صورة ملتقطة من إحدى حلقات مسلسل "مو" تظهر فيه عائلته المكونة من أمه وأخته وأخيه، مع محامية اللجوء
صورة ملتقطة من إحدى حلقات مسلسل "مو" تظهر فيه عائلته المكونة من أمه وأخته وأخيه، مع محامية اللجوء

في عروضه الكوميدية الحيّة، يختار محمد عامر، المعروف بـ"مو"، ارتداء الكوفية الفلسطينية كجزء من ثيابه، وغالباً تكون سوداء، أو المفتاح في قلادة على عنقه، وهو ما يسميه الفلسطينيون "مفتاح العودة"، ليأتي الرمز الثالث في مسلسله الجديد على شبكة نتفليكس "MO": زيت الزيتون.

ويعتبر مسلسله أول إنتاج أميركي عن قصة لاجئ فلسطيني،  حمل في معظم أجزائه قصة عامر نفسه، حسب حديثه لبرنامج "ساترديه نايت لايف" لجيمي فالون.

لاقى العمل الكوميدي-الدرامي احتفاء في تقارير ومقالات لأبرز الصحف الأميركية والبريطانية، حملت عناوين تدلل على أهميته في نقل حكاية الفلسطيني اللاجئ، محملاً بالألم والضحكة معاً، وجالباً للتعاطف مع الفلسطينيين بشكل عام.

كما اعتبرته بعضها عملاً "استثنائياً"، وأخرى رأت فيه رسالة حب من عامر إلى الشعب الفلسطيني.

المسلسل نفسه نال إعجاباً كبيراً أيضاً في الصحافة العربية، كما أخذ نصيبه من الهجوم في مواقع التواصل الاجتماعي. وكغيره من الأعمال العربية التي تُنتج للجمهور الغربي، تعرض لعبارات سمعناها مراراً، مثل: "لا يمثل الفلسطيني" أو "يشوه صورة الفلسطيني".

هذه العبارات برأيي لا تحتاج الكثير من النقاش، ليس للفلسطيني فحسب، بل مع أي عمل يكون بطله أو أبطاله من جنسية أو قومية بعينها، لأن لا معنى لها في العمل الفني أو الإبداعي، الذي يلتقط بدوره فردانية القصة من المجتمع الكبير المتنوع، ويصوغها بطريقته، علماً بأن عامر عرض رحلته الشخصية دون تحرّج أو اعتذار.

لا ننسى أن هناك حساسية لدى الكثيرين في العالم العربي، تجاه الأعمال العربية التي تقدم على منصات دولية، وليست تجربة نتفليكس حديثة، إذ أن هذا الأمر تاريخي مع الأفلام العربية المرشحة أو الحائزة على جوائز في مهرجانات دولية، خصوصاً "كان" و"الأوسكار".

ولو تم تقديم "مو" بإنتاج عربي للجمهور العربي، قد يكون التفاعل معه أقل وطأة، وربما لن يُشاهد على مستوى واسع، فهناك العديد من الأعمال العربية أقوى بدرجات منه، قد يخسر معها المنافسة بسهولة.

أمثلة على إنتاجات عربية لنتفليكس، أدت لجدل كبير ومناهضة: مدرسة الروابي، جن، أصحاب ولا أعز.

بشكل عام، جمع المسلسل بين الرمزية المفرطة والصورة النمطية التي ارتبطت بالفلسطيني في دول عديدة، باعتباره "يحب دور الضحية" التي تلاحقها "لعنة" الفلسطيني، الذي يبكي ويلعن حظه في كل مأزق يمر به، وبين نفي الصفات "المحببة" للفلسطيني والآخرين، عنه.

مثل هذه الصفات: "البطل المثالي، عنوان الرجولة والشهامة والكرامة والنزاهة وصاحب قصص النجاح المبهرة تحت الاحتلال أو في أرض الشتات"، وغير ذلك من أمور سوّقت له عن طريق الكثير من الأدبيات الفلسطينية والعربية، حتى أصبح ربط صفة سلبية به مثار استعجاب.

كأن مسلسل "مو" يقول ببساطة: الفلسطيني إنسان عادي. قد يبيع بضاعة مزيفة ويحتال على الزبائن، وقد يدمن على مادة مخدرة، وقد يمارس الجنس من دون زواج، وقد يكون جالساً يلعب النرد مع يهودي أو يستعين به لإنجاز عمل ما، وإن حدث نقاش عن فلسطين بينهما سيتم تجنبه اختصاراً لأي جدل وانفعال، وأيضاً هناك فلسطيني يكره صدام حسين.

