توفي الجواهري في دمشق عن همر ناهز 98 عاما.
توفي الجواهري في دمشق عن همر ناهز 98 عاما.

"شاعر أشبه بالأسطورة، كلما ظنَّ قرّاء الشعر أنه انتهى يبتدئ، ومن حيث ما يظنُّ أعداء القصيدة أو الزاهدون فيها أنه أفرغ مخزونه كله، ينبع كالمارد ليفاجئهم بإنشاءٍ جديد فيه الجديد كله وبوارق من التجديد".

بهذه الكلمات البرّاقة وصف الأديب السوري خالد البرادعي الشاعر العراقي البارز  محمد مهدي الجواهري، الذي تمتّع بميزتين فريدتين قلّما تتكرّران في الأدب العربي، وهي موهبته الكبيرة ومعاصرته لزمنٍ كثير الحوادث والوقائع، ما أتاح له الفرصة للتعبير عنها أصدق ما يكون بفضل أشعاره التي خلّدت تاريخ العراق.

وُلد الجواهري عام 1900 في مدينة النجف. طمع أبوه في أن يُصبح ولده عالمًا –مثل أغلب أفراد الأسرة- فألبسه الجلباب والعمامة وألحقه بالدراسات الدينية في الحوزة منذ أن كان في العاشرة حيث تلقّى علوم القرآن، وخاض برنامجًا تعليميًا فقهيًا صارمًا شمل القراءة والكتابة والنحو والصرف والبلاغة والفقه.

يومها، كانت النجف تعيش حالة من النهضة الأدبية. تقول صيتة الحربي في دراستها "الحنين للوطن في شعر الجواهري": كانت النجف بيئة شعرية خصبة، وهو لدى أبنائها كالماء والهواء استسهالاً واستعظامًا. والشعر النجفي تتسع مجالاته لتشمل القضايا العامة والخاصة والمناسبات.

يوضح الجواهري نفسه: "ولدتُ في مولد هذا القرن المضطرب، كان البيت الذي وُلدتُ فيه ونشأت بقرب الصحن العلوي، ولذلك تفتحتُ اول ما تفتحتُ على هذه الفسيفساء الآدمية العجيبة، المتداخلة، المتعارضة، التي يضمها الصحن والحضرة والسور المرمري الذي يحيطها".

 

زمن الجواهري

 

شهدت هذه الفترة حراكًا شبابيًا شديدًا؛ وضعت إيران دستورها الأول عام 1906، ثم تبعتها الدولة العثمانية بعد عامين. كانت هذه الخطوة متأخرة في عُمر "الدولة العليّة" التي باتت على مشارف الانهيار، فيما شمّرت الدول الأوروبية عن أنيابها استعدادًا لالتهام تركتها، وأبرزها دول المشرق العربي، وهو ما تحوّل إلى واقع في العراق بعدما زحفت القوات الإنجليزية على البلاد عام 1914.

أشعل خضوع البلاد للاستعمار الكثيرة الأسئلة في صدور الأجيال الجديدة حول السياسة والتحرّر والنضال القومي والوطني. سريعًا، بدأ العراقيون النضال مبكرًا عبر أولى ثوراتهم ضد المحتل عام 1918م وكان مقرّها النجف، والتي مهّدت لاحقًا للثورة الثانية والأقوى: ثورة العراق الكبرى في 1920.

 

استكمال مسيرة الأجداد

 

أراد والد محمد مهدي الجواهري من ابنه أن يُكمل مسيرة جد العائلة الأكبر الشيخ محمد حسن، المرجع الديني البارز الذي ألّف كتابًا شهيرًا في الفقه حمل اسم "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام". وبحسب ما كتبه وسام الخالدي في أطروحته "الجواهري الأب شاعرًا"، فإن ذلك الكتاب لم يكن سِفرًا عاديًّا، بل دائرة معارف فقهية واسعة أصبحت "مدار البحث والتحصيل في كل محافل التدريب في الفقه" حتى إن الكتاب اعتُبر "أحد أهم مصادر المعرفة الدينية الكبرى عند الشيعة الإمامية".

بسبب ذلك الكتاب، لُقِّب الشيخ محمد بـ"صاحب الجواهر"، ولاحقًا خُلع اللقب على أهله فعُرفوا بـ"آل الجواهر" وهو اللقب الذي تحوّل مع مرور الزمن إلى "الجواهري".

