لم يكن دخول المرأة مجال الإخراج السينمائي والتلفزيوني سهلاً، فالطريق كان "مفروشاً بالتحديات"، كما تقول فردوس مدحت، أول مخرجة تدخل قسم الدراما في مبنى الإذاعة والتلفزيون في العراق عام 1973.
"حينها كان جميع العاملين في القسم من الرجال، وكنت أخشى مجرد النظر إليهم، وكنت حذرة في كل حركة أو خطوة"، لكن "المحيط الذكوري"، كما تقول فردوس مدحت لـ"ارفع صوتك"، "تقبلني، وكانت الأسماء الكبيرة مثل عبد الهادي مبارك وحسين التكريتي حريصة على دفع الجيل الجديد إلى الأمام، وتوفير الإحساس بالأمان". يرجع هذا أساسا إلى "رغبتهم دخول العنصر النسوي مجال الإخراج التلفزيوني".
سبقت الدراما السينمائية الدراما التلفزيونية في العراق. ومع تأسيس تلفزيون العراق العام 1956، بدأ تقديم التمثيليات والمسرحيات التلفزيونية. أما المسلسلات، فلم يتم إنتاجها إلا بعد وصول أجهزة التقطيع والمونتاج أواخر الستينات، وهي ذات الفترة التي التحقت فيها فردوس مدحت بأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد.
أكثر من خمسة عقود مضت، مع ذلك ما زالت فردوس مدحت تتذكر كيف قام شقيقها الأكبر بـ"جري من شعري عبر ممرات أكاديمية الفنون الجميلة وصولا إلى البيت، لمعارضته مشاركتي في التمثيل على خشبة مسرح الجامعة". كان ذلك في عامها الدراسي الأول، لكن وقوف والدها إلى جوارها وإسنادها كان "سبب عودتي إلى مقاعد الدراسة وتخرجي بنجاح".
ورغم موهبتها في التمثيل، إلا أنها فضلت، "الاختباء خلف الكاميرا، لأن ظروفي الاجتماعية حينها لم تسمح لي بأكثر من ذلك"، تقول مدحت.
بث التلفزيون أول أعمالها الاخراجية أواسط السبعينات. كان العمل عبارة عن "تمثيلية كتبها لي الفنان يوسف العاني حملت عنوان يوم الثلاثاء". ومنذ ذلك الحين، أخرجت فردوس مدحت العشرات من التمثيليات والسهرات التلفزيونية، والمسرحيات المتلفزة والأغاني، وسبعة مسلسلات درامية، أشهرها وآخرها "حكاية من الزمن الصعب"، والذي قدمته في ثلاثة أجزاء ما بين عامي 1995 و2002.
المخرجات اللواتي عملن في التلفزيون "كُن أكثر إنتاجاً وتواجداً على الساحة من المخرجات السينمائيات، يعود ذلك إلى الاستمرارية في الإنتاج التلفزيوني، مقارنة بالسينما"، تقول المخرجة العراقية.
بعكس العمل في الإخراج التلفزيوني، كانت بيئة العمل السينمائي في العراق متشنجة، بسبب قرارات حكومية تسببت بأزمات متلاحقة أثرت سلبا على الإنتاج السينمائي بشكل عام.
ففي عام 1973، أقصى مجلس قيادة الثورة القطاع الخاص، واحتكر القطاع العام العمل السينمائي من ناحية الإنتاج والاستيراد والتوزيع. وفي الثمانينات بعد اندلاع الحرب العراقية الايرانية، تدفقت الأموال الحكومية باتجاه الأفلام السينمائية والروائية والتسجيلية الحربية، لتنتج أفلاماً ضخمة كـ"القادسية"، و"الحدود الملتهبة"، و"المنفذون"، و"صخب البحر"، و"شمسنا لن تغيب"، وغيرها.
ما زالت فردوس مدحت تتذكر كيف قام شقيقها الأكبر بـ"جرها من شعرها عبر ممرات أكاديمية الفنون الجميلة وصولا إلى البيت، لمعارضته مشاركتها في التمثيل على خشبة مسرح الجامعة".
أثرت هذه القرارات سلباً على الإنتاج السينمائي العراقي، وبالنتيجة لم يكن بإمكان أية مخرجة على خوض التجربة لعقود منذ أول فيلم عراقي أنتِج العام 1946، حتى مهدت خيرية المنصور الطريق أمام بنات جيلها عندما "احتلت" كرسي المخرج عام 1988، وقادت صناعة فلم "ستة على ستة" الكوميدي، أي بعد أكثر من أربعين عاماً على انطلاق السينما العراقية.
تقول خيرية المنصور لـ"ارفع صوتك" إنها "واجهت الكثير من العراقيل، فالإخراج السينمائي كان حكراً على الرجال لعقود، وكنت المرأة الوحيدة بين 45 مخرجاً". أولى العراقيل كانت "محاولة تقليص مدة الفيلم ومنحي ميزانية أقل بكثير مما طلبته". وكاد مشروع خيرية أن يتوقف لولا "استعانتي بزملاء إعلاميين، ساعدوني على شن حملة صحفية، تمكنت بعدها من إنجاز الفيلم وعرضه، ليحقق نجاحاً قل نظيره في ذلك الوقت".
قوة خيرية المنصور التي مكنتها من الدفاع عن عملها، كما تقول، جاءت نتيجة عملها لسنوات طويلة مساعدة للمخرج المصري يوسف شاهين في أربعة من أفلامه وهي "حدوتة مصرية"، "إسكندرية كمان وكمان"، "المصير"، "كلها خطوة"، ومع محمد راضي في "حائط البطولات"، وصلاح أبو سيف في فيلم "القادسية".
