وصلت دُنى غالي إلى الدنمارك عام 1992 رفقة عائلتها التي تركت مدينة البصرة، بعد التضييق الذي مارسه النظام العراق على والدها | تصوير: فنان عماد.
وصلت دُنى غالي إلى الدنمارك عام 1992 رفقة عائلتها التي تركت مدينة البصرة، بعد التضييق الذي مارسه النظام العراق على والدها | تصوير: فنان عماد.

من أكثر الرموز الرومانسية استخداما في تصوير المنفى، هي صورة الرجل الوحيد الذي يُجبر على العيش خارج حدود بلاده. بعيدا عن منزله، مسقط رأسه، يعيش وحيدا وربما يشعر بالمرارة بين الغرباء في أرض غريبة. لكن ماذا عن السيدات المنفيات؟

في عام 2017، التقيت مع الروائية العراقية دُنى غالي في معرض الكتاب العربي في مالمو لأول مرة. كنت أحد المنظمين، ومديرا للبرنامج الثقافي للمعرض، لذلك كنت مهتم جداً بالبحث عن أديبات وأدباء من الشرق الأوسط مقيمين في شمال أوروبا، لدعوتهم لحضور المعرض والمشاركة في النشاطات الثقافية. كنت أريد الوصول إلى أولئك الذين وصلوا قبلنا، في محاولة لإظهار الظروف المختلفة للمنفى. 

 ولدت دُنى غالي في البصرة عام ١٩٦٣، ووصلت إلى الدنمارك عام 1992، بعد رحلة طويلة برفقة عائلتها التي تركت منزلها في جنوب العراق، على أثر التضييق الذي مارسه النظام العراقي السابق على والدها حتى غادر عام 1979. 

نشرت دنى لحد الآن 12 عملا مكتوبا بالعربية. من بينها "شراع واقف في عين الهواء" (شعر)، و "بطنها المأوى" (رواية)، "عندما تستيقظ الرائحة" (رواية) و"منازل الوحشة" (رواية).. إلخ. وهي تكتب أيضًا باللغة الدنماركية، وتنشط في الترجمة الأدبية من الدنماركية إلى العربية.

  • ظهرت دنى غالي لأول مرة مع رواية النقطة الأبعد سنة 2000، بشكل مباشر، لماذا تأخرت في إنتاج الرواية الأولى؟ ما المشكلة؟ 

كان من المحتمل أن "أتأخر" أكثر بكثير، أو ألا أنتج شيئا تماما، لو لم يحدث أني غادرت العراق، ومن ثم استقريت في دولة اختلفت شروطها كلية. وضعتُ "أتأخر" بين مزدوجتين لأقول لا توقيت للكتابة من ناحية، قد يكتب الكاتب ولا يدفع للنشر، قد يكتب في سنواته المبكرة أو المتقدمة من العمر، ذلك يتبع مقدار ضغط الحاجة للكتابة بداخله. أقول بإيمان أننا نشرع بالكتابة حينما يكون الأمر ملّحا للحدّ الذي لا نستطيع العيش فيه من دون فعل ذلك.

من ناحية أخرى، المحيط الذي نشأت فيه، وهو محيط معارض للنظام آنذاك، قد أرسل إليّ ما يكفي من رسائله المعلنة والخفية حول استحالة ذلك، طالما أني أقيم هناك، في الداخل. نترك نقاش فيما لو كان ذلك عن حق أو باطل، ولنقلْ لم يمنعني أحد، ولكن لكي تكتب كل شيء يقتضي أن يتوفر لديك حدّ أدنى من الحرية، سياسيا واجتماعيا. ذلك الشرط الأساسي للكتابة كان معدوما.   

