في 24 سبتمبر 2022، توفي المطرب السوري ذياب مشهور، أبرز رواد "الغناء الفراتي" في العصر الحديث، والصوت الذي نقل الأغنية الفراتية، منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، من عزلة الجغرافيا إلى الفضاء الواسع، فرَاجَ هذا اللون من الغناء على مستوى الوطن العربي.
ولد ذياب مشهور البوخابور، في 15 فبراير 1946، في بلدة "موحسن" الواقعة على الضِفة اليمنى لنهر الفرات، والتابعة لمحافظة دير الزور.
ارتبطت حياة الطفل ذياب بنهر الفرات، ارتباطًا وثيقًا، كما تبيّن خريجة معهد الموسيقى في الرقة، والمتخصّصة في تاريخ الغناء الفراتي، سارة حسين، لـ "ارفع صوتك".
تقول: "نهر الفرات لم يرو عطش السكان فقط، بل روى خيال الشعراء والفنانين (...) وذياب مشهور واحدٌ من هؤلاء".
تقول سارة حسين، إن "نهر الفرات لم يرو عطش السكان فقط، بل روى خيال الشعراء والفنانين (...) وذياب مشهور واحدٌ من هؤلاء".
تُرجع سارة بداية ذياب مشهور مع الغناء إلى الطفولة المبكرة. تقول: "كان يغني مع أطفال الحارة، يجلس على ضفة النهر ويغني. يستدعيه الرجال للغناء في مجالسهم، كذلك غنى في المناسبات الاجتماعية (...) لا يوجد بيت في منطقة الجزيرة (الرقة والحسكة ودير الزور) إلا ودخله صوت ذياب مشهور".
اعتمد في بداياته المبكرة على قدراته السمعية، فهو لم يدرس الموسيقى، توضح حسين، فيما تقول روايات إنه لم يعرف القراءة والكتابة في صغره، وتعلمهما في وقت متأخر.

"موهبة لفتت انتباه الموسيقي "الكفيف" يوسف جاسم الذي عرّف ذياب مشهور على مقامات الموسيقى الشرقية، بشكل مكّنه لاحقًا من كتابة كلمات أغنياته ووضع الألحان لبعضها"، تضيف حسين.
وتتابع: "امتلك ذياب صوتًا عذبًا، وموهبة فريدة. شجعه أهالي البلدة على احتراف الغناء ليؤسس نهاية خمسينات القرن الماضي فرقة غنائية محلية. وفي سبعينات القرن الماضي انتقل إلى دمشق، وهناك اعتُمد مطربًا في الإذاعة السورية".
بعد أقل من ثلاث سنوات على انتقاله إلى دمشق، شارك مشهور إلى جانب دريد لحام ونهاد قلعي وناجي جبر في عددٍ من المسلسلات التلفزيونية الناجحة. قدّم مشهور فيها مجموعة من أغنياته الشهيرة، فغنى في مسلسل "صح النوم" أغنية "طولي يا ليلة" و"ميلي عليّ ميلي"، وفي مسلسل "ملح وسكر" غنى " يابو ردين يا بوردانه" و "علمايا".
تقول حسين: "أكسبته تلك الأعمال شهرة إضافية، تجاوزت حدود سوريا ليصبح معروفًا على مستوى الوطن العربي، ومعه أصبحت الأغنية الفراتية معروفة كذلك".
في هذا المقال، تُعرفنا سارة حسين على الأغنية الفراتية، تاريخها، ألوانها، خصائصها، وارتباطها بالمكان والإنسان.
أورنينا.. المغنية الفراتية الأولى
تؤرخ سارة حسين للغناء في منطقة الجزيرة بـ "أورنينا"، مغنية معبد عشتار، والتي يقدر علماء الآثار أنها أقدم مغنية عرفها التاريخ.
تنتمي "أورنينا" أو" أور نانشي" إلى مملكة ماري السامية، وهي مملكة ازدهرت على ضفاف نهر الفرات في الألف الثالث قبل الميلاد، وتقع بقاياها اليوم في محافظة دير الزور.
عثر على تمثال "أورنينا" المحفوظ في المتحف الوطني بدمشق عام 1933. ويصور التمثال البالغة ارتفاعه 25.4 سنتيمترًا وعرضة 13.5 سنتيمترًا، فتاة تجلس على وسادة مزخرفة، يداها غير ثابتين، تبدو اليد اليسرى وكأنها تمسك آلة موسيقة، فيما اليمنى مرتفعة وكأنها تعزف على الآلة الموسيقية.
تقول حسين: "هذا دليل حي على قدم الغناء في منطقة الفرات".
لكن النشأة الحديثة للغناء الفراتي تعود إلى القرن السابع الميلادي. تقول حسين: "استمر وتطور هذا اللون من الغناء منذ القرن السابع حتى وصل إلى ما نعرفه اليوم (...) وخلال عقود طويلة بقي هذا اللون محصورًا في مناطق الفرات قبل أن يبدأ بالانتشار خارجها مع مطلع عشرينات القرن الماضي".
"فن بلغة الحياة اليومية"
يتميز الغناء الفراتي ببساطة المعنى والألفاظ والتراكيب، تشرح المتخصصة في تاريخ الغناء الفراتي، سارة حسين، وتقول: "من السهل أن يتفاعل جميع الناس مع هذا اللون من الغناء على مختلف مستوياتهم الفكرية، فهو فن يكتب بلغة الحياة اليومية، وتجمع كلماته بين الفصحى والعامية".
