عرفت فنون الرسم والتصوير حضورًا قويًا في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى. تواجدت العشرات من اللوحات على جدران الكنائس والقصور في شتى أنحاء القارة العجوز. تماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأسًا في تصوير الإنسان والكائنات الحية. على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية للرسم في البلاد الإسلامية. أعلنت أغلبية الآراء الفقهية، السنية خاصة، عن معارضتها لتصوير كل ما هو حي. وأكدت حرمة تصوير النبي وأصحابه على وجه التحديد.
نلقي الضوء في هذا المقال على مسألة الرسم والتصوير في الثقافة الإسلامية. لنستعرض الآراء الفقهية والتاريخية في تلك المسألة، وكيفية التفاعل معها في المجالين السني والشيعي على الترتيب.
في المسيحية واليهودية
أكدت الشريعة اليهودية على حرمة الرسم وصناعة التماثيل. ظهر هذا التأكيد في محتوى الوصايا العشر التي "تلقاها" النبي موسى منقوشة على لوحي الشريعة في جبل حوريب، حسب الاعتقاد الديني اليهودي. ورد في الأصحاح العشرين من سفر الخروج: "لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ".
اختلف تفاعل المسيحيين مع تلك القضية. تقبلت المسيحية التصوير والرسم بصدر رحب. وأُدخلت الأيقونات -صور العذراء والمسيح والقديسين وآباء الكنيسة- إلى الكنائس، وأُحيطت بكل تمجيد وتقديس.
لم ير المسيحيون غضاضة في نشر صورة المسيح، بل وردت بعض القصص التي تزعم أن صورة يسوع قد نُقلت بشكل دقيق إلى الأجيال التالية. تذكر إحدى تلك القصص الشعبية المنتشرة أن سيدة تُدعى فيرونيكا كانت تسكن في أورشليم وقت صلب المسيح. رأت فيرونيكا وجه يسوع المُلطخ بالدماء فمسحته بمنديلها الأبيض لتجد وجه المسيح وقد انطبع عليه. سافرت فيرونيكا بعدها إلى روما، واستخدمت المنديل في شفاء الإمبراطور الروماني. بعد فترة، استقر المنديل في خزائن البابوية في الفاتيكان ونُسخت عنه صورة المسيح المعروفة في أوروبا الآن!
ينقل ابن العبري المتوفى 685ه في كتابه "تاريخ مختصر الدول" قصة أخرى عن "صورة يسوع" المتداولة، فيقول إن أبجر ملك الرها كان مصابًا بالبرص. لمّا عرف بقدرة المسيح على شفاء الأمراض فإنه أرسل له تابعًا له يُدعى حنان، وطلب منه أن يأتي إليه. يحكي ابن العبري أن المسيح رفض ذلك، وأرسل له برسالة "... فلما أخذ حنان الجواب من المسيح جعل ينظر إليه ويصور صورته في منديل لأنه كان مصوراً وأتى به إلى الرها ودفعه إلى أبجر الأسود. وقيل إن المسيح تمندل بذلك المنديل ماسحاً به وجهه فانتقشت فيه صورته".
الرسم عند أهل السنة والجماعة
وردت الكثير من الأحاديث التي تظهر رفض الإسلام للرسم والتصوير. ينقل محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى 256ه في صحيحه بعضًا من تلك الأحاديث. منها أن النبي دخل بيت عائشة ذات مرة. فوجد ثوبًا عليه صور، فغضب ومزق الثوب وقال: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم". يؤكد النبي على المعنى نفسه في أحاديث أخرى. منها "إنَّ أشدَّ النَّاسِ عذابًا عندَ اللَّهِ المصَوِّرونَ". بناء على تلك الروايات، ذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى حرمة رسم ذوات الأرواح، فيما ذهب المالكية إلى جواز صنع الصور المسطحة لذوات الأرواح ولكن مع الكراهة.
يتعارض التحريم الفقهي القاطع للتصوير والرسم مع بعض الروايات التاريخية المُختلف على صحتها. من تلك الروايات ما ذكره أبو الوليد الأزرقي المتوفى في حدود 250ه، في كتابه "أخبار مكّة وما جاء فيها من الآثار"، من أن الكعبة في الجاهلية كانت تحتوي على الكثير من التماثيل والصور، ومنها صورة للنبي إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام، وصورة أخرى للمسيح عيسى بن مريم مع أمه. يذكر الأزرقي، أن الرسول لما دخل مكة في العام الثامن من الهجرة، توجه إلى الكعبة "ودخل إلى البيت، فأمر بثوب فبل بماء وأمر بطمس تلك الصور ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال: امحوا الجميع إلا ما تحت يدي".
