صورة ملتقطة من فيديو الأغنية "لايت ذا سكاي" الخاصة بمونديال قطر- يوتيوب
صورة ملتقطة من فيديو الأغنية "لايت ذا سكاي" الخاصة بمونديال قطر- يوتيوب

ارتبطت الموسيقى منذ فجر البشرية، بحياة الإنسان كعنصر أساسي في التعبير والهوية الثقافية والدينية.

وتبرز الموسيقى في العناصر التي تحفظ التاريخ وتعطي فكرة عن الهوية، ولذلك ربطت برمزيتها ومعانيها بالأحداث الأكثر أهمية، لتغدو من أهم مفاتيح الذاكرة، حيث تعيد نغماتها والمفردات التي ترافقها إحياء الذكريات في النفوس.

من هنا، شكلت الموسيقى، وهي لغة عالمية بحد ذاتها، حلقة جامعة بين الدول التي تجتمع كلها في حدث جامع وممتع وتاريخي، مثل أغنية كأس العالم لكرة القدم. ولكن هل يعني ذلك موافقة الجميع على الموسيقى أو الأغاني المختارة لترافق الحدث؟ 

أثبتت التجربة مؤخرا أن الروح الرياضية التي تروّج لها الفيفا لعام 2022  لا تطغى على كل تفاصيله، وتحديدا الأغنية الثالثة التي كشفت عنها مؤخراً، والتي تحمل عنوان "أضئ السماء Light the sky".

الأغنية هي الثالثة ضمن سلسلة من الأغاني الحماسية التي خصصت لكأس العالم لكرة القدم المزمع إقامته في دولة قطر، ولكن على الرغم من أنها حصدت ملايين المشاهدات في فترة قياسية، لا تعني الأرقام أن ردود الفعل إيجابية دائما. 

 

"أين لغة الضاد؟"

المفارقة أن هذا المونديال يعقد للمرة الأولى في التاريخ على أرض عربية، وبيد أن الأغاني التي كشفت سابقا تترك مساحة ولو كانت متواضعة للغة العربية، لم يتوان المشجعون عن انتقاد غياب المفردات وحتى الأنغام العربية عن الأغنية التي تشارك فيها أربع فنانات من جنسيات عربية، هن بلقيس من الإمارات ونورا فتحي ومنال من المغرب ورحمة رياض من العراق. 

"أضئ السماء" وصفت عبر مواقع التواصل بـ"الكارثة الرمزية والثقافية" و"الخسارة الكبيرة" و"الخيبة" و"الفيديو الأشبه بافتتاح قاعة رقص" وسواها.

وعلى الرغم من أن الجدلية التي أثارتها ساهمت بتعزيز انتشارها، استمر التفاعل بتوليد موجة سلبية وصلت لحد انتقاد الفنانات على الغناء بلسان لا يعكس هوية الأرض التي تستعد منذ سنين لاستقبال هذا الحدث التاريخي.

بين الرأي والرأي الآخر، سألنا خبراء من المجال وتفاوتت ردود الفعل بين موافق ومعارض. 

روان ضاهر خبيرة أردنية في الشؤون الرياضية، وجدت أن "الأغنية جميلة جدا دون شك وتستحق الرواج الذي تلقاه"، لكنها أسفت "لأنها لا تمثلنا نحن كعرب في حدث كبير جدا يقام لأول مرة على الإطلاق على أرض عربية.

وتقول لـ"ارفع صوتك": "صحيح أن المونديال حدث عالمي لكنه ينظم في قطر وهذا يعني أنه كان بإمكاننا أن نضيف بصمتنا العربية سواء في اللحن أو في الكلمات أو على مستوى الرقصات، لكنهم آثروا أن يعطوا الأغنية الرسمية طابعا أجنبيا. وبالعودة إلى الأغاني الرسمية السابقة، يمكننا أن نستنج أنها بعضها صمدت في الذاكرة على الرغم من الجدلية التي أثارتها".

من الأمثلة على ذلك، كما يقول الإعلامي اللبناني الخبير في الرياضة محمد فواز، أغنية "واكا واكا" التي ما زال صداها يتردد حتى اليوم ولم تلاق كل التصفيق فور إطلاقها. وتمحورت الاعتراضات حين إصدارها حول لون بشرة المغنية شاكيرا، التي اعتبرت "بعيدة" عن مكان إقامة المونديال، قارة أفريقيا.

ويضيف لـ"ارفع صوتك": "لكن الاعتراضات خفتت، مع تسليط الضوء على الجذور الكولومبية للفنانة، الأمر الذي يعني أن المؤدية من رحم المكان. وها هي واكا واكا تلقى الرواج حتى الساعة وتربط تلقائيا بأفريقيا بعد مرور سنين طويلة على إصدارها. لا وبل زادت شعبيتها بعد".

تتفق ضاهر مع قراءته، معيدة الفضل "للألحان المغلفة بالطابع الأفريقي"، وهذا ما يدفعها للتشديد على ضرورة "استغلال هذا الحدث العالمي لعكس ثقافتنا نحن كعرب بشكل عام أو كخليجيين بشكل خاص في بطولة تاريخية على أرض عربية".