فعلياً، قد تكون هذه ميزته الكبيرة، بأنه يقدم شيئاً مختلفاً عن المألوف حول شخصية فلسطينية، فهو إلى جانب ذلك يتسم ببنية ضعيفة للأحداث، كما أن تمثيل "مو" نفسه بدا هزيلاً.

في المجمل شعرتُ أنه عمل هش غير متماسك، بمبالغة غير مبررة، كرمزية الزيت وعصر الزيتون والبكاء والحركة المشتتة للأداء (مو تحديداً)، واختلاط الدراما بالكوميديا بالتراجيديا بشكل فوضوي لدرجة أن أي مشهد يُفترض أنه مضحك، يبدو ثقيلاً، وأي مشهد درامي يبدو غير مقنع (صدمته من تعرض والده للتعذيب، أو مشكلة أخيه في العمل، مثالاً)، كما وقع في فخ الخطابية (حوار مو مع سار ق أشجار الزيتون المكسيكي).

وإذا وضع هذا المسلسل في خانة المقارنة مع "رامي" (إنتاج شبكة هولو)، الذي شارك بطله رامي يوسف في كتابة "مو"، وكان عامر نفسه أحد الشخصيات التي ظهرت في "رامي"، ستكون الغلبة لـ"رامي"، من جهة تماسك القصة وجرعة الكوميديا الجميلة، وتلقائية الأداء لأغلب الممثلين. 

مع ذلك، للمسلسل أهمية كبيرة، للأميركي الذي يحب ويتابع وحضر أحد العروض الحيّة لمحمد عامر، الذي يُعرّف دائماً على المسرح بفلسطينيته، ويروي قصصاً من حياته على مسارح الضحك، تحمل بين طياتها معاناة اللاجئ.

كما تتعرض قصته لمعاناة الكثير من اللاجئين والمهاجرين، لا الفلسطينيين فقط، علماً بأن مسؤولية عدم اكتمال طلب اللجوء لعائلة "مو" لأكثر من 20 عاماً لم تُلق على الجهاز الرسميبشكل مباشر، حيث بدت المحامية الفلسطينية هي السبب.

أما أهمية المسلسل بالنسبة للمشاهد العربي، أن العربي المسلم يقدم نفسه بنفسه على منصّة أميركية تبث للعالم، وأن الفلسطيني يقدم نفسه بنفسه، لأول مرة على نتفليكس، ولعامر الحظوة بأن يكون الأول، بسبب شهرته وشعبيته الكبيرة داخل أميركا.

والمسلسل، سواء أحببناه أو لا، احترمنا الجهد فيه أو لا، هو ضمن مجموعة أعمال فنية عربية مدعومة من شبكة نتفليكس، أعطت مساحة للعربي والمسلم من أجل التعبير عن نفسه.

وهي فعلياً ظاهرة حديثة، حيث ظل العربي والمسلم من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعقود، شخصية من وجهة نظر غربية، ضمن أفلام هوليوود والسينما الأوروبية.

وبالطبع نال المهاجرون غير الشرعيين واللاجئون نصيبهم المرّ من هذه الصورة.

صحيح، ما زال هناك إنتاج عالمي يصوّر المسلم أو العربي فجاً كسولاً أو متورطاً في عصابة، أو إرهابياً، خصوصاً مع تصاعد الإسلاموفوبيا في الغرب، نتيجة العمليات الإرهابية، لكن هذه الصورة لم تعد الوحيدة المتوفرة للمشاهد الغربي، غير المطلع أو المحتك ثقافياً بالمجتمعات العربية داخل وخارج أميركا. (مسلسل Bodyguard البريطاني، نموذجاً)

 

منذ سنوات ليست كثيرة، أصبح للممثل العربي مكان بين صفوف الممثلين في أي عمل أميركي، بدلاً من أن يؤدي دوره شخص من دولة أو قومية أخرى بلغة غير لغته ولهجة غير لهجة بلده وأحيانا غير مفهومة.

وكان لزاماً لهذا التغيير، أن يصل كاملاً، أي من تأليفه وتمثيله وإخراجه على منصات أميركية ودولية، فماذا لو كانت شبكة نتفليكس الأشهر بين شبكات البث التلفزيوني حول العالم، والناطقة بعدة لغات، محكية ومترجمة.