انتهت الحرب بعد فترة قصيرة على إطلاق فيلم خيرية المنصور، وتطلَّعَ الفنانون إلى عصر سينمائي جديد. لكن سرعان ما تعرضت السينما إلى نكسة جديدة، بعد فرض الحصار الاقتصادي ومنع استيراد المواد الخاصة بصناعة السينما، كما أُغِلق قسما السينما في التلفزيون وفي المؤسسة العامة للسينما والمسرح. وتراجعت أهمية الأفلام في نظر الجمهور أمام الخبز، وأثر ذلك على إقدام المراة على العمل في السينما.
ترى المنصور أن "عدد المخرجات اللواتي يعملن اليوم في مجال الإخراج السينمائي بشكل عام قليل جدا". أما أبرز مشاكلهن، "فتتعلق برحلة البحث عن تمويل في مجتمع ذكوري يهيمين عليه الرجل، ولا يثق فيه أصحاب رؤوس الأموال بقدرة المرأة على قيادة فيلم وتحقيق أرباح من خلاله"، فتضطر المخرجات إلى "البحث عن تمويل عبر المؤسسات الثقافية غير القادرة على تحقيق أفلام بتكاليف عالية".
الحصول على تمويل لإنتاج فلم معضلة أساسية، كما ترى المخرجة الشابة ورود العزاوي التي بدأت العمل عام 2014. تقول لـ" ارفع صوتك" إن إنتاج الافلام في العراق اليوم "خاضع إلى المحسوبية والعلاقات التي يمتلكها الشخص". أما المعوقات الاجتماعية لعمل المرأة في مجال الإخراج "فتراجعت بشكل كبير".
العزاوي تمكنت حتى الآن من إخراج أربعة أفلام قصيرة بميزانيات صغيرة معظمها ذاتية، وهي "نابالم"، و"حسجة"، و"رقم"، و آخرها فيلم "لبوات"، الذي وثقت من خلاله دور المرأة في احتجاجات تشرين العام 2019.
"استمر التصوير في فيلم لبوات لأكثر من ثلاثة أشهر في أجواء اتسمت بالعنف المرافق للتظاهرات، وهذه كانت المرة الأولى التي أجد اعتراضات عائلية لعملي بسبب الخوف على حياتي". وتنتقد العزاوي الاتجاهات الفنية السائدة في العراق اليوم، "التي تعتمد إعلاميا على شكل المرأة فقط، بغض النظر عن مستواها الاكاديمي وكفاءتها".
وبحسب المخرجة إيمان خضير، فإن تواجد المرأة في مقعد المخرج يشهد تراجعاً بشكل ملحوظ لسببين رئيسيين، "الأول أساسي وجوهري يتعلق بعدم توفر التمويل اللازم لصناعة الأفلام"، يأتي هذا في ظل رغم وجود عدد هائل من الفضائيات العراقية. "والسبب اهتمام الممولين بالأخبار فحسب، فيما تمتلك شبكة الإعلام العراقي قسما خاصا للانتاج. وبالتالي، لا أحد يمول الأفلام الوثائقية والسينمائية، رغم أن هناك الكثير من الافكار تستحق التمويل، في بلد متحرك ساحته مليئة بالقصص والحكايات".
أما السبب الثاني لتراجع أعداد المخرجات فيتعلق "بالارتباط والتفرغ لتكوين العائلة، رغم أن كلية الفنون الجميلة تُخَرج سنوياً أعداداً جيدة منهن، لكن اللواتي يستمرن بالعمل قليلات جدا".
تمكنت المخرجة إيمان خضير من تجاوز عقبة الإنتاج في سابع أفلامها، وباكورة أعمالها الروائية بتمويل ذاتي لفيلم قصير أخرجته العام الماضي، حمل الفلم اسم "صفر"، وحصد جائزتين الأولى عراقية والثانية مغربية.
قبل هذا الفيلم، دخلت المخرجة إيمان خضير الحاصلة على ماجستير في الإخراج الى عالم السينما من باب الأفلام الوثائقية عام 2007، حين أخرجت فيلما بعنوان "أنيس الصائغ"، ثم أخرجت خمسة أفلام وثائقية أُخرى هي "طوابع فلسطين"، و"الملك فيصل الأول"، و"مقاهي بغداد"، و"ضد الكونكريت"، وصولا إلى "عاملات الطابوق".
وفي النهاية، وبعيدا عن الحديث عن جنس للمخرج، فإن "ثقافة الفيلم السينمائي في العراق ضعيفة، وتعاني من التراجع"، تقول خضير. وتوضح أن هذا التراجع لاحظته من خلال عملها كعضو في مهرجانين العام الحالي، الأول مهرجان المرأة الذي تقيمه نقابة الفنانين بدعم من مجلس الوزراء، المخصص فقط لأفلام تخرجها النساء. "كانت مستويات الأفلام المُقدمة بين البسيطة والمتوسطة، وكان هناك فيلم واحد بمستوى جيد".
تكرر الأمر في مهرجان السينما العراقية، الذي يهتم بالسينما العراقية بشكل عام حيث "تراوحت جودة الأعمال فيه ما بين الضعيفة والمتوسطة، يأتي ذلك مع أن الرجل لديه مساحة أكبر للتحرك وأغلبهم موظفين في دائرة السينما والمسرح، وبالتالي لديهم التمويل اللازم".