  • تمكنت دنى من الوصول إلى أرقى الصالونات الثقافية في الدنمارك. وبنت ببطء وبصبر رأس مال ثقافي واجتماعي قوي في المجتمع المضيف. لكن ما هي الصعوبات التي واجهتها في الدنمارك في البداية؟ هل كان كل شيء سهلا ومُتاحا؟

خيار الكتابة، والترجمة من ثم، ليس بالخيار السهل عموما. في هذا، أنا أقف على السواء مع زميلات وزملاء دنماركيين يتشاركون بالمعاناة ذاتها (الصور مهولة بالامتيازات التي يتمتع بها الكاتب في الغرب والدول الاسكندنافية تحديدا). بالطبع تتوفر امتيازات في دول دون أخرى، ولكن يبقى لطريق الثقافة والأدب مصاعبه. أقف اليوم على مسافة لأقول هذا، إذ ما كنا نراه في أولى السنوات يختلف بعض الشيء. الأدقّ ما لم أره جيدا بسبب الانشغالات الحياتية ومحاولة لبناء قاعدة من جديد، إلى جانب اكتشاف ما لدي، باللغتين، وهذا لم يتوقف حتى اللحظة، ولكنه كان لهاثا، رغم البطء والصبر الذي أشرتَ إليه.

هنالك فوضى غير مرئية أو ملموسة، شيء نحسّه ويصعب وصفه، منعٌ ما من الاستمتاع بالحياة والحلم، منع من قول ما نودّ قوله، أو نفعله، حالة دائمة من الإحساس بوجود "العائق" والرغبة في تجاوزه، من أجل أن نصل هدفا ما. هكذا تمرّ ومرّت السنوات. عدا ذلك، فقد اشترطتْ الصالونات الثقافية صدقا واجتهادا حقيقيين. الآن ولا أدري إن كان ذلك بفعل العمر، وكأن الأمور قد كفّت فجأة عن إقلاقي بالدرجة التي كانت عليها. 

  • لكن في أول لقطة مقرّبة على نتاج دنى الأدبي، ومن خلال إعادة بناء تسلسل الأحداث، تحاول دنى استدعاء العراق دائماً. العراق الذي يشغل مساحة مُحترمة من عملها، هل جزء من مسيرة الرواية لدى دنى أن يتم الكشف عن عمق المنفى طبقة تلو الأخرى، من خلال استدعاء العراق كل مرة؟ لماذا لا تعودين إلى العراق إذاً؟ 

 القصص تختارنا، وليس العكس. نكتب السطر الأول وببالنا رواية تأخذ شيئا فشيئا مسارات أخرى، لتنتهي برواية أخرى، تخالها كما لو كانت مكتوبة مسبّقا من دون علمنا، لا أثر لها أو إشارة إلا في السطر الأول الذي شرعنا بكتابته، محض مخاتلة لتتقدّم رواية على سواها من الروايات، أو هي رواية واحدة، في كل مرة تصعد شخوص وتظهر كواليس مختلفة عن التي سبقتها. وسواء كانت البصرة، بغداد، كوبنهاجن، أم مانشستر، فالكتابة مثل نهر جديد يفتح له في كل مرة مجرى جديد.

ولدتُ في العراق، وهو بلدي لصيقي، أعيشه عبر لغتي وأهلي وذاكرتي، كما أختار له صورا غير التي رأيتُها وتراها ونراها جميعا. اليوم يكتسح العالم برمته شيء خارج سيطرة تلك القوى التي أوهمتنا بمقدار ضبطها وتحكّمها بحياتنا، وفق مواثيق وتحالفات ومعاهدات- كنا ولا زلنا مؤمنين بها ولربما كانت هنالك أزمان أفضل من أخرى، ولكن، ها هي الحروب لم تتوقف كما ترى، على اختلاف الأسباب التي تقف من خلفها. ربما علينا أن نعتاد العيش مع الأزمات الكبرى من حين لحين، كما قيل. نشهد تغيرات مناخية هائلة، مجاعات وجفاف وأوبئة، تماما كالتي مرّ بها بشر من قبلنا. ذلك كله يجعل من المكان شيئا لا قيمة له، لقاء ما هو حقنا في الحياة: الحدّ الأدنى من الأمان، الذي يكاد يكون مفقودا.

  • في رواية "في بطنها المأوى" التي صدرت عام 2017، يبدو الأمر كما لو أن القصة استولت على دنى وأصبحت اللغة أكثر استقلالية، وقد توضح بعض مبادئ كانط التي يسميها كافيل تقريبًا اتجاه الهدف بدون اتجاه. لماذا لا تحاولين كتابة العادي فقط؟ حيث تكون القصة الشخصية غير شخصية بقدر ما هي مجتمعية.