والمحتوى العربي على نتفليكس منوع، نتيجة تخصيصها بث "Mena region" ، فهناك العديد من المسلسلات والأفلام المصرية واللبنانية والفلسطينية وغيرها، المتوفر جزء كبير منها للمشاهد في أميركا، مترجما للغة الإنجليزية والإسبانية.

 

ليس العربي والمسلم وحده!

الصور النمطية المجحفة والمنفرّة، لم ترتبط فقط بالعربي والمسلم ضمن المسلسلات والأفلام الأميركية، إذ كان للعديد من الجنسيات نصيبها أيضاً، مثل الرّوس والصينيين والهنود والمكسيكيين والإيطاليين، إضافة إلى الأميركيين السّود واليهود في أميركا.

وإذا نظرنا لشبكة نتفليكس فقط، سنلاحظ أنها وبسبب توسعها في البث ضمن القارات جميعها، دعمت إنتاج واشترت حقوق بث عشرات الأعمال من مختلف الدول الأوروبية والآسيوية والأفريقية والأسترالية ومن الأميركيتين: الجنوبية والوسطى.

وهذه الأعمال قربت المشاهد الدولي والأميركي على وجه الخصوص، من ثقافات وأفكار ولغات، خلقت صوراً جديدة لديه، عن سكان تلك البلاد.

لا يعني ذلك أن جميع الأعمال أتت لتحسين الصورة، أو أن الصور الماضية كانت سيئة في المطلق، أحياناً هي أمور بسيطة عن حياة الآخرين، قد تصوّر في فيلم أو مسلسل ذائع الصيت، ثم تصبح كأنها "هم" أينما حلّوا وارتحلوا، وأي صفات أخرى أو معاكسة، تغدو "مدهشة".

حتى إن كانت القصص غير متعلقة بقضايا اجتماعية مباشرة، فهناك الكثير من الأعمال الدرامية تتمحور في سردها عن الجرائم والتحقيقات والجرائم والفانتازيا والرعب أو الخيال العلمي، لكن يمكن ببساطة عن طريقها الاطلاع على التنوع والغنى العالمي، عبر الإبداعات التمثيلية والإخراجية والتقنية، كأنها وجبات سريعة من كل بلد، يقدمها مطعم واحد.

والملفت ويُحترم أيضاً في تجربة نتفليكس، أنها تقدم الدبلجة للإنجليزية لأغلب الأعمال الآسيوية والأوروبية بلكنة أهل البلد، أي ليس باللكنة الأميركية البيضاء.

وإن كانت معرفة الآخر لا تُقاس مئة في المئة بما يُعرض في فيلم أو مسلسل، كان هناك شيء مثير للاهتمام، حول صور نمطية حول الحياة في أميركا وأوروبا، بالنسبة لي كامرأة عربية عاشت ثلاثة عقود من حياتها في دولة عربية.

فقبل الاطلاع الكبير على التجارب الدرامية من دول أوروبية عديدة كإسبانيا وبريطانيا والسويد وألمانيا وبولندا وفنلندا والدنمارك، بالإضافة لأعمال روسية وأسترالية، وأميركية بالطبع، كان الأميركي أو الأوروبي (الغربي عموماً)، بالنسبة لي، يمثل الانفتاح الكامل والإيمان الكامل بالحرية الفردية وحقوق المرأة واحترام المرأة في الحيز الخاص والعام وفي أماكن العمل، إضافة لتمتع الأقليات بمختلف الحقوق، ودعم مجتمع الميم (LGBTQ+).

وبعد الاطلاع عليها عبر نتفليكس، ولاعتناء إنتاجاتها بالإضاءة على مثل قضايا مماثلة، بدت لي المجتمعات الأخرى التي ظننت أنني أعرفها، شيئاً مختلفاً، وتطور لدي وعي أكبر حول طبيعة العلاقات والقوى فيها.

والاطلاع على التجارب البشرية المختلفة عبر الدراما، أمر بديع، يقرّب من مجتمعات وأفكار وثقافات ولغات أكثر مما يفرّق، فهي تشبه الخلاصة التي يجدها المسافر كلما ارتحل من بلد لبلد، أن أوجه الشبه بين الناس في كل مكان أكبر بكثير من الاختلاف، كما يجعله أكثر تقبلاً للاختلافات نظراً للفروقات الثقافية وتاريخ البلاد في الأمم التي سكنتها والحروب التي خاضتها، أو النهضات العمرانية والعلمية التي حققتها.

