يقيم الفنان السوري التشكيلي سهف عبد الرحمن (48 عاما)، في العاصمة النمساوية فيينا، التي وصلها لاجئاً من حمص غرب سوريا، عام 2015.
وينشط في إقامة العديد من المعارض الخاصة، التي تحمل بمعظمها طابع الحرب وقصص اللجوء، وتعبّر عن معاناة عاشها من عاصَرَ الأزمة السورية وعانى ويلاتها.
ومؤخرا أسس عبد الرحمن ناد ثقافي سوري في فيينا، ونظم العديد من الأنشطة الثقافية، بالإضافة إلى معرض للرسم في أيلول الماضي، كما شارك في معارض عالمية ودولية خلال السنوات الفائتة.
في الوطن والشتات: لاجئ
يعدّد الفنان سهف عبد الرحمن، خلال حواره مع "ارفع صوتك"،المعارض التي أقامها في فيينا وإيطاليا وسويسرا، وهي أكثر من 14، بالإضافة لثلاثة معارض دولية أخرى.
"أما في سوريا فكنت عضوا في نقابة الفنانين وأقمت أكثر من عشرة معارض، كما شاركت بمعارض من تنظيم وزارة الثقافة، بينما كان أول معرض لي في بلد اللجوء بعنوان (لا أحد هنا)، وذلك بعد وصولي إلى النمسا بستة أشهر"، يضيف عبد الرحمن.
ويتابع: "عرضت لوحاتي في بناء المحاكم الإدارية في فيينا، بدعوة من المنظمة المسؤولة عن المعرض، واسمها (فن من أجل العدالة)".
وحاز عبد الرحمن على جوائز عديدة بينها جائزة معرض فيينا الدولي، الذي شارك فيه أكثر من 70 فنانا حول العالم، يقول "الجوائز بلا شك أمر جيد وذات قيمة معنوية كونها أعادت تحفيزي لأتابع الرسم".
ويستذكر حياته في سوريا، بالقول "قبل اللجوء كنت لاجئاً كامنا، كان ينقصني الاعتراف المجتمعي والوضع القانوني.. عشت في سوريا كغريب يبحث عن ابتسامة العابرين، عرفت أرصفتها أكثر مما عرفت بيوتها، حفظت بواديها وأشجارها أكثر مما عرفت مطاعمها ومقاهيها، وكأي غريب، احتميت بالأصدقاء من وحشة واقع لا أنتمي إليه".
ويضيف عبد الرحمن: "وبعد رحلة اللجوء تحققت هويتي المضمرة، وها أنا اليوم متسق مع انتمائي، أشعر أنني خلقت كلاجئ على هذه الأرض، وسأرحل كذلك، فكل الهويات توابيت وأنا لا أرغب بميتة معلبة، إذ غالبا ما تضيق عليّ هويتي البيولوجية".
وتبدو المفارقة كبيرة بين حياة الفنان في حمص وفيينا، وبينهما مسافة من الجمال والخراب. يقول عبد الرحمن "لفيينا أثر عميق على أعماله، فهي مدينة أنثى بكل أبّهة ورهافة، وترمي بذورها عميقا. لا أخفي أنني أشعر بالخجل عندما أرسم من جمالها، إذ شكلت لي تحد بأناقتها وجمالها".
ويزيد "لليوم أسأل ما الذي يمكن أن يمنحه الفن لهذه المدينة بكل أنوثتها الناضجة؟ أما مدينتي التي طحنها ذكورها كوجبة للخراب لم تزل تأن في داخلي، وأنينها يشكل كائنات الحلم واليقظة".
"فهرسة الذات"
كان أول معارض الفنان السوري، بعنوان "لا أحد هنا" ثم معرض "ربما أحد ما هنا"، تبعه "شياطين سهف عبد الرحمن"، وبعده "طوابع البريد الحربي"، وغيرها لاحقاً. يقول عبد الرحمن إن هذه العناوين تمثل "محاولة لفهرسة الذات المتعبة، علّها تجد فسحة من الاسترخاء بين عنوان وآخر".
