مثل مئات الآلاف من السوريين حمل الكاتب والصحفي حسيب الزيني حقائبه وعبر الحدود السورية إلى الخارج. كان ذلك عام 2012، وفي ذاكرته أهوال الحرب والثورة بكل ما فيها من آمال وفواجع وانكسارات.
في زمن الحرب، تبدو القصص والروايات وسيلة إبداعية لنقل الحدث وتفاعلاته من زوايا متفردة ومختلفة لا تكشفها وسائل الإعلام وشريط الخبر العاجل.
في عام 2015، دخل حسيب الزيني بريطانيا لاجئاً. وبعد سنوات من العيش هناك، خرج الزيني بمجموعة قصصية عنونها بـ"دوبامين" التي صدرت عن "دار موزاييك" للدراسات والنشر في إسطنبول.
تتألف "دوبامين" من 9 قصص، تدور جميعها في بريطانيا، ويجسدها بطل أوحد جاء من بلد منكوب ويكابد في رحلة الاندماج في العالم الجديد، ضمن أحداث درامية مشوقة لا تخلو من حس الفكاهة، والمفارقات والنهايات الغرائبية.
المجموعة القصصية "دوبامين" هي الثانية للكاتب والصحفي السوري بعد مجموعته الأولى "تفاصيل لا تعني أحداً" الحائزة على "جائزة المزرعة الأدبية" عام 2010.
حسيب الزيني من مواليد مدينة حمص السورية، وهو خريج كلية الإعلام بجامعة دمشق. اشتغل مراسلاً ومحرراً إخباريًا وصحفيًا تلفزيونيًا في مؤسسات إعلامية محلية وعربية عدة.
- من المعروف أن الدوبامين هي مادة عضوية يُفرزها جسم الإنسان، وتلعب دورًا محوريًا أساسيًا في العامل التحفيزي في الدماغ، بداية لماذا اخترت هذا العنوان؟ وما علاقته بمأساة اللجوء؟
في الأدب عمومًا، أكثر الأمور صعوبة للكاتب هو اختيار عنوان لعمله، وقد يحتاج إلى وقت طويل من التفكير المضني، والتريث، والبحث والانتقاء. ما حدث معي هو أنني بعد أن وضعت اللمسات الأخيرة لقصصي وبينما كنت في خضم البحث عن عنوان ملائم لها، كنت - بالمصادفة - أتابع فيلما وثائقيا علميًا عن الهرمونات في جسم الإنسان، فخطرت لي فكرة اختيار هرمون الدوبامين الذي يسمى اصطلاحًا هرمون السعادة عنوانًا لمجموعتي القصصية. فهذا الهرمون هو الذي يحرك شخصية البطل في قصصي ويحفزه باستمرار على البحث المضني عن نفسه وعن عمل في مجتمعه الجديد، وعدم استسلامه للعوائق والخيبات المتكررة.
- ما الذي أضافته "دوبامين" أو اختلفت عنه مقارنة بالأعمال الأدبية السورية التي صدرت خلال العقد الأخير؟
هناك عشرات بل مئات الأعمال الأدبية السورية التي صدرت خلال العقد الأخير التي تناولت سرديات الثورة والحرب والمنفى، ومجموعتي القصصية ليست سوى جزء من ثورة أدبية سورية على الصعيد الفكري والتقني، ثورة أدبية كسرت جدار الخوف الذي شيده نظام ديكتاتوري وشمولي ووحشي منذ أكثر من نصف قرن. في الحقيقة لست محترفًا في أدوات النقد، ولكن وفقًا لما كُتب عن مجموعتي، أحسب أن قصص "دوبامين" قدمت ما يميزها في بنائها الفني وكذلك في مجال تقنية حكائية تجمع بين النفسي والبوليسي والفكاهي. ومثل أي عمل أدبي وإبداعي آخر، سوف تتميز مجموعتي بفرادة التجربة على الأقل، إن لم نقل بزاوية الرؤية وشخصية الكاتب وبصمته الأدبية، وهذا أمر طبيعي، ولأكون منصفًا لنفسي ونصوصي فإن حكايات "دوبامين" ليست للقراءة، بل لتشغيل القلب والحواس.