وهناك نوع من التعاطف الإنساني- العالمي في مختلف القضايا، تخلقه هذه المشاهدة، لأعمال تتعرض لقضايا حقوقية خاصة بالنساء أو الأقليات.

أمثلة على هذه المسلسلات: Doctor Foster , Maid, 13 reasons why, Unbelievable, Anatomy of a scandal, Intimacy, Alba, Queen, Colin in black and white, When they see us, Secret city

 

كأنها "اعتذار" عمّا سبق!

في شبه ظاهرة، ملفتة للانتباه، هناك مجموعة لا بأس بها من الأفلام والمسلسلات التي عُرضت أو ما زالت تُعرض عبر شبكة نتفليكس، خلال السنوات الماضية، سواء من إنتاجها أو اشترت حقوق البث أو الإنتاج، تروي قصصاً تتعلق بالإرهاب أو جرائم كراهية، يُتهم فيها عرب أو عرب مسلمون أو مسلمون من دول غير عربية.

وتظل الشبهات تحوم حولهم، ثم في النهاية يكون المذنب الحقيقي إما ضابط مخابرات، أو جان يقتل لغاية شخصية ويلصق التهمة بالإرهاب، ذلك أنه أسهل شيء بالنسبة للأجهزة الأمنية.

ومن أحدث الأمثلة على ذلك مسلسل إسباني اسمه "Victim number 8"، الذي يبدأ بحدوث تفجير يقتل عدداً من المدنيين، والمتهم الأول فيه عائلة مسلمة، ليتضح لاحقاً أنه رجل أعمال.

ويلخص بشكل عام صراع السلطات في إسبانيا: القانون، الإعلام، رأس المال، وأيضاً الاختراقات فيما بينهم، للسيطرة على الشعب من خلال تسويق لعدو واحد، والتغطية على احتمالات البراءة.

ومؤخراً أعدت مشاهدة مسلسل "The OA" بجزئيه، وهو أميركي إنتاج نتفليكس، تظهر في الجزء الأول امرأة اسمها "فتون" تتحدث اللغة العربية، وتمثل دورها الفنانة الفلسطينية القديرة هيام عبّاس، كشخصية موجودة في عالم الحياة ما بعد الموت.

وفي الجزء الثاني، بدا لي حوار بين محقق من أصول عربية مصرية اسمه كريم، وباحثة في دراسات الأحلام، في المسلسل المصنف في خانة الخيال العلمي، ويركز على الرؤية الوجودية وطبيعة الحياة بين الأبعاد الموازية، كأنه اعتذار عن حكايات عديدة خارج العمل نفسه.

يرد هذا النص، على لسان كريم: "كنت عميلاً في المباحث الفيدرالية، خمسة أعوام في العمل الميداني، وكنت متستراً في المجتمعات المسلمة في جميع أنحاء أميركا، باحثاً عن المتطرفين. هل تعلمين ما اكتشفته في هؤلاء الشباب يا دكتور رودز؟ كادوا يفعلون أي شيء لأحبهم، أنا الذي اهتممت بهم، واتصلت بهم وراسلتهم وأصغيت إليهم، وتسكعت معهم، وصليت صلوات الجمعة معهم".

"عندما حان الوقت لهم ليحملوا الأسلحة ويتعلموا صناعة قنبلة، فعلوا ذلك. وقبضنا عليهم. ولكن أؤكد لك، أن لا أحد منهم كان على علم بأي شيء عن الأسلحة والقنابل قبل مقابلتي. لقد علمتهم كل ذلك. ووقعت أيضاً على اتفاقية عدم الإفشاء عندما تركت المباحث الفدرالية. لم أنتهك أي قوانين دستورية، لكنني انتهكت قوانين أخلاقية أكبر"، يتابع كريم.

وفي نفس المسلسل يلتقي بعاملي تنظيف فلسطينيين في مدينة لوس أنجلوس الأميركية، يتحدث كلاهما اللهجة الفلسطينية "الكح"، حتى أن أحدهما يقول كلمة "أجرمنعنو"، وهي كلمة يصعب على غير الفلسطيني معرفتها.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".