وعن مجموعته "ربما أحد ما هنا"، موضوعتها وجوه الأشخاص المغيّبين، أو المنسيين إن جاز التعبير، يوضح عبد الرحمن: "هي مجموعة من البورتريهات لأناس هربوا من ساحة الذاكرة، ففي مشوارنا ننزف الكثير من الذكريات، وتغيب الكثير من الوجوه التي كانت يوما قريبة وحميمة، فكل ذكرى منسية، وكل وجه غائب خسارة فادحة، وفي محاولتي استعادتهم في اللوحات دعوة لهم مجددا إلى مائدة الحياة، وتحية من خلالهم إلى كل هامشيي العالم والمنسيين تحت صخور أحزانهم الحادة".
"في هذه المجموعة أيضاً، الكثير من الوجوه والشخصيات التي تستحضر من أعماق الذاكرة، إنهم الهامشيون، الذين تطحنهم الحياة وهم صامتون، إنها وجوههم وأصواتهم المنسية في الجانب المعتم من الحياة سواء في السجن، أو المنزل، أو المجتمع، أو العقيدة"، يتابع عبد الرحمن.
ويعتبر أن لوحاته "كباقة ورد وبطاقة حب" على نعوش هؤلاء المهمشين المنسيين، وفيها استعادة مضنية وعميقة، ومحاولة للقبض على الهارب منه. يقول عبد الرحمن "كلما رسمت وجها وانتهيت منه، تحضرني ذكرى ما، مع شخص ما مر كنسمة عابرة، وأحيانا أرى في وجه واحد عدة وجوه عرفتها وعشت معها فترة من الزمن".
وعن لوحته "وكانت" التي تنتمي لهذه المجموعة، التي حازت على جائزة "اليونسكو"، يقول عبد الرحمن إنها بمثابة "عرفان للواتي أضأن عتمة الأيام بشموسهن التي لا تغيب"، مردفاً "الفن وجد مع أول أنثى على الأرض، وما رسوم الكهوف سوى محاولة للبوح بشيء ما لأنثى كائنة أو محتملة، ونادرا ما تتبدى الأنثى كموضوع في لوحاتي، ولكنني أسترق أسطح اللوحة وبناءها من همسهن وهن ينسجن الحكايات".
أما مجموعة "طوابع البريد الحربي"، فهي مجموعة لوحات ورقية صغيرة الحجم منفذة بتقنية غرافيكي، ومخرجة على شكل طوابع، وهي عبارة عن أحلام الناس التي طحنتها الحرب، وحياتهم المهدورة، وهي تذكارات مغمسة بالحزن، وفق تعبير عبد الرحمن.
وعبد الرحمن فنان لا يهدأ، متنقلاً بين معرض وآخر، وبين مشروع فني وإنساني تلو آخر، وهو حالياً في خضم مشروع جديد، يحتاج سنة أخرى ليكتمل، بحسب ترجيحه.
يقول "لم أزل أعمل على مجموعة "ربما أحد ما هنا"، أنهيت قرابة خمسين عملاً، وما زلت أعيد صياغة أعمال أخرى.. أعاني من ازدحام شديد وقلة في الوقت، إنني أعصر الساعات لأنهيها".
ويتوقف عبد الرحمن هنا، للإشارة إلى دخوله عالم الصوفية، "معجباً بتلك التجربة ومشغولاً بها ومستلهماً منها"، كما يقول ، مضيفاً أنها تمثل "روح الثقافة الإسلامية، الحية والمتجددة التي تحمل في طياتها قيماً إنسانية عليا".
أبيض.. أسود
يعتمد سهف عبد الرحمن اللون الأبيض بكثرة في لوحاته مترافقا مع اللون الأسود، ويركز على الوجوه التي تبدو في معظمها غير واضحة المعالم، وعن ذلك يقول لـ"ارفع صوتك": "في الأبيض والأسود تحد فني وصدقية عالية، فهما حالة متضادة، وقيمتان قانونيتان، كما يحملان بعدا فلسفيا جدليا".
"فالأبيض قيمة افتراضية ينتج عن حركة الألوان في قرص نيوتن، والأسود قيمة افتراضية أيضا وهو ناتج عن غياب اللون"، يضيف عبد الرحمن.
ويتابع: "الأبيض هو كل الألوان في حالة الحركة، والأسود انعدامها، مع ذلك فإن الأبيض بالنسبة لي هو العدم، والأسود هو السر الخفي، ربما لأن الأبيض هو الحركة اللونية في أقصاها أو احتضارها، حيث تضيع الفوارق وتغيب هوية الألوان وتتماهى فيما بينها، بينما الأسود قائم بذاته موجود وغير موجود، وأنا أهوى اللعب مع المجهول ولا تثيرني المألوفات المكشوفة".