نُقلت هذه الرواية في الكثير من المصادر المعتبرة في القرون التالية، ومنها تاريخ الإسلام لشمس الدين الذهبي المتوفى 748ه، إذ أوردها ثم علق عليها ببعض الشواهد المثبتة لها. ومن ذلك ما ورد عن التابعي عطاء بن أبي رباح المتوفى 114ه، من أنه لما سُئل عن هذه الصورة، قال: "أدركت تمثال مريم مزوقًا في حجرها عيسى قاعد، وكان في البيت -يقصد الكعبة- ستة أعمدة سواري، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب"، ولما سُئل عطاء عن توقيت إزالة هذا التمثال من الكعبة، أجاب بأن ذلك قد وقع في الحريق الذي نشب بالكعبة في زمن عبد الله بن الزبير في سنة 64ه. يشير ذلك إلى ما يبدو وكأنه نوعًا من أنواع التسامح مع الصور في حقبة الإسلام المبكر.
يوضح زكي محمد حسن في كتابه "التصوير وأعلام المصورين في الإسلام" أن المجتمعات الإسلامية عرفت فنون الرسم والتصوير رغم الرفض الفقهي، فيقول: "لا نستطيع أن ننفي قطعيًّا وجود أي تصوير ديني في الإسلام، فإن بعض المصورين الإيرانيين عمد إلى حياة النبي وإلى بعض الحوادث الجسام في تاريخ الإسلام فاتخذ منها موضوعات لصور كانت تشتمل في بعض الأحيان على رسم النبي. بيد أن هذه الصور نادرة جدًّا، ولم تحز رضاء رجال الدين في يوم من الأيام، بل إن أكبر الظن أنهم كانوا لا يعلمون عنها شيئًا، وإلا لما قدر لها أن تعيش بما فيها من تحدٍّ مضاعف، بالتصوير في حد ذاته، وبتصوير النبي نفسه فضلًا عن ذلك".
يؤكد حسن على أن هناك مجموعة كبيرة من الصور الدينية -والتي يظهر فيها النبي والصحابة- قد وردت في بعض المخطوطات الإسلامية القديمة، ومنها على سبيل المثال مخطوطة كتاب الآثار الباقية لأبي الريحان البيروني المتوفى 440ه، ومخطوطة كتاب جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله الهمذاني المتوفى 718ه، ومخطوطة كتاب روضة الصفا لمير خواند المتوفى 903ه. وجود الصور الدينية في تلك المخطوطات يبيّن أن الكثير من المؤرخين والشعراء والفنانين لم يلقوا بالًا بالتحريم الفقهي للرسم.
من جهة أخرى، عرف الفن التركي في العصر العثماني ازدهارًا للتصوير والرسم في شكل المنمنمات -وهي لوحات صغيرة تحتوي على مجموعة من الزخارف وتُرسم على هامش النصوص الدينية كأشكال توضيحية-. كان السبب في ذلك هو تأثر العثمانيين بالحضارة البيزنطية التي كانت لا تزال مؤثرة في القسطنطينية من جهة. وتأثرهم بالدولة الصفوية الفارسية التي شاعت فيها الرسوم والتصاوير من جهة أخرى. حكى الرسامون العثمانيون قصة الإسلام فيما يقترب من 800 صورة فنية. ظهر فيها النبي وكبار الصحابة -مع تغطية وجوههم- في مواقف مهمة ترجع إلى حقبة الإسلام المبكر. يُعتقد أنه تم إنتاج تلك المجموعة في القرن السادس عشر بأمر من السلطان العثماني مراد الثالث.
في العقود الأخيرة، تسامح الفقهاء -نوعًا ما- مع التصوير والرسم بشكل عام. ولكن استمر الرفض الفقهي السني للتصوير الديني، خاصة للأنبياء والصحابة، قائمًا حتى اللحظة. على سبيل المثال رفض المجمع الفقهي الإسلامي بمكة السماح برسم النبي أو الصحابة. جاء في بيانه "...إن تخييل شخصه -أي النبي- الشريف بالصور سواء كانت مرسومة متحركة أو ثابتة وسواء كانت ذات جرم وظل أو ليس لها ظل وجرم كل ذلك حرام لا يحل ولا يجوز شرعًا، فلا يجوز عمله وإقراره لأي غرض من الأغراض أو مقصد من المقاصد أو غاية من الغايات وإن قصد به الامتهان كان كفرًا... وكذلك يمنع ذلك في حق الصحابة، فإن لهم من شرف الصحبة والجهاد مع رسول الله والدفاع عن الدين والنصح لله ورسوله ودينه وحمل هذا الدين والعلم إلينا ما يوجب تعظيم قدرهم واحترامهم وإجلالهم".
صور الأئمة عند الشيعة
وردت الكثير من الروايات الشيعية التي ترفض تصوير كل ذي روح. من تلك الروايات ما ذكره الحر العاملي المتوفى 1104ه في كتابه "وسائل الشيعة" عن الإمام جعفر الصادق من أن النبي قد نهى عن التصاوير، وقال: "من صور صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ".
