ارتبطت الموسيقى منذ فجر البشرية، بحياة الإنسان كعنصر أساسي في التعبير والهوية الثقافية والدينية.
وتبرز الموسيقى في العناصر التي تحفظ التاريخ وتعطي فكرة عن الهوية، ولذلك ربطت برمزيتها ومعانيها بالأحداث الأكثر أهمية، لتغدو من أهم مفاتيح الذاكرة، حيث تعيد نغماتها والمفردات التي ترافقها إحياء الذكريات في النفوس.
من هنا، شكلت الموسيقى، وهي لغة عالمية بحد ذاتها، حلقة جامعة بين الدول التي تجتمع كلها في حدث جامع وممتع وتاريخي، مثل أغنية كأس العالم لكرة القدم. ولكن هل يعني ذلك موافقة الجميع على الموسيقى أو الأغاني المختارة لترافق الحدث؟
أثبتت التجربة مؤخرا أن الروح الرياضية التي تروّج لها الفيفا لعام 2022 لا تطغى على كل تفاصيله، وتحديدا الأغنية الثالثة التي كشفت عنها مؤخراً، والتي تحمل عنوان "أضئ السماء Light the sky".
الأغنية هي الثالثة ضمن سلسلة من الأغاني الحماسية التي خصصت لكأس العالم لكرة القدم المزمع إقامته في دولة قطر، ولكن على الرغم من أنها حصدت ملايين المشاهدات في فترة قياسية، لا تعني الأرقام أن ردود الفعل إيجابية دائما.
Ready to #LightTheSky ✨?#FIFAWorldCup official soundtrack is out now on all platforms 🔥
— رحمة رياض | Rahma Riad (@RahmaRiad) October 7, 2022
▶️ https://t.co/hWCUkZGsRa #رحمه_رياض_كأس_العالم #RahmaRiad | #رحمة_رياض | @FIFAWorldCup pic.twitter.com/wSSe5xV334
"أين لغة الضاد؟"
المفارقة أن هذا المونديال يعقد للمرة الأولى في التاريخ على أرض عربية، وبيد أن الأغاني التي كشفت سابقا تترك مساحة ولو كانت متواضعة للغة العربية، لم يتوان المشجعون عن انتقاد غياب المفردات وحتى الأنغام العربية عن الأغنية التي تشارك فيها أربع فنانات من جنسيات عربية، هن بلقيس من الإمارات ونورا فتحي ومنال من المغرب ورحمة رياض من العراق.
"أضئ السماء" وصفت عبر مواقع التواصل بـ"الكارثة الرمزية والثقافية" و"الخسارة الكبيرة" و"الخيبة" و"الفيديو الأشبه بافتتاح قاعة رقص" وسواها.
وعلى الرغم من أن الجدلية التي أثارتها ساهمت بتعزيز انتشارها، استمر التفاعل بتوليد موجة سلبية وصلت لحد انتقاد الفنانات على الغناء بلسان لا يعكس هوية الأرض التي تستعد منذ سنين لاستقبال هذا الحدث التاريخي.
الاغنية لا تعكس تراثنا ولا ثقافتنا العربية وانما نسخة مشوهة لاي اغنية بطابع غربي بحت.. لا اللباس ولا الرقص ولا الموسيقى ولا حتى الكلمات.. حتى الجزء العربي نُطِق بلهجة "الخواجة".
— Omar Alheety (@oqmohsin) October 10, 2022
من يتولى الحملة الاعلانية لكاس العالم في قطر؟! .. تو اشوف اغنية المونديال، وش جو الملاهي الليليه حقت الافلام هذي!!! اختيار كارثي! .. مع كل ثراء التاريخ والثقافة والفن العربي الشرقي هذا اللي طلع معهم لمحفل عالمي! .. خلطة هابطة بدون معنى وبلا هويه …
— Noha 🇸🇦 (@Nuha_88) October 15, 2022
ألف علامة استفهام نفس الشعار!
