترفض تصوير كل ذي روح. من تلك الروايات ما ذكره الحر العاملي المتوفى 1104ه في كتابه "وسائل الشيعة" عن الإمام جعفر الصادق من أن النبي قد نهى عن التصاوير، وقال: "من صور صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ".

في المقابل، مال فقهاء الشيعة المعاصرون لقبول تصوير الإنسان بشرط الابتعاد عن التجسيم. يقول المرجع الشيعي المعاصر السيد علي السيستاني في كتابه "منهاج الصالحين": "تصوير ذوات الأرواح من غير تجسيم سواء كان بالرسم أم بالحفر أم بغيرهما، وهذا جائز على الأظهر، ومنه التصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني المتعارف في عصرنا". فتح السيستاني الباب أمام الشيعة للترويج لصور الأئمة أيضًا عندما أجاز شراء تلك الصور ووضعها في المنازل.

ترجع أول إشارة تاريخية لصور الأئمة الشيعة إلى القرن السابع الهجري. ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي المتوفى 656ه في كتابه "شرح نهج البلاغة" أن الكثير من السلاطين البويهيين والسلاجقة قد رسموا صورة علي بن أبي طالب على سيوفهم. كانوا يفعلون ذلك استبشارًا بشجاعة علي التي طبقت شهرتها الآفاق.

يلاحظ الباحث شاكر لعيبي في كتابه "تصاوير الإمام علي... مراجعها ودلالاتها التشكيلية" أن صور الأئمة في المُتخيل الشيعي تماشت مع الظروف التاريخية والأيديولوجية التي مرت بها الطائفة عبر القرون. نلاحظ مثلًا أن صورة علي المشهورة بين الشيعة اليوم تختلف بشكل كبير عن الصورة التي ذكرتها المصادر التاريخية القديمة.

يصف ابن عبد البر (سني مالكي) في كتابه "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" علي بن أبي طالب، فيقول: "كان ربعة من الرجال إلى القصر ما هو، أدعج العينين، حسن الوجه كأنه القمر ليلة البدر حسناً، ضخم البطن، عريض المنكبين، شئن الكفين، عتداً ـ العتد من الرجال: الشديد التام الخلق ـ أغيد كأن عنقه إبريق فضةٍ، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه، كبير اللحية لمنكبه، مشاش كمشاش السبع الضاري، لا يتبين عضده من ساعده، قد أدمجت إدماجاً، إذا مشى تكفأ، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس، وهو إلى السمن ما هو، شديد الساعد واليد، وإذا مشى للحرب هرول، ثبت الجنان قوي شجاع منصور على من لاقاه.".

الوصف نفسه، حرفيا تقريبا، أورده الشيخ علي بن عيسى الأربلي (شيعي) في كتابه "كشف الغمة في معرفة الأئمة". يقول: " كان ربعة من الرجال أدعج العينين حسن الوجه كأنه القمر ليلة البدر حسنا ضخم البطن، عريض المنكبين، شثن الكفين أغيد كأن عنقه إبريق فضة، أصلع كث اللحية، لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضاري لا يبين عضده من ساعده، وقد أدمجت ادماجا، أن أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع ان يتنفس، شديد الساعد واليد، إذا مشى إلى الحرب هرول، ثبت الجنان، قوي شجاع منصور على من لاقاه".

يتحدث لعيبي عن الاختلاف الواضح بين الصورتين -التاريخية والشعبية- فيقول: "إن الإمام علي الجالس قبالتنا رزينًا بملامح وجه ظاهرة للعيان محددة، واضعًا ذا الفقار في حجره هي الصورة الشخصية الشيعية الشعبية له المنتشرة على نطاق واسع. ومما لا شك فيه إن هذه الصورة بالضبط قد ظهرت جنينًا في الفترة الصفوية في إيران وترسخت نهائيًا في القرن التاسع عشر الميلادي في إيران، ومنها امتدت للبلاد المجاورة لها إلى يومنا هذا".

توجد بعض الأسباب المفسرة لانتشار تلك الصور الشعبية في الحقبة الصفوية بالذات. كان هناك تقارب ملحوظ بين الصفويين والدول الأوروبية، ولابد أن الإيرانيين قد تأثروا بكثرة ما شاهدوه من أيقونات وجداريات في تلك الفترة، وأنهم قد عملوا على تقليدها ومحاكاتها. أيضًا، هاجر الكثير من الأرمن إلى بلاد فارس في تلك الحقبة. تمكن الكثير منهم من نقل الفنون البصرية والزخرفية إلى المسلمين. لا ننسى أيضًا أن الصفويين الذين حولوا بلاد فارس إلى التشيع، التمسوا في الرسم والتصوير الوسيلة التي تمهد لمذهبهم في قلوب العامة. من هنا شاعت صور النبي وعلي بن أبي طالب والأئمة في عموم إيران. وشيئًا فشيئًا حلت الملامح الفارسية محل الملامح العربية فيها.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".