كان الأب رجل دينٍ أيضًا، لكنه لم يتمتع بمكانة الجد الكبيرة والتي كفلت لعائلة الجواهري قدرًا كبيرًا من الوجاهة في مجتمع النجف، وهي الأزمة الأبوية التي عبّر عنها الجواهري نفسه في مذكراته، حين كشف أن والده كان يُعاني من عُقدة "فقد الزعامة. يحكي قائلا: "نشأت ووجدتُ أمامي عُقدة تحكم البيت، هي إحساس والدي بالضيم الشديد من ألا يكون الزعيم بجدارة الأسرة الجواهرية".

 

حكايته مع الشِعر

 

حفظ الجواهري القرآن طفلاً، كما اعتاد والده أن يطلب منه حِفظ قصيدة يوميًا من ديوان أبي الطيب المتنبي وخطبة من كتاب "نهج البلاغة"، ما أكسب الطفل الصغير ذائقة لغوية سليمة دفعته لقرض الشعر مبكرًا.

يقول الجواهري في مذكراته: "بدأت محاولاتي لكتابة الشعر وأنا في الـ14 من عُمري، لكني لم أستطع البوح به لأني كنتُ غير متأكدٍ منه. ففي النجف يتمتع الشعر بحب أبناء المدينة وكلهم يعرفون جيده من رديئه".

محاولته الأدبية الأولى كانت كتاب "حلبة الأدب" الذي خرج إلى النور عام 1919م، ونشر فيه الجواهري عدة قصائد مختارة له يُجاري فيها شعراء العرب الكبار. أما ديوانه الشعري الأول فقد صدر عام 1928 وحمل عنوان "بين الشعور والعاطفية". احتضن العراق موهبة الجواهري مبكرًا وعدّه من مصاف شعرائه، وتسابقت الصُحُف على وصفه بـ"شاعر العرب الأكبر" و"نابغة الشعر العربي" و"أمير الشعراء بعد شوقي" وغيرها من الألقاب التي لم ينلها شاعر عراقي قبله.

لم يقتصر تقديره على داخل العراق فقط، وإنما في 1950 دعاه الأديب المصري المعروف طه حسين للمشاركة في مؤتمر ثقافي تابع للجامعة العربية عُقد في الإسكندرية. في هذا المؤتمر ألقى قصيدته "إلى الشعب المصري"، قال فيها: (يا مصر تستبقُ الدهور وتعثر\ والنيل يزخرُ والمسلّة تزهر... وبنوكِ والتاريخُ في قصبيهما يتسابقان فيُصهرون ويُصهر).

خلال زيارته لمصر لم ينسَ التعريض بالنظام الملكي في العراق وتوجيه سهام النقد له، فقال "يا مصر ليس من العراق مفرِّق\ يندسُّ ما بين الصفوف ويُحشر... وإنّا لنبرأ من نصوص عندنا\ تُمضي على ما لا نحب وتمهر... تُمضي على صدع الصفوف وفوقها\ راحت يدُ المستعمرين تؤشِّر).

 

في العهد الملكي.. مُعارض دائم

 

عندما اندلعت ثورة العشرين ضد البريطانيين اشترك فيها الجواهري، بحُكم أن النجف كانت إحدى مراكزها الأساسية.

تقول صيتة الحربي: بعدما انصرم عام 1920 كانت بقايا الثورة العراقية أول موضوعات النشر، بعدما أرسل قصيدتين إلى جريدة الاستقلال في بغداد، تأخر نشرهما حتى يناير في 1921.

لم تكشف لنا صيتة شيئًا عن محتوى تلك القصائد الثورية، وإنما كتب جانبًا منها خالد البرادعي في دراسته "الجواهري.. ملحمة العراق"، بعدما أوضح أن الجواهري كان في العشرين من عُمره حينما اشتعلت ثورة العراق الأولى ضد الاحتلال البريطاني للبلاد والتي تفاعَل معها الجواهري شِعرًا بقوله "هبوا، فعن عرينه\ كيف ينام الأسد... وثورة بل جمرة\ ليعرب لا تخمد... يا ثورة العرب انهضي\ لا تقلقي ما جدّدوا".