اللغة هي التي تقترح، لِنَقْل أشكال التوصيل، بالطبع قدر الإمكان لما تتضمنه من إبهام وظلال، وقصور حتى بالكتابة عن موقف بحد ذاته والذي قد تتم قراءته بشكل مغاير. ولكن إن كان القصد من السؤال بشقِّه الثاني في سبب تعمّد اختيار قصص من الخيال، أو تبني شخصيات ليست من الواقع الذي ألفناه فذلك لأنها تستهدفنا أو تستهوينا أكثر من غيرها. هناك في تلك الشخصيات من الحيوية، الإثارة والأسرار ما يضعنا في امتحان أمامها، للتقرّب منها، أكاد أقول لتفاعلنا في الكتابة ولدمج إبداعنا بإبداعها، بغض النظر عن موقفنا منها، سواء كانت قبيحة أم جميلة، سوية أم مريضة. نحن أخيرا لا نخترع شخصيات بالمطلق، ولطالما قرأنا بدهشة عن شخصيات في الروايات وجدناها باللحظة التالية بالقرب منا، أو في الزاوية من الشارع الذي نسكن فيه.

  • أريد أن أسألك حول العلاقة بين المنفى واللغة: ما إذا كانت هناك لغة للخسارة. وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي تفعله هذه اللغة التي غالبًا ما يتم رفضها في هذه السياقات باعتبارها غير ذات صلة أو تافهة أو سريعة الزوال. كيف يمكن للمرء أن يكون فريدا، ولكن في نفس الوقت يكون جزءا من المجتمع المضيف؟ كيف توفق بين عالمك الداخلي والعالم الخارجي؟ كيف يمكن لنحلة الخيال العملاقة أن تنسجم مع خلية الواقع؟ 

اللغة لغة، منفصلة ومستقلة كما ذكرتَ، لا يملك حسابها الفشل ولا النجاح، لا الانتصار، ولا الهزيمة. ربما لا تملكها إلا طاقة الشِعْر وطاقة الحبّ. ولطالما كان العجز مضاعفا حيالها، لكونها عصية على الدوام كما قلت، ولكونها ليست اللغة الأم بالنسبة لي أيضا، وذلك ما يخلق الهوة الهائلة ما بين العوالم! قد تُردَم أحيانا، وقد يستحيل الأمر، أما لعدم وجود رغبة في داخل الكاتب بالتوفيق بين العالمين، أو لفشل المحاولات، ولكن أحيانا ذلك التوتر بحد ذاته هو ما يدفع بالإبداع ليجد لنا طريقا. وهذا السعي الدائم ومن دون نرجسية قد يكون هو ما يفترض الاختلاف فيما بيننا.      

  • كيف تواجهين العنصرية المتزايدة في شمال أوروبا؟ ما هو دورك ككاتبة، من الجيل الأول من المهاجرين "إذا صح التعبير"؟ 

لا أملك إلا أن أواصل الكتابة من جهة. ومن جهة أخرى أنا أملك أن أختار. أختار ما أجده قريبا لنفسي على سبيل المثال من أجل ترجمته. هناك من الجمال ما يكفي لنواجه به ما هو بغيض، أو على الأقل لننشغل به عن مشاهد العنف والقبح، ومظاهر النفاق والراديكالية المقيتة من حيث الهويات والدين التي تعكس عنصريتنا نحن أيضا. لنتأمل أنفسنا على سبيل المثال، قد يبدو ذلك للبعض قولا ساذجا وحالما ذات الوقت، ولكني أراه على درجة من الأهمية، أن نحتفظ لأنفسنا بما يشعرنا إننا أصحاب قرار، وإن كان في جزء صغير من حياتنا. لنفكّر فقط، نفكّر آخر اليوم بما نقوله، ما نعنيه، وما نقوم بتنفيذه فعليا. أن نقوم ورأسنا على الوسادة بمراجعات خفيفة لما يمكن أن يكون له دور في خلق عالم أجمل. لم أع إلى حقيقة دور كل واحد منا حيال ما يحدث في العالم كما أعيه اليوم. لنجرّبْ أن نقتنع بهذا.

