نقل ذياب مشهور الأغنية الفراتية من حدودها الجغرافية لتصبح معروفة عربيًا.

في 24 سبتمبر 2022، توفي المطرب السوري ذياب مشهور، أبرز رواد "الغناء الفراتي" في العصر الحديث، والصوت الذي نقل الأغنية الفراتية، منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، من عزلة الجغرافيا إلى الفضاء الواسع، فرَاجَ هذا اللون من الغناء على مستوى الوطن العربي.

ولد ذياب مشهور البوخابور، في 15 فبراير 1946، في بلدة "موحسن" الواقعة على الضِفة اليمنى لنهر الفرات، والتابعة لمحافظة دير الزور.

ارتبطت حياة الطفل ذياب بنهر الفرات، ارتباطًا وثيقًا، كما تبيّن خريجة معهد الموسيقى في الرقة، والمتخصّصة في تاريخ الغناء الفراتي، سارة حسين، لـ "ارفع صوتك".

تقول: "نهر الفرات لم يرو عطش السكان فقط، بل روى خيال الشعراء والفنانين (...) وذياب مشهور واحدٌ من هؤلاء".

تقول سارة حسين، إن "نهر الفرات لم يرو عطش السكان فقط، بل روى خيال الشعراء والفنانين (...) وذياب مشهور واحدٌ من هؤلاء".

تُرجع سارة بداية ذياب مشهور مع الغناء إلى الطفولة المبكرة. تقول: "كان يغني مع أطفال الحارة، يجلس على ضفة النهر ويغني. يستدعيه الرجال للغناء في مجالسهم، كذلك غنى في المناسبات الاجتماعية (...) لا يوجد بيت في منطقة الجزيرة (الرقة والحسكة ودير الزور) إلا ودخله صوت ذياب مشهور".

اعتمد في بداياته المبكرة على قدراته السمعية، فهو لم يدرس الموسيقى، توضح حسين، فيما تقول روايات إنه لم يعرف القراءة والكتابة في صغره، وتعلمهما في وقت متأخر.

"موهبة لفتت انتباه الموسيقي "الكفيف" يوسف جاسم الذي عرّف ذياب مشهور على مقامات الموسيقى الشرقية، بشكل مكّنه لاحقًا من كتابة كلمات أغنياته ووضع الألحان لبعضها"، تضيف حسين.

وتتابع: "امتلك ذياب صوتًا عذبًا، وموهبة فريدة. شجعه أهالي البلدة على احتراف الغناء ليؤسس نهاية خمسينات القرن الماضي فرقة غنائية محلية. وفي سبعينات القرن الماضي انتقل إلى دمشق، وهناك اعتُمد مطربًا في الإذاعة السورية".

بعد أقل من ثلاث سنوات على انتقاله إلى دمشق، شارك مشهور إلى جانب دريد لحام ونهاد قلعي وناجي جبر في عددٍ من المسلسلات التلفزيونية الناجحة. قدّم مشهور فيها مجموعة من أغنياته الشهيرة، فغنى في مسلسل "صح النوم" أغنية "طولي يا ليلة" و"ميلي عليّ ميلي"، وفي مسلسل "ملح وسكر" غنى " يابو ردين يا بوردانه" و "علمايا".

تقول حسين: "أكسبته تلك الأعمال شهرة إضافية، تجاوزت حدود سوريا ليصبح معروفًا على مستوى الوطن العربي، ومعه أصبحت الأغنية الفراتية معروفة كذلك".

في هذا المقال، تُعرفنا سارة حسين على الأغنية الفراتية، تاريخها، ألوانها، خصائصها، وارتباطها بالمكان والإنسان.

 

أورنينا.. المغنية الفراتية الأولى

 

تؤرخ سارة حسين للغناء في منطقة الجزيرة بـ "أورنينا"، مغنية معبد عشتار، والتي يقدر علماء الآثار أنها أقدم مغنية عرفها التاريخ.

تنتمي "أورنينا" أو" أور نانشي" إلى مملكة ماري السامية، وهي مملكة ازدهرت على ضفاف نهر الفرات في الألف الثالث قبل الميلاد، وتقع بقاياها اليوم في محافظة دير الزور.

عثر على تمثال "أورنينا" المحفوظ في المتحف الوطني بدمشق عام 1933. ويصور التمثال البالغة ارتفاعه 25.4 سنتيمترًا وعرضة 13.5 سنتيمترًا، فتاة تجلس على وسادة مزخرفة، يداها غير ثابتين، تبدو اليد اليسرى وكأنها تمسك آلة موسيقة، فيما اليمنى مرتفعة وكأنها تعزف على الآلة الموسيقية.

تقول حسين: "هذا دليل حي على قدم الغناء في منطقة الفرات".

لكن النشأة الحديثة للغناء الفراتي تعود إلى القرن السابع الميلادي. تقول حسين: "استمر وتطور هذا اللون من الغناء منذ القرن السابع حتى وصل إلى ما نعرفه اليوم (...) وخلال عقود طويلة بقي هذا اللون محصورًا في مناطق الفرات قبل أن يبدأ بالانتشار خارجها مع مطلع عشرينات القرن الماضي".

 

"فن بلغة الحياة اليومية"

 

يتميز الغناء الفراتي ببساطة المعنى والألفاظ والتراكيب، تشرح المتخصصة في تاريخ الغناء الفراتي، سارة حسين، وتقول: "من السهل أن يتفاعل جميع الناس مع هذا اللون من الغناء على مختلف مستوياتهم الفكرية، فهو فن يكتب بلغة الحياة اليومية، وتجمع كلماته بين الفصحى والعامية".

