سبقت الدراما السينمائية الدراما التلفزيونية في العراق. ومع تأسيس تلفزيون العراق العام 1956، بدأ تقديم التمثيليات والمسرحيات التلفزيونية.
سبقت الدراما السينمائية الدراما التلفزيونية في العراق. ومع تأسيس تلفزيون العراق العام 1956، بدأ تقديم التمثيليات والمسرحيات التلفزيونية.

لم يكن دخول المرأة مجال الإخراج السينمائي والتلفزيوني سهلاً، فالطريق كان "مفروشاً بالتحديات"، كما تقول فردوس مدحت، أول مخرجة تدخل قسم الدراما في مبنى الإذاعة والتلفزيون في العراق عام 1973.

"حينها كان جميع العاملين في القسم من الرجال، وكنت أخشى مجرد النظر إليهم، وكنت حذرة في كل حركة أو خطوة"، لكن "المحيط الذكوري"، كما تقول فردوس مدحت لـ"ارفع صوتك"، "تقبلني، وكانت الأسماء الكبيرة مثل عبد الهادي مبارك وحسين التكريتي حريصة على دفع الجيل الجديد إلى الأمام، وتوفير الإحساس بالأمان". يرجع هذا أساسا إلى "رغبتهم دخول العنصر النسوي مجال الإخراج التلفزيوني".

سبقت الدراما السينمائية الدراما التلفزيونية في العراق. ومع تأسيس تلفزيون العراق العام 1956، بدأ تقديم التمثيليات والمسرحيات التلفزيونية. أما المسلسلات، فلم يتم إنتاجها إلا بعد وصول أجهزة التقطيع والمونتاج أواخر الستينات، وهي ذات الفترة التي التحقت فيها فردوس مدحت بأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد.

أكثر من خمسة عقود مضت، مع ذلك ما زالت فردوس مدحت تتذكر كيف قام شقيقها الأكبر بـ"جري من شعري عبر ممرات أكاديمية الفنون الجميلة وصولا إلى البيت، لمعارضته مشاركتي في التمثيل على خشبة مسرح الجامعة". كان ذلك في عامها الدراسي الأول، لكن وقوف والدها إلى جوارها وإسنادها كان "سبب عودتي إلى مقاعد الدراسة وتخرجي بنجاح".

ورغم موهبتها في التمثيل، إلا أنها فضلت، "الاختباء خلف الكاميرا، لأن ظروفي الاجتماعية حينها لم تسمح لي بأكثر من ذلك"، تقول مدحت.

بث التلفزيون أول أعمالها الاخراجية أواسط السبعينات. كان العمل عبارة عن "تمثيلية كتبها لي الفنان يوسف العاني حملت عنوان يوم الثلاثاء". ومنذ ذلك الحين، أخرجت فردوس مدحت العشرات من التمثيليات والسهرات التلفزيونية، والمسرحيات المتلفزة والأغاني، وسبعة مسلسلات درامية، أشهرها وآخرها "حكاية من الزمن الصعب"، والذي قدمته في ثلاثة أجزاء ما بين عامي 1995 و2002.

المخرجات اللواتي عملن في التلفزيون "كُن أكثر إنتاجاً وتواجداً على الساحة من المخرجات السينمائيات، يعود ذلك إلى الاستمرارية في الإنتاج التلفزيوني، مقارنة بالسينما"، تقول المخرجة العراقية.

بعكس العمل في الإخراج التلفزيوني، كانت بيئة العمل السينمائي في العراق متشنجة، بسبب قرارات حكومية تسببت بأزمات متلاحقة أثرت سلبا على الإنتاج السينمائي بشكل عام.

 ففي عام 1973، أقصى مجلس قيادة الثورة القطاع الخاص، واحتكر القطاع العام العمل السينمائي من ناحية الإنتاج والاستيراد والتوزيع. وفي الثمانينات بعد اندلاع الحرب العراقية الايرانية، تدفقت الأموال الحكومية باتجاه الأفلام السينمائية والروائية والتسجيلية الحربية، لتنتج أفلاماً ضخمة كـ"القادسية"، و"الحدود الملتهبة"، و"المنفذون"، و"صخب البحر"، و"شمسنا لن تغيب"، وغيرها.

ما زالت فردوس مدحت تتذكر كيف قام شقيقها الأكبر بـ"جرها من شعرها عبر ممرات أكاديمية الفنون الجميلة وصولا إلى البيت، لمعارضته مشاركتها في التمثيل على خشبة مسرح الجامعة".

أثرت هذه القرارات سلباً على الإنتاج السينمائي العراقي، وبالنتيجة لم يكن بإمكان أية مخرجة على خوض التجربة لعقود منذ أول فيلم عراقي أنتِج العام 1946، حتى مهدت خيرية المنصور الطريق أمام بنات جيلها عندما "احتلت" كرسي المخرج عام 1988، وقادت صناعة فلم "ستة على ستة" الكوميدي، أي بعد أكثر من أربعين عاماً على انطلاق السينما العراقية.

تقول خيرية المنصور لـ"ارفع صوتك" إنها "واجهت الكثير من العراقيل، فالإخراج السينمائي كان حكراً على الرجال لعقود، وكنت المرأة الوحيدة بين 45 مخرجاً". أولى العراقيل كانت "محاولة تقليص مدة الفيلم ومنحي ميزانية أقل بكثير مما طلبته". وكاد مشروع خيرية أن يتوقف لولا "استعانتي بزملاء إعلاميين، ساعدوني على شن حملة صحفية، تمكنت بعدها من إنجاز الفيلم وعرضه، ليحقق نجاحاً قل نظيره في ذلك الوقت".