اين واكا واكا وفوران شاكيرا من برودة وجمود مغنيات اغنية مونديال ٢٠٢٢ وين الالوانواعلام الدول اين البهحة في هذه الأغنية الهزيلة التي لا ترقى لمستوي المسابقة الاكثر شعبية حول العالم ولا ترقي لمستوي المونديال المنتظر الذي كل الانظار موجهة اليه لانه يقام لاول مرة في دولة عربية🤔
— Rihab Daher (@rihabd) October 9, 2022
بين الرأي والرأي الآخر، سألنا خبراء من المجال وتفاوتت ردود الفعل بين موافق ومعارض.
روان ضاهر خبيرة أردنية في الشؤون الرياضية، وجدت أن "الأغنية جميلة جدا دون شك وتستحق الرواج الذي تلقاه"، لكنها أسفت "لأنها لا تمثلنا نحن كعرب في حدث كبير جدا يقام لأول مرة على الإطلاق على أرض عربية.
وتقول لـ"ارفع صوتك": "صحيح أن المونديال حدث عالمي لكنه ينظم في قطر وهذا يعني أنه كان بإمكاننا أن نضيف بصمتنا العربية سواء في اللحن أو في الكلمات أو على مستوى الرقصات، لكنهم آثروا أن يعطوا الأغنية الرسمية طابعا أجنبيا. وبالعودة إلى الأغاني الرسمية السابقة، يمكننا أن نستنج أنها بعضها صمدت في الذاكرة على الرغم من الجدلية التي أثارتها".
من الأمثلة على ذلك، كما يقول الإعلامي اللبناني الخبير في الرياضة محمد فواز، أغنية "واكا واكا" التي ما زال صداها يتردد حتى اليوم ولم تلاق كل التصفيق فور إطلاقها. وتمحورت الاعتراضات حين إصدارها حول لون بشرة المغنية شاكيرا، التي اعتبرت "بعيدة" عن مكان إقامة المونديال، قارة أفريقيا.
ويضيف لـ"ارفع صوتك": "لكن الاعتراضات خفتت، مع تسليط الضوء على الجذور الكولومبية للفنانة، الأمر الذي يعني أن المؤدية من رحم المكان. وها هي واكا واكا تلقى الرواج حتى الساعة وتربط تلقائيا بأفريقيا بعد مرور سنين طويلة على إصدارها. لا وبل زادت شعبيتها بعد".
تتفق ضاهر مع قراءته، معيدة الفضل "للألحان المغلفة بالطابع الأفريقي"، وهذا ما يدفعها للتشديد على ضرورة "استغلال هذا الحدث العالمي لعكس ثقافتنا نحن كعرب بشكل عام أو كخليجيين بشكل خاص في بطولة تاريخية على أرض عربية".
الإنجليزية "لا تنتقص من العربية"
تختصر قراءة كل من ضاهر وفواز للفيديو الموسيقي التعليقات المنتشرة على مواقع التواصل، وتحديدا المعارضة منها، التي تلفت إلى أن "اللحن ليس عربيا والأغنية لا تجد جذورها في ثقافتنا. أين هي الكلمات والأشعار العربية من أغنية تعيد تسطير السعي للتشبه بالغرب؟ وأين هي لغة الضاد في أغنية يفترض أن تدغدغ الوجدان؟".
تقول ضاهر: "شعرت للوهلة الأولى أني أشاهد أغنية أجنبية بكل ما للكلمة من معنى، وذلك حتى في طريقة عرض الأغنية وإيصالها للمشاهد... فما هي الرسالة التي تبعثها للعالم؟ التشبه للغرب والمواظبة على اعتباره القدوة؟ والتقليد في كل شيء حتى في الهوية والثقافة؟ هذه المرآة ليست مرآتنا ولا تعكس هويتنا ولا أحوالنا ولا ثقافتنا".
وبالإضافة إلى دور الأغنية الرمزية في عكس الثقافة، يشير فواز إلى ضرورة إحاطتها بالجهود المبذولة للتحضير واستقبال الحدث: "الأغنية من أساسيات المونديال وانطلقت بقوة مع انتشار الساتل، وهي التي تشكل عامل استقطاب للجماهير من مختلف الجنسيات".