ترك الجواهري النجف عام 1927 ليعمل مدرسًا في المرحلة الابتدائية. لكن في العام ذاته، أصدر ساطع الحصري مدير المعارف العام حينها أمرًا بإنهاء خدمته عقب نشره قصيدة "بريد الغربة" بسبب بيت لم يُعجب الحصري!

تسبّبت تلك الخطوة في ضجة كبيرة، احتواها الملك فيصل الأول بتعيين الجواهري في دائرة التشريفات داخل بلاط قصره، وخلال عمله بالقصر أنجز ديوانًا شعريًا حمل اسمه "ديوان محمد مهدي الجواهري"، كما أنشد قصيدة امتدح فيها الملك قائلاً "لله درك من خير بارع يزن الأمور بحكمة وصواب".

استقال الجواهري من البلاط عام 1930، واتجه للعمل في الصحافة حتى أصدر جريدة "الفرات"، بدعمٍ من الملك ورئيس الوزراء نوري السعيد، لكن امتيازها أُلغي في ذات عام صدورها بحجة "إثارة الطلاب في المدارس".

عاد للعمل معلمًا مرة أخرى في أواخر 1931، لكنه بقي غاضبًا على سياسات الملك فيصل. وخلال زيارة للأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود للعراق نظم قصيدة في مدحه قال فيها "إن كل بني سعود\ لهم فضلٌ على قاصٍ وداني... وإنهم الملاجئ في الرزايا\ وإنهم المطامح والأماني". أثارت تلك الخطوة غضب الملك فيصل، فأمر بنقله من محل عمله. وهو ما ردَّ عليه الجواهري بكتابة قصيدة عنيفة حملت عنوان "في سبيل الحُكم" تحدّث فيها عن مفاسد النظام الحاكم، فتمت إحالته للجنة انضباطية أوصت بفصله ثم تراجعت لاحقًا واكتفت بإنذاره.

رفض الجواهري تلك الإجراءات بحقه، وقرّر الاستقالة من مهنة التدريس والتفرّغ للصحافة.

تفاعَل سريعًا مع الانقلاب الذي قاده بكر صدقي ضد حكومة ياسين الهاشمي عام 1936، كان مؤيدًا له وأصدر جريدة "الانقلاب" للترويج لسياسات القادة الجُدد. وقال في حيثيات إطلاقها "أصدرت جريدتي الثانية مستعيرة اسم الانقلاب نفسه، متطوعًا غير ذي انتماء لأحد، ولا ذي علاقة بأحد إلا بخيط متين مما بيني وبين الناس".

اعتقد الجواهري أن تلك الحركة ستغيّر الأوضاع السياسية التي لطالما ضايقته، فكتب قصيدة "تحرّك اللحد" دعمًا لها ومنها "أتتكم زُمرة تحدو عزائمها\ ما خلفت قبلها من سيء زامر... ألقت على كل شبرٍ من مسالكها\ يلوح مما جنى أسلافها أثر".

لكنه، لاحقًا بدأ في رفض بعض ممارسات الحكام الجدد فحُكم عليه بالسجن 3 شهور وبإيقاف جريدته لمدة شهر.

حكى الجواهري عن خيبة أمله من تلك الحكومة قائلا: "خابت الظنون وتبدّدت الاحلام، وسرعان ما انكشفت الصدور وانجلت الضمائر، فإذا بها سوداء ملطخة وإذا بالشهوات والنزعات تعصف بها عصفًا شديدًا، والآن فلئن مات الانقلاب فليعش الرأي العام".

وعقب سقوط الحكومة التي فرضها الانقلاب على الملك غازي واغتيال قائدها بكر صدقي، غيّر الجواهري اسم جريدته إلى "الرأي العام"، والتي لطالما عرفت قرارات التعطيل بسبب انتقاداتها المتلاحقة للسُلطة.

وعندما قامت ثورة رشيد الكيلاني عام 1941 أيّدها، وعقب فشلها اضطر لمغادرة العراق إلى إيران قبل أن ينجح في العودة مُجددًا بالعام نفسه وأعاد إصدار جريدته "الرأي العام".