يقدم الغناء الفراتي "لقطات تصويرية من الحياة الواقعية، يشرح موقفًا غزليًا، عتابًا، فرحًا، حزنًا، سعادة بموسم الحصاد، قلقًا وخوفًا عند فيضان النهر، وغيرها من التفاعلات الإنسانية (...) يقدمها بطريقة مسموعة، وكلمات مختصرة بسيطة تترك تأثيرًا بالغًا على مشاعر المستمع"، كما تضيف.
ومن مزايا هذا اللون من الغناء، ارتباطه بنهر الفرات، والنمط الزراعي السّائد في الجزيرة الفراتية.
"نهر الفرات محور الأغنية الفراتية"، تبيّن حسين، قائلة: "كان الناس يغنون أثناء انتقالهم بين ضفتي النهر، عندما يركبون السفن المحملة بالركاب أو المَؤونة، يغنون للماء من أجل إزالة الخوف".
وحول علاقة الغناء الفراتي بالنمط الزراعي، تقول سارة حسين: "في مواسم البذار وجني الثمر، كان الناس يغنون بشكل جماعي، هذا الغناء جَسَد قيم العمل الجماعي، وجذّر علاقة الإنسان بالأرض (...) الغناء يساعدهم على تخفيف العبء الجسدي الناتج عن العمل".
وكان الغناء في المواسم الزراعية بمثابة رسائل حب يتبادلها العشاق، وهنا تسرد حسن حادثة وقعت خلال أحد المواسم الزراعية. "أعجب شاب بفتاة فغنى للتغزل بها: يا ليتني غيمة وأرد الشمس عنكم، ولا مطر صيف وارد الربيع إلكم".
ألوان الغناء الفراتي.. حب وقمر وماء
تتعدد ألوان الغناء الفراتي، ومن أشهرها، كما تعدّد حسين:
- المولية: وهي قصيدة تنظم على البحر البسيط، تتكون في الأصل من خمسة أشطر، لكن الثقافة الفراتية اختصرتها إلى أربع أشطر. تنتهي الأشطر الثلاثة الأولى بقافية شعرية واحدة في حين ينتهي الشطر الأخير بالياء المشددة أو التاء المربوطة.
في السابق نظمت هذه القصيدة المغناة للتعبير عن الحزن على فقدان الأحبة، ومن ثمّ أصبحت تغنى للدلالة على الحب العذري.
اللا لا: وتعني في التراث الفراتي القمر، إذ كان الناس يغنون للقمر عندما يعلو ويتلألأ ويصبح مشاهدًا من قبل الجميع.
المايا: المايا في اللهجة الفراتية تعني الغزالة، لكنها تدلّ في الأغنية على امرأة جميلة عاشت على ضفاف نهر الفرات، وتغنى بها الشعراء.
البوردانة أو البربانة: وهي امرأة كانت تقدم القهوة لزوار نهر الفرات.
الميجنى: لون غنائي ارتبط بفيضان نهر الفرات وما يُلحقه هذا الفيضان من خراب ودمار، وفي اللهجة الفراتية يأتي كناية عن "الجنون".
السويلحي: لون غنائي اشتهر في الجزيرة الفراتية وريف حلب، يصنف ضمن الأغاني الريفية والبدوية، وهو يعبر عن الحزن والألم الناتجين عن شدّة الحب.
اللكاحي: لون فراتي يغنى على طراز "يايوم" التي تتكرر في مطلعه، يمتاز هذا الغناء برقة موضوعاته وسهولة نظمه، ويغنى ببطء شديد، وينتشر بين النساء بشكل كبير.
العتابا: لون غنائي يقوم على معاتبة الحبيب لما يبديه من صدّ وهجران، ويمتد العتاب ليشمل الأصدقاء والأهل.
جميع ألوان الغناء الفراتي اعتمدت على آلات موسيقة بسيطة مثل الزمارة والدّف والربابة. وبحسب حسين، فإن "أصوات هذه الآلات عكست بشكل كبير حياة سكان الجزيرة الفراتية والأصوات التي ألفوها".
عائلات غنائية وغياب للمرأة الفراتية
إضافة إلى ذياب مشهور، ويوسف جاسم، تذكر حسين، العديد من الأسماء لمغنين وعازفين اشتهروا بتقديم اللون الفراتي، والملاحظ في هذه الأسماء وجود عائلات فنية تتوارث الغناء الفراتي جيلًا بعد جيل.
من تلك الأسماء، الفنان محمد الحسن، والذي تصفه حسين، بأنه "أشهر من غنى على الدّف في القرن العشرين"، إضافة إلى خلف الحسان الذي تميّز بالغناء على الربابة، وتبعه في الغناء الفراتي أولاده لؤي ومعاذ وقصي الحسان.
ومن الأسماء التي تؤكد الانطباع العائلي للغناء الفراتي "، يوسف حسين الحسن، عبد الله حسين الحسن، وزيد محمد الحسن، إضافة إلى خليل الجابر وفيصل الجابر"، وفقًا لسارة حسين.
وسط مئات الأسماء، والشواهد التاريخية التي تؤكد أن "أورنينا" المنتمية إلى الجزيرة الفراتية، هي أقدم مغنية في التاريخ، تغيب النساء عن الغناء الفراتي، أو يحضرن بشكل خجول. عن الأسباب تقول حسين: "الجزيرة الفراتية منطقة محافظة جدًا، ليس من السهل تقبل غناء الفتيات".
لكنها تتحدث عن حالات نادرة لمغنيات فراتيات، تذكر منهن خولة الحسين الحسن ابنة الفنان حسين الحسن، والتي غنّت مع فرقة الرقة للفنون الشعبية، واشتهرت بأغنية "أبو الخديد الورديتين"، إضافة إلى ظهور عدد من الفنانات مؤخرًا مثل رنيم العساف.