"لكن لا بد من الانتباه فمن دفع 220 مليار دولار لتحضير البنية التحتية والملاعب لا بد أن يسلط الضوء على هذه الإنجازات وعلى البلد المضيف. كما أن المبالغ والجهود المبذولة تؤكد أن الكرة باتت جزءا من الثقافة العربية، وهذا يظهر أيضا من خلال جهود الدول التي بنت معظم الملاعب"، يتابع فواز.
ويقول لـ"ارفع صوتك": "ما الذي يقال عن هذه الأغنية؟ كان لا بد من إضافة اللغة العربية احتراما للبلد المضيف وشعبه وهذا لا يعني أن الغناء بالإنجليزية نقطة ضعف، بل على العكس تماما كونها لغة عالمية، ولكن ربما أمكن الجمع بين الاثنين وهذا ما حصل مثلا في أولى الأغنيات التي أطلقت بشكل رسمي هذا العام".
ومع ذلك، لا يحقق المعترضون على الأغنية الهدف الأوحد في مرمى المنتجين، إذ يجد متابعون أن الأغنية تدخل ضمن "سلسلة من الإبداعات التي تحمل مجموعة من الرسائل وتستلهم الكثير من الثقافة العربية وتحاول إدراجها على لائحة العالمية".
هذا هو على سبيل المثال رأي المنتجة لارين خوري والمتخصصة في المرئي والمسموع. بالنسبة لخوري "لا يمكن عزل هذا الإنتاج عن السياق الأكبر"، مردفةً "لا أوافق تماما مع من يدعون غياب اللغة العربية عنها، فههنا مفردات تتكرر مثل (مرحبا) و(هيا) بالإضافة إلى الكلمات بلهجات متنوعة كاللهجة المغربية".
وتبين لـ"ارفع صوتك": "الطابع الغربي الذي يطغى على الأغنية لا ينتقص من البصمة العربية. فهي موجودة للمراقب عن كثب، في اللحن وبعض الكلمات، وفي تصميم الإضاءة وجنسية المطربات واللباس التقليدي القطري للرجال الجالسين على سيارة في أحد المشاهد (مع أنهم لا يحتلون مساحة كبيرة)".
وترى أن اعتماد الإنجليزية "نوع من البحث عن العالمية. فهكذا يظهر المنظمون لجماهير الدول المشاركة أنهم على المستوى العالمي في طريقة الغناء أو حتى في التنفيذ مع إشراف وإخراج عربي. ويبعث الفيديو رسالة عالمية تتوخى تغيير الصورة النمطية للصحراء العربية والرمال والجمال واستبدالها بالباص الذي يحمل أناسا سعداء من مختلف الأعراق".
وتتابع: "أما بالنسبة للألوان فيمكن ربط الذهبي والفضي والأسود بالفخامة، وهذه سمة مشتركة في الثقافة العربية". أما بالنسبة لإطلالة المغنيات ولباسهن الأقرب للطابع الغربي، فهو تعبير جديد على حدث عالمي لا ينبغي أن يركز حصرا على الطابع المحلي. ولعل هذه الملابس تؤكد على قدرة المغنيات اللاتي يمثلن الشرق على الوصول للعالمية واستقطاب الجماهير من كل حدب وصوب في لعبة جامعة".
أخيرا، بين نقد وتصفيق، انتشرت الأغنية الرسمية على جميع المنصات بفضل جدلية هي أقرب لإستراتيجية التسويق العبقرية على حد قول خبيرة التسويق الإبداعي، د. سوسن الحجار.
تقول لـ"ارفع صوتك": "أي إستراتيجية أذكى من الاعتماد على المتلقي نفسه ليصبح المروج للحدث؟ لقد ساهمت الموجات المتضاربة للآراء المبنية إما على النقد البناء أو على اتباع الموجة ببساطة، بتخطي الأغنية حاجز الملايين في أقل من أيام! وهذا مؤشر على أن المونديال بجميع مفاصله، وأهمها الفنية، سيبقى حديث الساعة والهدف الحاسم لفترة طويلة!".