صدرت لأزهر جرجيس مجموعتان قصصيتان: "فوق بلاد السواد" (2015)، و"صانع الحلوى" (2017)؛ وروايتان: "النوم في حقل الكرز" (2019)، و"حجر السعادة"(2022) .
صدرت لأزهر جرجيس مجموعتان قصصيتان: "فوق بلاد السواد" (2015)، و"صانع الحلوى" (2017)؛ وروايتان: "النوم في حقل الكرز" (2019)، و"حجر السعادة"(2022) .

أعلنت قبل أيام القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لهذا العام (البوكر 2023). وضمت 6 أسماء: من العراق، ومصر، والجزائر، وسلطنة عمان، وليبيا، والسعودية. العراق كان ممثلا في القائمة عن طريق الروائي أزهر جرجيس وروايته "حجر السعادة". "ارفع صوتك" تعرّف أكثر إلى الكاتب العراقي من خلال باقة من الأسئلة.

  • تطالع القارئ منذ النظرة الأولى صورة الغلاف بأبعادها العميقة، فتدمج بين جماد الحجر ثم تربطه بالحياة حين يتحول لتميمة في العنق، ثم تجعله العين الثاقبة على الأحداث من خلال النواة الأشبه بعدسة التصوير. كيف تربط فلسفة الصورة بمضمون الكتاب؟

يلعب الحجر الذي يظهر على الغلاف دورين متكاملين ومتناقضين على حد سواء. ففي البداية يحضر كحلّ لمشكلة يعاني منها البطل كمال توما وهي التأتأة، ويشكل هذا الحجر الصغير الذي يعثر عليه كمال بين الحشائش في بستان الجن في الموصل، مفتاح الحل لمشكلته، فيمضغ عليه ليخفي عجزه. وبهذا يمنحه شعور بالقوة والتغلب على العوائق. لكن في الحقيقة، الحجر ليس العلاج، والحل الذي يقدمه لا يعدو كونه أكثر من وهم لأنه ينتهي بتحويل كمال إلى شخص جبان وضعيف.  لذلك، بالإمكان النظر للحجر كرمز لكل الاعتقادات الواهية التي تشكل جزءا من الموروث الشعبي والتي لا تمت للواقع بصلة. تستحضرني مثلا قصة متناقلة عن حجر كبير داخل باحة مسجد من مساجد بغداد، يقال أن لعق المياه التي تسيل عليه يكفي للتغلب على التلعثم. ولكن هذا الحجر على شاكلة التمائم والتعاويذ الخادعة التي يرتفع سعرها كلما زاد إيمان الناس بها. من هنا، تكون الدعوة إلى النظر بشكل مختلف للحجر.. للتفكير خارج الصندوق وللإيمان بأن القوة الحقيقية تنبع من الداخل ومن التعلم ولا تتطلب الارتباط بالآخر وبالأفكار المتوارثة التي يرفض المساس بها.

  • كيف تصف شخصية كمال توما وما الذي يجمع بينه وبين الشخصية العراقية برأيك؟

يمثل كمال توما الشخصية العراقية تماما كما يمثل المجتمع العراقي اليوم. على المستوى الفردي، يعاني كمال توما من التأتأة أو التلعثم الذي يدلّ على تعرضه منذ الصغر لعنف كبير وهكذا الشخصية العراقية اليوم. هذا ما فعلته بها سنون الحرب الطويلة. يخيّل لك أن هذه الشخصية أضعفت بشكل ممنهج. وكمال توما هو في الواقع الصورة المناقضة للبطل المنمط كما نعرفه (anti-hero). من هذا المنطلق، لا يظهر الفرد العراقي بشكل خاص، والعربي بشكل عام، بهيأة الفاتح الذي تتوق النساء الأجنبيات للارتماء بأحضانه، بل هو شخص يطارده الشعور بالعجز وبنقص الكفاءة والإنتاجية، وأبسط مثال على ذلك عجزه عن إتقان اللغة عند الهجرة. يقف هذا النقص حاجزا أمام قدرته على الاندماج والعمل كعنصر فاعل ليسود ذلك الاستسلام المعروف على أرض الوطن: المحسوبية والاتكالية وجني المال بدون جهد. هذا عدا عن الصورة النمطية المنتشرة وتصوير العرب في الخارج كشخصيات عنيفة قد تباغتك في أي وقت بلكمة أو بتفجير. لذلك يتعامل الاخرون مع هذه الشخصيات بالكثير من الحذر. وهذا ما حاولنا التغلب عليه من خلال توعية وتمكين المهاجرين حول النظام في البلد الجديد ومساعدتهم على الاندماج وعلى أن اكتساب الاحترام والسلام والحماية من خلال الابتعاد عن الانشقاقات واحترام القوانين.