وفي 1948 فجّر الطلبة العراقيون احتجاجات عنيفة عُرفت بِاسم "انتفاضة الوثبة" احتجاجًا على محاولات نوري السعيد رئيس الوزراء حينها تجديد معاهدة التعاون مع بريطانيا، والتي كانت ستكفل لقوات الإنجليز حرية كبيرة في الحركة داخل العراق.

قتل جعفر شقيق الجواهري خلال هذه الاحتجاجات، فرثاه بقصيدة بليغة قال فيها: (أتعلمُ أم أنت لا تعلم\ بأن جراح الضحايا فمٌ... فمٌ ليس كالمدّعي قولة وليس كآخر يستفهم... يقولون من هم أولاء الرعاع\ فأفهمهم بدمٍ من هم).

وخلال احتفالٍ نظّمته نقابة المحامين العراقيين في بغداد نوفمبر 1951، عاد الجواهري لانتقاد النظام الحكام بل ويدعو للثورة عليه، إذ قال: (سلامٌ على حاقدٍ ثائر... على لاحبٍ من دم سائر\ يخبُّ ويعلمُ أن الطريق\ لابد مفضٍ إلى آخر).

نجح الجواهري مرة أخرى في إعادة إصدار جريدته "الرأي العام" عام 1953 إلا أن الحكومة عادت وعطّلتها مُجددًا في العام ذاته، بسبب قصائده المتتالية التي تنتقد النظام الحاكم والتي حرص فيها على عدم التعرّض لشخص الملك، حتى أنشد مادحًا الملك فيصل الثاني "يا ابن البتول وفيك عزّ شمائل\ من حد النور الأغر محمد".

صبر الحكومة العراقية نفد بحق الجواهري عام 1956 حينما نشر قصيدته "خلّفت غاشية الخنوع"، والتي هاجم فيها مسؤولي العراق بشدة. وفي العام ذاته قرض الجواهري الشعر بحقِّ النضال العربي في بورسعيد والجزائر.

هذه المرة طُرد الجواهري من العراق فاضطر إلى السفر لسوريا حيث مُنح حق اللجوء السياسي وعاش قرابة عامين في دمشق، وفيها أصدر الطبعة الرابعة من ديوانه الشعري. لم يشعر الجواهري بغربة كبيرة في سوريا، فالرجل سبق وأن أعلن منذ قديم الأزل مدى غرامه بجارته العزيزة بقوله "إني شامي إذا نسب الهوى\ وإذا نسبت لموطني فعراقي". على أية حال، بقي الجواهري في سوريا ولم يعد إلا بغداد إلا عام 1957.

 

في ظِل الجمهورية.. مؤيِّد ثم مطرود من البلاد

 

فور اندلاع ثورة 1958، التي أطاحت بالنظام الملكي كان الجواهري من طليعة مؤيديها بفضل علاقته الجيدة بقائدها عبد الكريم قاسم، والتي وصفتها جريدة "لوموند" الفرنسية حينها بـ"أن الجواهري أقرب شخصية إلى زعيم العراق الجديد".

مجزرة قصر الرحاب.. نهاية دموية لحُكم الهاشميين في العراق
كان عبد الستار العبوسي في القصر لحظة خروج العائلة المالكة. ما إن رآهم حتى هرع نحوهم قفزًا.. وتأكد من الضابط المرافق لهم أنه اصطحب كافة العائلة الهاشمية، ثم رفع رشاشه وراح يُطلق الرصاص يمينًا ويسارًا حتى سقطوا جميعًا مضرجين بدمائهم.

 استأنف الشاعر العراقي إصدار جريدة "الرأي العام" مرة جديدة وخصّص صفحاتها للحديث عن الثورة وإنجازاتها، وفي هذه الأجواء انتُخب رئيسًا لاتحاد الأدباء العراقيين ونقيبًا للصحفيين.

وأنشد في مديح الثورة وتفاؤله بها قائلاً: "هذا العراق وهذه ضرباته\ كانت له من قبل ألف ديدنا... وطن تطهّر إذ تطهّر قلبه\ وطن وقد عادا معًا فتوطنّا"، ومن كثرة ما كتب الجواهري في دعم حركة الجيش لُقِّب بين العراقيين بـ"شاعر الثورة".

امتدح الجواهري عبد الكريم قاسم أيضا في قصيدة طويلة قال فيها "أبا كل حر لا أبا الشعب وحده... إذا احتضن الأحرار في أمة أب... هنيئًا لك العيد الذي أنتَ رمزه\ بذكرك يستعلي وباسمك يطرب".