يقدم الغناء الفراتي "لقطات تصويرية من الحياة الواقعية، يشرح موقفًا غزليًا، عتابًا، فرحًا، حزنًا، سعادة بموسم الحصاد، قلقًا وخوفًا عند فيضان النهر، وغيرها من التفاعلات الإنسانية (...) يقدمها بطريقة مسموعة، وكلمات مختصرة بسيطة تترك تأثيرًا بالغًا على مشاعر المستمع"، كما تضيف.

ومن مزايا هذا اللون من الغناء، ارتباطه بنهر الفرات، والنمط الزراعي السّائد في الجزيرة الفراتية.

"نهر الفرات محور الأغنية الفراتية"، تبيّن حسين، قائلة: "كان الناس يغنون أثناء انتقالهم بين ضفتي النهر، عندما يركبون السفن المحملة بالركاب أو المَؤونة، يغنون للماء من أجل إزالة الخوف".

وحول علاقة الغناء الفراتي بالنمط الزراعي، تقول سارة حسين: "في مواسم البذار وجني الثمر، كان الناس يغنون بشكل جماعي، هذا الغناء جَسَد قيم العمل الجماعي، وجذّر علاقة الإنسان بالأرض (...) الغناء يساعدهم على تخفيف العبء الجسدي الناتج عن العمل".

وكان الغناء في المواسم الزراعية بمثابة رسائل حب يتبادلها العشاق، وهنا تسرد حسن حادثة وقعت خلال أحد المواسم الزراعية. "أعجب شاب بفتاة فغنى للتغزل بها: يا ليتني غيمة وأرد الشمس عنكم، ولا مطر صيف وارد الربيع إلكم".

 

ألوان الغناء الفراتي.. حب وقمر وماء

 

تتعدد ألوان الغناء الفراتي، ومن أشهرها، كما تعدّد حسين:

- المولية: وهي قصيدة تنظم على البحر البسيط، تتكون في الأصل من خمسة أشطر، لكن الثقافة الفراتية اختصرتها إلى أربع أشطر. تنتهي الأشطر الثلاثة الأولى بقافية شعرية واحدة في حين ينتهي الشطر الأخير بالياء المشددة أو التاء المربوطة.

في السابق نظمت هذه القصيدة المغناة للتعبير عن الحزن على فقدان الأحبة، ومن ثمّ أصبحت تغنى للدلالة على الحب العذري.

اللا لا: وتعني في التراث الفراتي القمر، إذ كان الناس يغنون للقمر عندما يعلو ويتلألأ ويصبح مشاهدًا من قبل الجميع.

المايا: المايا في اللهجة الفراتية تعني الغزالة، لكنها تدلّ في الأغنية على امرأة جميلة عاشت على ضفاف نهر الفرات، وتغنى بها الشعراء.

البوردانة أو البربانة: وهي امرأة كانت تقدم القهوة لزوار نهر الفرات.

الميجنى: لون غنائي ارتبط بفيضان نهر الفرات وما يُلحقه هذا الفيضان من خراب ودمار، وفي اللهجة الفراتية يأتي كناية عن "الجنون".

السويلحي: لون غنائي اشتهر في الجزيرة الفراتية وريف حلب، يصنف ضمن الأغاني الريفية والبدوية، وهو يعبر عن الحزن والألم الناتجين عن شدّة الحب.  

اللكاحي: لون فراتي يغنى على طراز "يايوم" التي تتكرر في مطلعه، يمتاز هذا الغناء برقة موضوعاته وسهولة نظمه، ويغنى ببطء شديد، وينتشر بين النساء بشكل كبير.

العتابا: لون غنائي يقوم على معاتبة الحبيب لما يبديه من صدّ وهجران، ويمتد العتاب ليشمل الأصدقاء والأهل.

جميع ألوان الغناء الفراتي اعتمدت على آلات موسيقة بسيطة مثل الزمارة والدّف والربابة. وبحسب حسين، فإن "أصوات هذه الآلات عكست بشكل كبير حياة سكان الجزيرة الفراتية والأصوات التي ألفوها".

 

عائلات غنائية وغياب للمرأة الفراتية

 

إضافة إلى ذياب مشهور، ويوسف جاسم، تذكر حسين، العديد من الأسماء لمغنين وعازفين اشتهروا بتقديم اللون الفراتي، والملاحظ في هذه الأسماء وجود عائلات فنية تتوارث الغناء الفراتي جيلًا بعد جيل.

من تلك الأسماء، الفنان محمد الحسن، والذي تصفه حسين، بأنه "أشهر من غنى على الدّف في القرن العشرين"، إضافة إلى خلف الحسان الذي تميّز بالغناء على الربابة، وتبعه في الغناء الفراتي أولاده لؤي ومعاذ وقصي الحسان.

ومن الأسماء التي تؤكد الانطباع العائلي للغناء الفراتي "، يوسف حسين الحسن، عبد الله حسين الحسن، وزيد محمد الحسن، إضافة إلى خليل الجابر وفيصل الجابر"، وفقًا لسارة حسين.

وسط مئات الأسماء، والشواهد التاريخية التي تؤكد أن "أورنينا" المنتمية إلى الجزيرة الفراتية، هي أقدم مغنية في التاريخ، تغيب النساء عن الغناء الفراتي، أو يحضرن بشكل خجول. عن الأسباب تقول حسين: "الجزيرة الفراتية منطقة محافظة جدًا، ليس من السهل تقبل غناء الفتيات".

لكنها تتحدث عن حالات نادرة لمغنيات فراتيات، تذكر منهن خولة الحسين الحسن ابنة الفنان حسين الحسن، والتي غنّت مع فرقة الرقة للفنون الشعبية، واشتهرت بأغنية "أبو الخديد الورديتين"، إضافة إلى ظهور عدد من الفنانات مؤخرًا مثل رنيم العساف.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".