في المقابل، مال فقهاء الشيعة المعاصرون لقبول تصوير الإنسان بشرط الابتعاد عن التجسيم. يقول المرجع الشيعي المعاصر السيد علي السيستاني في كتابه "منهاج الصالحين": "تصوير ذوات الأرواح من غير تجسيم سواء كان بالرسم أم بالحفر أم بغيرهما، وهذا جائز على الأظهر، ومنه التصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني المتعارف في عصرنا". فتح السيستاني الباب أمام الشيعة للترويج لصور الأئمة أيضًا عندما أجاز شراء تلك الصور ووضعها في المنازل.
ترجع أول إشارة تاريخية لصور الأئمة الشيعة إلى القرن السابع الهجري. ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي المتوفى 656ه في كتابه "شرح نهج البلاغة" أن الكثير من السلاطين البويهيين والسلاجقة قد رسموا صورة علي بن أبي طالب على سيوفهم. كانوا يفعلون ذلك استبشارًا بشجاعة علي التي طبقت شهرتها الآفاق.
يلاحظ الباحث شاكر لعيبي في كتابه "تصاوير الإمام علي... مراجعها ودلالاتها التشكيلية" أن صور الأئمة في المُتخيل الشيعي تماشت مع الظروف التاريخية والأيديولوجية التي مرت بها الطائفة عبر القرون. نلاحظ مثلًا أن صورة علي المشهورة بين الشيعة اليوم تختلف بشكل كبير عن الصورة التي ذكرتها المصادر التاريخية القديمة.
يصف ابن عبد البر (سني مالكي) في كتابه "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" علي بن أبي طالب، فيقول: "كان ربعة من الرجال إلى القصر ما هو، أدعج العينين، حسن الوجه كأنه القمر ليلة البدر حسناً، ضخم البطن، عريض المنكبين، شئن الكفين، عتداً ـ العتد من الرجال: الشديد التام الخلق ـ أغيد كأن عنقه إبريق فضةٍ، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه، كبير اللحية لمنكبه، مشاش كمشاش السبع الضاري، لا يتبين عضده من ساعده، قد أدمجت إدماجاً، إذا مشى تكفأ، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس، وهو إلى السمن ما هو، شديد الساعد واليد، وإذا مشى للحرب هرول، ثبت الجنان قوي شجاع منصور على من لاقاه.".
الوصف نفسه، حرفيا تقريبا، أورده الشيخ علي بن عيسى الأربلي (شيعي) في كتابه "كشف الغمة في معرفة الأئمة". يقول: " كان ربعة من الرجال أدعج العينين حسن الوجه كأنه القمر ليلة البدر حسنا ضخم البطن، عريض المنكبين، شثن الكفين أغيد كأن عنقه إبريق فضة، أصلع كث اللحية، لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضاري لا يبين عضده من ساعده، وقد أدمجت ادماجا، أن أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع ان يتنفس، شديد الساعد واليد، إذا مشى إلى الحرب هرول، ثبت الجنان، قوي شجاع منصور على من لاقاه".
يتحدث لعيبي عن الاختلاف الواضح بين الصورتين -التاريخية والشعبية- فيقول: "إن الإمام علي الجالس قبالتنا رزينًا بملامح وجه ظاهرة للعيان محددة، واضعًا ذا الفقار في حجره هي الصورة الشخصية الشيعية الشعبية له المنتشرة على نطاق واسع. ومما لا شك فيه إن هذه الصورة بالضبط قد ظهرت جنينًا في الفترة الصفوية في إيران وترسخت نهائيًا في القرن التاسع عشر الميلادي في إيران، ومنها امتدت للبلاد المجاورة لها إلى يومنا هذا".
توجد بعض الأسباب المفسرة لانتشار تلك الصور الشعبية في الحقبة الصفوية بالذات. كان هناك تقارب ملحوظ بين الصفويين والدول الأوروبية، ولابد أن الإيرانيين قد تأثروا بكثرة ما شاهدوه من أيقونات وجداريات في تلك الفترة، وأنهم قد عملوا على تقليدها ومحاكاتها. أيضًا، هاجر الكثير من الأرمن إلى بلاد فارس في تلك الحقبة. تمكن الكثير منهم من نقل الفنون البصرية والزخرفية إلى المسلمين. لا ننسى أيضًا أن الصفويين الذين حولوا بلاد فارس إلى التشيع، التمسوا في الرسم والتصوير الوسيلة التي تمهد لمذهبهم في قلوب العامة. من هنا شاعت صور النبي وعلي بن أبي طالب والأئمة في عموم إيران. وشيئًا فشيئًا حلت الملامح الفارسية محل الملامح العربية فيها.