أما على مستوى المجتمع، يشبه كمال توما المجتمع العراقي الذي يتوق إلى الحياة، ولكنه يقف أيضا عاجزا أمام التنمر الذي تعرض إليه خلال وقت طويل.  التأتأة التي يعاني منها كمال توما مرادف للتنمر الذي يشبه الاحتلال. وقد جرت العادة بعكوف القوة العظمى على إضعاف البلدان التي تود السيطرة عليها. في فترة الطفولة، يتنمر الأقوياء أو من يخالون أنفسهم أقوياء على الضعفاء. كم من مرة يطرح السؤال حول حال العراق وانحداره بهذا الشكل. كيف لبلد يطوف بالخير وبالبترول وبالخيرات وبالثروة الانسانية والثقافية العابرة للأديان وللطوائف أن يستضعف بهذا الشكل. لقد جعل هذا الضعف العراق كما كمال توما لقمة سائغة في فم "الأقوياء" أو من يظنون أنفسهم كذلك.

  • هل يترجم هذا العتب بخصومة أزهر جرجيس مع العراق؟  

لم أتخاصم يوما مع العراق ولن أتخاصم معه. ولطالما وضعته في المرتبة الأولى قبل الغربة. الوطن كالأم بينما الغربة أشبه بزوجة الأب التي مهما كانت طيبة لن تعطيك الدفء كله. وقد سبق لي أن استخدمت هذه الصورة المجازية في روايتي حين تكلمت عن كمال توما الصغير الذي شقى وهو يرجو قطعة من "الزلابية" من زوجة أبيه. فكانت تخدر إصراره ببعض الحلوى الرخيصة حتى ضاق ذرعا في يوم من الأيام وسرق "الزلابية" وتناولها على السطح وكان القطر السائل منها قد امتزج بالخيوط والغبار العتيق في جيب بنطاله. كلفته هذه الحلوى الشعبية الشهيرة الكثير من أمانه وحياته ووضعته أمام مشاهد عنف متكررة رافقته حتى الكبر. بغداد لم تخاصمني يوما ولكن خصومتي كانت ولا تزال مع كل الذين أرادوا ويريدون الركوب على ظهر العراق.. مجرد أشخاص حالفهم الحظ ومنحهم سلطة يتحكمون بها في مفاصل الحياة اليومية ويؤثرون على الآخرين بغير حق.

  • هل من حجر على شاكلة "حجر السعادة" كفيل بمنح نوع من الطمأنينة ولو كانت وهمية للعراق؟

لا أتمنى أن يكون الحل العراقي على طريقة "حجر السعادة"، لأن السعادة التي يمنحها هذا الحجر مؤقتة، وقد انتهت بتحويل كمال توما إلى شخصية ضعيفة يسير قرب الحائط. برأيي، الأمر لا يحتاج إلى سحر أو معجزة تُنهي التفرقة، كل ما نحتاجه التسامح ونبذ الخصومات.  في "حجر السعادة"، يتجه البطل نحو الانتقام بعد محاولة اغتياله، ولكن الحل يكمن في التسامح ونسيان الماضي أو حتى تعلم التعايش معه. كلنا مخطئون، والفارق في التوقيت، فهناك من أخطأ في الماضي وهناك من يخطىء الآن وربما في المستقبل، فلنجلس ونتحاور لنتخلص من فاقة الانتماءات الخارجية التي تتسلل، في العادة، برداء العون قبل أن تتحول إلى الإملاء، ولنستمع لبعضنا بعضا دون الرجم بحجر الخطيئة.

  • كيف يمكن للعراق أن يتخطى الضربات المتكررة والتعقيدات التي تعكسها الشخصيات في رواياتك، وما دور الشباب في ذلك؟

لا شك أن الانشقاقات التي تمزق العراق إنما تعكس عملا ممنهجا منذ زمن بعيد، لذا فالحل كل الحل يكمن في رتق الفرقة ودرء المزيد من الاختلاف والتخاصم. وهذا لا يأتي بجلسة حوار مصطنع أو عقد شرف صوري، بل بخطة ومنهج يكفل إصلاح ما تهشم كالتعليم الذي بات عاجزا عن المنافسة من حيث الجودة. أما شبابنا فأراهم يعانون من "فوبيا" الانتماء، ولعل هذا ناتج عن خيبة أملهم في التغيير الذي كلما أحدثوه، تلاشى وعادت السلطة النهمة لتقاسم الكعكة من جديد. لكن الأمر ليس بالمستحيل، سيما ونحن نتحدث عن فئة عمرية لا تعترف بالمستحيل، فالإيمان بأهمية التعليم الرصين والعمل المؤسساتي المنظم، والتعرف على ماهية المواطنة والانتماء، أمور من شأنها إعادة الثقة بالتغيير الذي، مهما طال الوقت، أراه واقعاً.