- بطل القصص في "دوبامين" شخصية واحدة محورية لا هوية واضحة لها سوى أنه لاجئ، وهناك شخصيات هامشية تدور في فلك البطل. وهذا قد يقود القارئ لتخيل تلك القصص كأنها رواية أكثر من كونها مجموعة قصصية، من هو بطل قصصك ومن أي بلد جاء إلى بريطانيا؟ ثم أين تعدد الأصوات في القصص؟
في الحقيقة، تعمدت إخفاء هوية البطل، إذ وجدت أن إظهارها سيضفي على النص نوعًا من المباشرة التي لا أحبها في الكتابة الأدبية، وسيفقدني القدرة على المناورة والمخاتلة وخلق الغموض والتشويق الذي يمتع القارئ، لكن - رغم ذلك - كثيرًا ممن قرؤوا مجموعتي (سوريون، عراقيون، تونسيون) أخبروني أنهم وجدوا شيئًا من أنفسهم في شخصية البطل. بخصوص الجزء الثاني من سؤالك، أنا لست ضد تعدد الأصوات إطلاقاً، ولكن هي مجرد تقنية اخترت فيها أن يكون البطل حاضرًا بقوة في نسيج حكاياتي معتمدًا في السرد على ضمير الأنا وهي أشبه بطريقة كتابة المذكرات، بهدف إحداث أكبر قدر ممكن من التأثير العاطفي وانحياز القارئ لقضيته المتمثلة بكونه غريب مأزوم نفسيًا يكافح بلا هوادة للعيش في مجتمعه الجديد.
- تميزت جميع قصصك التسع في مجموعة "دوبامين" بغرابة الشخصية وغرائبية نهاياتها، ما تفسير ذلك؟
صحيح، كثير ممن قرأ المجموعة أخبروني بأن بطل قصصي فيه مس من الجنون أو إنه شخص واهم ومأزوم نفسيًا، وقد أسعدني ذلك كثيرًا، لأنني بذلك أكون قد نجحت إلى حد ما في إيصال رسالتي، فالقادم من بلاد فيها الإنسان رخيص إلى درجة يكون قتله أو تعذيبه أسهل من قتل أو تعذيب ذبابة، لابد أن يصل إلى الضفة الأخرى كتلةً من الأزمات والعقد النفسية.
أما عن النهايات الغرائبية، أقول إن البناء الفني لقصص "دوبامين" ينطلق من الواقع المعاش ويجنح نحو الخيال في كثير من المواضع والأحداث. لذلك أرى أن النهايات الغرائبية لقصصي تضفي عليها قيمة أدبية أو رمزية ما، فنحن في زمن اللامعقول، وما شهدته بلدان عربية منها سوريا من أهوال لا يمكن تصديقها، وهذا الأمر جعل القارئ العربي أكثر نضجًا وخبرة، بحيث لم يعد يتذوق السرد الواقعي بل بات يحتاج - من وجهة نظري- إلى نص أدبي يدهشه ويحلق به بعيد في مخياله ليخلق فيه ذلك الأثر المنشود.

"ارفع صوتك" حاور عبيه لمعرفة المزيد عن هذه التجربة التي أثارت جدلاً حاميًا ما تزال آثاره مستمرّة حتى اليوم.
- أخبرتني أنك كتبت المجموعة في بريطانيا، ما الذي اختلف في شخصيتك كروائي وصحفي عن وجودك في سوريا أو أماكن أخرى يعيش فيها السوري ظروفا قاسية؟
غالبًا تحتاج الكتابة الأدبية إلى بيئة مناسبة وأقصد هنا وطنًا يحترم الكاتب ويصون حقوقه الإنسانية والاجتماعية والسياسية، ولكن أحيانًا عندما يدون السجين مشاعره ومناجاته وهو ينظر إلى نافذة صغيرة يدخل منها شعاع ضوء يمكن أن ينتج أدبًا عظيمًا. لقد عشت تجربة الكتابة في سوريا، وأنتجت مجموعة قصصية بعنوان "تفاصيل لا تعني أحدًا" ولأنني كنت في سجن كبير يسمى سوريا وكتبت تحت وطأة الرقيب الذاتي والخوف من الملاحقة الأمنية حصدت مجموعتي جائزة "المزرعة" الأدبية، وأعتقد أن كل تلك العوائق ساهمت في تحريك قلمي بطريقة التلميح واللعب على الترميز تاركا القارئ يملأ الفراغات بذكائه، ويكمل ما لم أستطع أن أكمله من عبارات، وهذه الطريقة الأدبية في التخفي والمناورة كان يسلكها كثير من الأدباء السوريين والمصريين وبلدان عربية أخرى للإفلات من قبضة الرقيب الأمني.
- ما الفرق بين ما يقدم الآن وبين ما قدم قبل عقود وتحديد في مسألة أدب المهجر؟ وهل نحن أمام أدب جديد أسمه أدب اللجوء؟
دعني أقول إن هناك تقاطعات كثيرة في أدب المهجر عمومًا، فقبل عقود برزت موجة أدبية في المنافي وظهر كتاب عظماء عبروا عن واقعهم في مجتمعاتهم الجديدة كما كتبوا عن الظلم والاضطهاد وكم الأفواه في بلادهم التي جاؤوا منها، والآن بعد الثورات العربية المطالبة بالتغيير برزت موجة مشابهة من حيث المبدأ، فالظلم وكم الأفواه ما زال ساريا إضافة إلى أزمات سياسية واقتصادية، ولكن أكثر ما يميز بين المرحلتين هو عصر العولمة والثورة التكنولوجية التي تطورت على إثرها وسائل الطباعة الحديثة ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت بدورها للكتاب والأدباء انتشارًا أوسع لأعمالهم.

- برايك لماذا تستحوذ الرواية على اهتمام الجمهور العربي أكثر من القصة القصيرة؟ ولماذا لم تكتب الرواية؟
من المعروف اهتمام الأدباء والناشرين والقارئ العربي بالرواية أكثر من القصة القصيرة والمسرحية والشعر، ولا أدري ما هي الأسباب وراء ذلك. ربما نحن في عصر الرواية، أدبيًا، وقد تتحسن مكانة القصة القصيرة مستقبلاً، ولكن على أي حال، هذا الأمر لا يزعجني إطلاقًا، فأنا أحب أن أقرأ وأكتب في كلا النوعين، ولدي مشروعي الأول في الرواية وهو قيد الإنجاز.