لكن هذا الود لم يدم طويلاً، إذ سُرعان ما نشبت الخلافات بينه وبين الحُكام الجدد فأمروا بتوقيفه وسجنه وهو ما اضطره إلى الهرب عام 1961 إلى لبنان ثم إلى براغ، عاصمة التشيك، حيث عاش ضيفًا على اتحاد الأدباء التشيكوسلوفاكيين لمدة 7 سنوات كتب فيها ديوانه "بريد الغربة".

كتب في مذكراته عن تلك الفترة المُرة من حياته: "أنا اليوم في مرحلة تتجاوز كل شيءٍ في ضراوتها وقساوتها، بل وفي تخبطي أنا بالذات في مجاهلها، والحقيقة المرة أنني كنت أحارب أكثر من جبهة واحدة؛ جبهة جهاز عبد الكريم قاسم، وجبهة الصحافة، وجبهة الأرض الخراب".

انقلاب 8 شباط.. القوميون والبعثيون يستولون على السلطة
سلم رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم نفسه ظهيرة 9 شباط 1963، واقتيد إلى أستوديو التلفزيون حيث جرت محاكمته من قبل محكمة خاصة شكلت برئاسة عبد الغني الراوي، وحكم عليه ورفاقه بالإعدام رميا بالرصاص وعرضت صورهم بعد تنفيذ الحكم على شاشة التلفزيون العراقي.

عاد إلى العراق عام 1968، عقب تدبير حزب البعث ثورة قادته إلى السُلطة بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين. وجّهت له حكومة الثورة دعوة للعودة إلى بغداد، حيث أعدّت له استقبالاً حافلاً، ألقى خلاله قصيدته المشهورة "أرِح ركابك"، والتي بدأت بـ"أرِح ركابك من أين ومن عثر\ كفاك جيلان محمولاً على سفر... كفاك موحش دربٍ رحت تقطعه\ كأن مغبرّه ليلٌ بلا سحر".

خصّصت له الحكومة العراقية معاشًا تعاقديًا قدره 150 دينارًا، ومنحته حرية كتابة القصائد كما يشاء، وفي العام التالي أصدر ديوانه الجديد "بريد العودة".

في عهد البعث، كتب الجواهري قصيدته "يا دجلة الخير" التي وجّه فيها انتقادات شديدة بحقّ صديقه القديم عبد الكريم قاسم فقال بحقّه "ما تزال سياط البغي ناقعة\في مائط الكهر بين الحين والحين... ووالغات خيول البغي مصبحة على القرى آمنين والدهاقين).

وشكر الجواهري قادة الدولة الجُدد على ترحيبهم به، فكتب احتفالاً بمرور 10 سنوات على ثورتهم: "نعمتم صباحًا قادة البعث أصيدا\ يسدّد خطو الصيد منكم واغلبا".

كالعادة، لم يطل الوفاق بينه وبين حُكام البعث طويلاً، فسرعان ما تجدّدت الخلافات فاضطر على إثرها للخروج من البلاد نهائيًا عام 1980.

 

سوريا.. الوِجهة الأخيرة

 

غادر محمد مهدي الجواهري العراق إلى سوريا حيث نزل في ضيافة الرئيس حافظ الأسد، الذي أكرم وفادته ومنحه أعلى وسام في البلاد، وسرعان ما ردَّ الجواهري التحية بـ"أحسن منها" بعدما ألّف قصيدته الشهيرة "دمشق جبهة المجد"، التي تُعتبر واحدة من أفضل ما قدّم من أدب، وامتدح فيها الرئيس حافظ قائلاً "سلامًا أيها الأسد.. سلمت وتسلم البلد".

عاش الجواهري في سوريا ما تبقّى من حياته حتى مات عام 1997 عن عُمر ناهز الـ98 عامًا، وشُيِّع جثمانه في جنازة مهيبة تقدّمها نائب الرئيس السوري ممثلاً عن حافظ الأسد وعبد القادر قدورة رئيس مجلس الوزراء، انتهت إلى مقبرة الغرباء التي تقع في حسي السيدة زينب، حيث دُفن إلى جوار زوجته.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".