  •  ما هي أكثر الذكريات التي تطبع حياة أزهر في رحلة الابتعاد عن الوطن؟

تجربة الهجرة بالنسبة لي تجربة ثقيلة ومؤلمة، تنتقل وطأتها العاطفية لشخصياتي التي تعاني. لقد غادرت بغداد قسرا. تعذبت كثيرا قبل الوصول إلى النرويج وحتى حين وصلت، لم أعمل بمؤهلاتي العلمية فورا، وهذا مما لا يُنسى. فأنا العراقي الذي يتبجّح بالتاريخ والحضارة ويفتخر بأن "بابل" تُدرّس لطلبة المدارس الثانوية لبلاد الغرب، وجدتني ذات يوم مصطفًا مع مجموعة من المهاجرين القادمين من بلدان في غاية الفقر والأمية، نستمع لمحاضرة من موظفة في دائرة الهجرة حول استخدام المرحاض بسبب إهمال أو قلة إدراك بعض ممن كانوا يشاطروني السكن في "كامب" اللاجئين. لم يكن هذا الموقف الوحيد، لقد اختبرت الكثير من الانكسارات، لكنها مرّت ولم تنتقص من فخري بهويتي، لا بل وأغنت مجموعاتي القصصية مثل "فوق بلاد السواد" و "صانع الحلوى".

  • انطلاقا من ذلك، هل تؤمن بالمفعول العلاجي للكتابة؟

أرى بأن الكتابة الصادقة والنابعة من الوجدان تشفي الوجدان، لكن هذا لا يعني، على أية حال، أن يُفرغ الكاتب مشاعره السامة كلها أمام القراء. كل ما في الأمر أن الكتابة تضعنا أمام المصالحة مع الذات، والأمر سيان بالنسبة لباقي الفنون. لقد تصالح "كيمو" مع نفسه حين أمسك بالكاميرا أخيراً وصار مصوراً فوتوغرافياً.

  • خلف هجرتك وخلف شخصياتك ميليشيا تهدد وتنفذ.. ماذا عن ميليشيا الأفكار والرقابة عليها؟

ربما الحسنة الوحيدة لكل الميليشيات في العالم هي أنها لا تقرأ. لقد سُئل الكاتب التركي، عزيز نيسين، ذات يوم عن تعرّضه للسلطة بأسلوبه الساخر وعن مصدر تلك الشجاعة، فأجاب ببساطة أنه ليس شجاعا كما يعتقدون، بل محظوظاً بسلطة أمّيّة. أعتقد بأن الكتابة لا قيمة لها حين لا تكون مشاكسة، سيما وأن لائحة الممنوعات صارت أكثر من حبات الرمل في صحراء البادية، أما الحياة، فبعد كل ما جرى، لم تعد تؤخذ على محمل الجد.

  • كيف ترى العراق اليوم وما هي الرسالة التي توجهها للقراء؟

لست متشائما كما أني لست مفرطا بالتفاؤل، هنالك واقع ووقائع، ومن يرى بعينين لن ينكر الضوء في آخر النفق. على أنه سيبقى محض بصيص ما لم نركن إلى حقيقة تفيد بأن العراق أهم من كل انتماء، وبأننا مهما شرّقنا أو غرّبنا لن يكون لنا سواه. المتتبع للحكاية من أولها، سيقر بأن أسّ الخراب يكمن في اختلال سلّم الأولويّات والمفاضلة في الانتماء، وأن قائمة لن تقوم لنا ما لم نغادر حلبة الانتماءات هذه، ونكتفي بالمواطنة. ولعلها مهمة الشباب، الذي أتمنى عليهم ألا يتوقفوا عن طرح الأفكار وتنظيمها في قالب يجنبهم الحاجة الى الغير، ويكسبهم المزيد من الاستقلالية مما لا يجعلهم في النهاية مطية لسلاطين الدين والسياسة. يبقى أن نتمسك بالشجاعة والبحث عن المساواة على جميع المستويات، في مجتمع لا يترك مكانا للتنمر مثلا، ويصنع من المرأة والرجل بناة مستقبل صالحين من خلال المساواة التي يتعلمها الرجل مع المرأة ورفض هذه الأخيرة الركون للعنصرية ضد بنات جنسها. هذه حقيقة وما دون ذلك سراب.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".