 

الإنجليزية "لا تنتقص من العربية"

تختصر قراءة كل من ضاهر وفواز للفيديو الموسيقي التعليقات المنتشرة على مواقع التواصل، وتحديدا المعارضة منها، التي تلفت إلى أن "اللحن ليس عربيا والأغنية لا تجد جذورها في ثقافتنا. أين هي الكلمات والأشعار العربية من أغنية تعيد تسطير السعي للتشبه بالغرب؟ وأين هي لغة الضاد في أغنية يفترض أن تدغدغ الوجدان؟".

تقول ضاهر: "شعرت للوهلة الأولى أني أشاهد أغنية أجنبية بكل ما للكلمة من معنى، وذلك حتى في طريقة عرض الأغنية وإيصالها للمشاهد... فما هي الرسالة التي تبعثها للعالم؟ التشبه للغرب والمواظبة على اعتباره القدوة؟ والتقليد في كل شيء حتى في الهوية والثقافة؟ هذه المرآة ليست مرآتنا ولا تعكس هويتنا ولا أحوالنا ولا ثقافتنا". 

وبالإضافة إلى دور الأغنية الرمزية في عكس الثقافة، يشير فواز إلى ضرورة إحاطتها بالجهود المبذولة للتحضير واستقبال الحدث: "الأغنية من أساسيات المونديال وانطلقت بقوة مع انتشار الساتل، وهي التي تشكل عامل استقطاب للجماهير من مختلف الجنسيات".

"لكن لا بد من الانتباه فمن دفع 220 مليار دولار لتحضير البنية التحتية والملاعب لا بد أن يسلط الضوء على هذه الإنجازات وعلى البلد المضيف. كما أن المبالغ والجهود المبذولة تؤكد أن الكرة باتت جزءا من الثقافة العربية، وهذا يظهر أيضا من خلال جهود الدول التي بنت معظم الملاعب"، يتابع فواز.

ويقول لـ"ارفع صوتك": "ما الذي يقال عن هذه الأغنية؟ كان لا بد من إضافة اللغة العربية احتراما للبلد المضيف وشعبه وهذا لا يعني أن الغناء بالإنجليزية نقطة ضعف، بل على العكس تماما كونها لغة عالمية، ولكن ربما أمكن الجمع بين الاثنين وهذا ما حصل مثلا في أولى الأغنيات التي أطلقت بشكل رسمي هذا العام". 

ومع ذلك، لا يحقق المعترضون على الأغنية الهدف الأوحد في مرمى المنتجين، إذ يجد متابعون أن الأغنية تدخل ضمن "سلسلة من الإبداعات التي تحمل مجموعة من الرسائل وتستلهم الكثير من الثقافة العربية وتحاول إدراجها على لائحة العالمية".

هذا هو على سبيل المثال رأي المنتجة لارين خوري والمتخصصة في المرئي والمسموع. بالنسبة لخوري "لا يمكن عزل هذا الإنتاج عن السياق الأكبر"، مردفةً "لا أوافق تماما مع من يدعون غياب اللغة العربية عنها، فههنا مفردات تتكرر مثل (مرحبا) و(هيا) بالإضافة إلى الكلمات بلهجات متنوعة كاللهجة المغربية".

وتبين لـ"ارفع صوتك": "الطابع الغربي الذي يطغى على الأغنية لا ينتقص من البصمة العربية. فهي موجودة للمراقب عن كثب، في اللحن وبعض الكلمات، وفي تصميم الإضاءة وجنسية المطربات واللباس التقليدي القطري للرجال الجالسين على سيارة في أحد المشاهد (مع أنهم لا يحتلون مساحة كبيرة)".

وترى أن اعتماد الإنجليزية "نوع من البحث عن العالمية. فهكذا يظهر المنظمون لجماهير الدول المشاركة أنهم على المستوى العالمي في طريقة الغناء أو حتى في التنفيذ مع إشراف وإخراج عربي. ويبعث الفيديو رسالة عالمية تتوخى تغيير الصورة النمطية للصحراء العربية والرمال والجمال واستبدالها بالباص الذي يحمل أناسا سعداء من مختلف الأعراق". 

وتتابع: "أما بالنسبة للألوان فيمكن ربط الذهبي والفضي والأسود بالفخامة، وهذه سمة مشتركة في الثقافة العربية". أما بالنسبة لإطلالة المغنيات ولباسهن الأقرب للطابع الغربي، فهو تعبير جديد على حدث عالمي لا ينبغي أن يركز حصرا على الطابع المحلي. ولعل هذه الملابس تؤكد على قدرة المغنيات اللاتي يمثلن الشرق على الوصول للعالمية واستقطاب الجماهير من كل حدب وصوب في لعبة جامعة".

أخيرا، بين نقد وتصفيق، انتشرت الأغنية الرسمية على جميع المنصات بفضل جدلية هي أقرب لإستراتيجية التسويق العبقرية على حد قول خبيرة التسويق الإبداعي، د. سوسن الحجار.

تقول لـ"ارفع صوتك": "أي إستراتيجية أذكى من الاعتماد على المتلقي نفسه ليصبح المروج للحدث؟ لقد ساهمت الموجات المتضاربة للآراء المبنية إما على النقد البناء أو على اتباع الموجة ببساطة، بتخطي الأغنية حاجز الملايين في أقل من أيام! وهذا مؤشر على أن المونديال بجميع مفاصله، وأهمها الفنية، سيبقى حديث الساعة والهدف الحاسم لفترة طويلة!".

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".