  • العودة إلى تجربة "سرقة" اللغة التي ينطوي عليها المنفى. كطفل، فإن امتلاك المهارات اللغوية التي يفتقر إليها أحد الوالدين يخلق اختلالًا عنيفًا في العلاقة بين الأهل والأبناء في المهجر، عندما يتم تكليف الطفل بمهمة، كمترجم، يجعل الوالدين عاجزين عن الكلام، كيف تنظرين إلى علاقة المهاجرين (الجيل الأول و الجيل الثاني) مع بعضهم البعض؟ ما هي ملاحظاتك؟

أن تكون الحياة معلّقة، على أمل متابعتها لاحقا أمر كارثي. أن تجهل مصيرك وأنت تعبر البحر أو تجوب الصحاري وتتسلل عبر الحدود مخاطرا بحياتك رغم الأسلاك والكلاب. أن تعيش حالة انتظار دائم للظفر بأوراق إقامة مشروعة أو دائمة، ذلك ما يبعدك عن التفكير فيما يقتضيه الدور منك إن كنتَ أبا أو أمّا. الأطفال سيكونون الثمن الباهظ المدفوع لتلك المغامرات لنقل الاضطرارية في الحياة. وأن تطوي صفحة ماضيك في اللحظة التي تطأ فيها أرض المنفى هي خطوة شبه مستحيلة أيضا، وإن كانت وصفة ناجعة قد جرّبها البعض وأفلح ونجا من بعدها. بالإمكان الانتباه لذلك لتقريب المسافة ما بين الأجيال. وسأذكر شيئا زائدا وبائسا صرّح به الرئيس الفرنسي مؤخرا فحواه ان زمن الرخاء الذي كنا نعيشه حتى اليوم قد ذهب. 

  • كيف تتعاملين مع تعليقات من قبيل "أنت محظوظة جدًا، تعيشين في الدنمارك"، وتكتبين عن الحرب والأشياء التي تحدث في العراق. 

أنا بالفعل محظوظة وممتنّة، وقد أشكّك ذات الوقت في خياري بين الحين والحين، قد أضيق بالمكان الذي أنا فيه، ولكن قناعتي تبقى ثابتة هنا بخصوص إيماني فوق كل شيء بالأدب والفن، كونهما الوسيلة الوحيدة لتهذيب الروح والرفع من شأنها وإطعامها بما هو غني وصحي. الوحشية التي في العالم من التوغل والتغوّل التي لا يمكن وضع حدّ لضراوتها عبر شيء آخر كما الفن والأدب والموسيقى.

  • الدنمارك دولة "متقدمة"، تراعي الحقوق والحريات و المواقف، وتولي أهمية خاصة لموضوع المساواة، وتمكين المرأة. في حال كان لديك القدرة، على التأثير في بناء السياسات الثقافية في العراق، ما هو الشيء الذي تودين أو ترغبين في نقله إلى العراق من التجربة الدنماركية؟ شيء واحد فقط.

التربية، تحديدا ديمقراطية الأسرة. تأمّل تركتنا، رفض الموروث والتمرّد عليه. لا أعرف كيف، ولكن ولا شك للكلمة دور حاسم هنا أيضا.   

  • الغوص العميق في أسباب غياب حركة ترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأوربية، يسبب أحيانًا نقصًا في الأكسجين، هذا الأمر دفعني إلى سؤال دنى عن السبب من وجهة نظرها، هي المحسوبة على جيل المهاجرين الأوائل المشتغلين في صنعة الأدب. لماذا كل هذا التقصير؟ من المسؤول عن ضعف حركة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الدنماركية مثلاً؟

لا أعرف تماما. أرى الكائنات في العالم تتحرك تجاه بعضها البعض، بدافع الفضول أو الصدفة أو الحاجة والمصلحة. سيحدث من دون شك. نحن نجتهد في البحث عن الأسباب ولا نصل إلى نتيجة. يقال دعم المؤسسات الثقافية العربية للترجمة شبه معدوم. يقال الرواية العربية لازالت غير ناضجة بعد. يقال فارق الثقافات لا يضمن دهشة الاختلاف في الجانب الأدبي، وذلك له علاقة صرفة بالذائقة.
 

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".