قوة خيرية المنصور التي مكنتها من الدفاع عن عملها، كما تقول، جاءت نتيجة عملها لسنوات طويلة مساعدة للمخرج المصري يوسف شاهين في أربعة من أفلامه وهي "حدوتة مصرية"، "إسكندرية كمان وكمان"، "المصير"، "كلها خطوة"، ومع محمد راضي في "حائط البطولات"، وصلاح أبو سيف في فيلم "القادسية".

انتهت الحرب بعد فترة قصيرة على إطلاق فيلم خيرية المنصور، وتطلَّعَ الفنانون إلى عصر سينمائي جديد. لكن سرعان ما تعرضت السينما إلى نكسة جديدة، بعد فرض الحصار الاقتصادي ومنع استيراد المواد الخاصة بصناعة السينما، كما أُغِلق قسما السينما في التلفزيون وفي المؤسسة العامة للسينما والمسرح. وتراجعت أهمية الأفلام في نظر الجمهور أمام الخبز، وأثر ذلك على إقدام المراة على العمل في السينما.

ترى المنصور أن "عدد المخرجات اللواتي يعملن اليوم في مجال الإخراج السينمائي بشكل عام قليل جدا". أما أبرز مشاكلهن، "فتتعلق برحلة البحث عن تمويل في مجتمع ذكوري يهيمين عليه الرجل، ولا يثق فيه أصحاب رؤوس الأموال بقدرة المرأة على قيادة فيلم وتحقيق أرباح من خلاله"، فتضطر المخرجات إلى "البحث عن تمويل عبر المؤسسات الثقافية غير القادرة على تحقيق أفلام بتكاليف عالية".

الحصول على تمويل لإنتاج فلم معضلة أساسية، كما ترى المخرجة الشابة ورود العزاوي التي بدأت العمل عام 2014. تقول لـ" ارفع صوتك" إن إنتاج الافلام في العراق اليوم "خاضع إلى المحسوبية والعلاقات التي يمتلكها الشخص". أما المعوقات الاجتماعية لعمل المرأة في مجال الإخراج "فتراجعت بشكل كبير".

العزاوي تمكنت حتى الآن من إخراج أربعة أفلام قصيرة بميزانيات صغيرة معظمها ذاتية، وهي "نابالم"، و"حسجة"، و"رقم"، و آخرها فيلم "لبوات"، الذي وثقت من خلاله دور المرأة في احتجاجات تشرين العام 2019.

"استمر التصوير في فيلم لبوات لأكثر من ثلاثة أشهر في أجواء اتسمت بالعنف المرافق للتظاهرات، وهذه كانت المرة الأولى التي أجد اعتراضات عائلية لعملي بسبب الخوف على حياتي". وتنتقد العزاوي الاتجاهات الفنية السائدة في العراق اليوم، "التي تعتمد إعلاميا على شكل المرأة فقط، بغض النظر عن مستواها الاكاديمي وكفاءتها".

وبحسب المخرجة إيمان خضير، فإن تواجد المرأة في مقعد المخرج يشهد تراجعاً بشكل ملحوظ لسببين رئيسيين، "الأول أساسي وجوهري يتعلق بعدم توفر التمويل اللازم لصناعة الأفلام"، يأتي هذا في ظل رغم وجود عدد هائل من الفضائيات العراقية. "والسبب اهتمام الممولين بالأخبار فحسب، فيما تمتلك شبكة الإعلام العراقي قسما خاصا للانتاج. وبالتالي، لا أحد يمول الأفلام الوثائقية والسينمائية، رغم أن هناك الكثير من الافكار تستحق التمويل، في بلد متحرك ساحته مليئة بالقصص والحكايات".

أما السبب الثاني لتراجع أعداد المخرجات فيتعلق "بالارتباط والتفرغ لتكوين العائلة، رغم أن كلية الفنون الجميلة تُخَرج سنوياً أعداداً جيدة منهن، لكن اللواتي يستمرن بالعمل قليلات جدا".

تمكنت المخرجة إيمان خضير من تجاوز عقبة الإنتاج في سابع أفلامها، وباكورة أعمالها الروائية بتمويل ذاتي لفيلم قصير أخرجته العام الماضي، حمل الفلم اسم "صفر"، وحصد جائزتين الأولى عراقية والثانية مغربية.

قبل هذا الفيلم، دخلت المخرجة إيمان خضير الحاصلة على ماجستير في الإخراج الى عالم السينما من باب الأفلام الوثائقية عام 2007، حين أخرجت فيلما بعنوان "أنيس الصائغ"، ثم أخرجت خمسة أفلام وثائقية أُخرى هي "طوابع فلسطين"، و"الملك فيصل الأول"، و"مقاهي بغداد"، و"ضد الكونكريت"، وصولا إلى "عاملات الطابوق".

وفي النهاية، وبعيدا عن الحديث عن جنس للمخرج، فإن "ثقافة الفيلم السينمائي في العراق ضعيفة، وتعاني من التراجع"، تقول خضير. وتوضح أن هذا التراجع لاحظته من خلال عملها كعضو في مهرجانين العام الحالي، الأول مهرجان المرأة الذي تقيمه نقابة الفنانين بدعم من مجلس الوزراء، المخصص فقط لأفلام تخرجها النساء. "كانت مستويات الأفلام المُقدمة بين البسيطة والمتوسطة، وكان هناك فيلم واحد بمستوى جيد".

تكرر الأمر في مهرجان السينما العراقية، الذي يهتم بالسينما العراقية بشكل عام حيث "تراوحت جودة الأعمال فيه ما بين الضعيفة والمتوسطة، يأتي ذلك مع أن الرجل لديه مساحة أكبر للتحرك وأغلبهم موظفين في دائرة السينما والمسرح، وبالتالي لديهم التمويل اللازم".

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".