أعلنت قبل أيام القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لهذا العام (البوكر 2023). وضمت 6 أسماء: من العراق، ومصر، والجزائر، وسلطنة عمان، وليبيا، والسعودية. العراق كان ممثلا في القائمة عن طريق الروائي أزهر جرجيس وروايته "حجر السعادة". "ارفع صوتك" تعرّف أكثر إلى الكاتب العراقي من خلال باقة من الأسئلة.
- تطالع القارئ منذ النظرة الأولى صورة الغلاف بأبعادها العميقة، فتدمج بين جماد الحجر ثم تربطه بالحياة حين يتحول لتميمة في العنق، ثم تجعله العين الثاقبة على الأحداث من خلال النواة الأشبه بعدسة التصوير. كيف تربط فلسفة الصورة بمضمون الكتاب؟
يلعب الحجر الذي يظهر على الغلاف دورين متكاملين ومتناقضين على حد سواء. ففي البداية يحضر كحلّ لمشكلة يعاني منها البطل كمال توما وهي التأتأة، ويشكل هذا الحجر الصغير الذي يعثر عليه كمال بين الحشائش في بستان الجن في الموصل، مفتاح الحل لمشكلته، فيمضغ عليه ليخفي عجزه. وبهذا يمنحه شعور بالقوة والتغلب على العوائق. لكن في الحقيقة، الحجر ليس العلاج، والحل الذي يقدمه لا يعدو كونه أكثر من وهم لأنه ينتهي بتحويل كمال إلى شخص جبان وضعيف. لذلك، بالإمكان النظر للحجر كرمز لكل الاعتقادات الواهية التي تشكل جزءا من الموروث الشعبي والتي لا تمت للواقع بصلة. تستحضرني مثلا قصة متناقلة عن حجر كبير داخل باحة مسجد من مساجد بغداد، يقال أن لعق المياه التي تسيل عليه يكفي للتغلب على التلعثم. ولكن هذا الحجر على شاكلة التمائم والتعاويذ الخادعة التي يرتفع سعرها كلما زاد إيمان الناس بها. من هنا، تكون الدعوة إلى النظر بشكل مختلف للحجر.. للتفكير خارج الصندوق وللإيمان بأن القوة الحقيقية تنبع من الداخل ومن التعلم ولا تتطلب الارتباط بالآخر وبالأفكار المتوارثة التي يرفض المساس بها.
- كيف تصف شخصية كمال توما وما الذي يجمع بينه وبين الشخصية العراقية برأيك؟
يمثل كمال توما الشخصية العراقية تماما كما يمثل المجتمع العراقي اليوم. على المستوى الفردي، يعاني كمال توما من التأتأة أو التلعثم الذي يدلّ على تعرضه منذ الصغر لعنف كبير وهكذا الشخصية العراقية اليوم. هذا ما فعلته بها سنون الحرب الطويلة. يخيّل لك أن هذه الشخصية أضعفت بشكل ممنهج. وكمال توما هو في الواقع الصورة المناقضة للبطل المنمط كما نعرفه (anti-hero). من هذا المنطلق، لا يظهر الفرد العراقي بشكل خاص، والعربي بشكل عام، بهيأة الفاتح الذي تتوق النساء الأجنبيات للارتماء بأحضانه، بل هو شخص يطارده الشعور بالعجز وبنقص الكفاءة والإنتاجية، وأبسط مثال على ذلك عجزه عن إتقان اللغة عند الهجرة. يقف هذا النقص حاجزا أمام قدرته على الاندماج والعمل كعنصر فاعل ليسود ذلك الاستسلام المعروف على أرض الوطن: المحسوبية والاتكالية وجني المال بدون جهد. هذا عدا عن الصورة النمطية المنتشرة وتصوير العرب في الخارج كشخصيات عنيفة قد تباغتك في أي وقت بلكمة أو بتفجير. لذلك يتعامل الاخرون مع هذه الشخصيات بالكثير من الحذر. وهذا ما حاولنا التغلب عليه من خلال توعية وتمكين المهاجرين حول النظام في البلد الجديد ومساعدتهم على الاندماج وعلى أن اكتساب الاحترام والسلام والحماية من خلال الابتعاد عن الانشقاقات واحترام القوانين.
أما على مستوى المجتمع، يشبه كمال توما المجتمع العراقي الذي يتوق إلى الحياة، ولكنه يقف أيضا عاجزا أمام التنمر الذي تعرض إليه خلال وقت طويل. التأتأة التي يعاني منها كمال توما مرادف للتنمر الذي يشبه الاحتلال. وقد جرت العادة بعكوف القوة العظمى على إضعاف البلدان التي تود السيطرة عليها. في فترة الطفولة، يتنمر الأقوياء أو من يخالون أنفسهم أقوياء على الضعفاء. كم من مرة يطرح السؤال حول حال العراق وانحداره بهذا الشكل. كيف لبلد يطوف بالخير وبالبترول وبالخيرات وبالثروة الانسانية والثقافية العابرة للأديان وللطوائف أن يستضعف بهذا الشكل. لقد جعل هذا الضعف العراق كما كمال توما لقمة سائغة في فم "الأقوياء" أو من يظنون أنفسهم كذلك.
- هل يترجم هذا العتب بخصومة أزهر جرجيس مع العراق؟
لم أتخاصم يوما مع العراق ولن أتخاصم معه. ولطالما وضعته في المرتبة الأولى قبل الغربة. الوطن كالأم بينما الغربة أشبه بزوجة الأب التي مهما كانت طيبة لن تعطيك الدفء كله. وقد سبق لي أن استخدمت هذه الصورة المجازية في روايتي حين تكلمت عن كمال توما الصغير الذي شقى وهو يرجو قطعة من "الزلابية" من زوجة أبيه. فكانت تخدر إصراره ببعض الحلوى الرخيصة حتى ضاق ذرعا في يوم من الأيام وسرق "الزلابية" وتناولها على السطح وكان القطر السائل منها قد امتزج بالخيوط والغبار العتيق في جيب بنطاله. كلفته هذه الحلوى الشعبية الشهيرة الكثير من أمانه وحياته ووضعته أمام مشاهد عنف متكررة رافقته حتى الكبر. بغداد لم تخاصمني يوما ولكن خصومتي كانت ولا تزال مع كل الذين أرادوا ويريدون الركوب على ظهر العراق.. مجرد أشخاص حالفهم الحظ ومنحهم سلطة يتحكمون بها في مفاصل الحياة اليومية ويؤثرون على الآخرين بغير حق.
- هل من حجر على شاكلة "حجر السعادة" كفيل بمنح نوع من الطمأنينة ولو كانت وهمية للعراق؟
لا أتمنى أن يكون الحل العراقي على طريقة "حجر السعادة"، لأن السعادة التي يمنحها هذا الحجر مؤقتة، وقد انتهت بتحويل كمال توما إلى شخصية ضعيفة يسير قرب الحائط. برأيي، الأمر لا يحتاج إلى سحر أو معجزة تُنهي التفرقة، كل ما نحتاجه التسامح ونبذ الخصومات. في "حجر السعادة"، يتجه البطل نحو الانتقام بعد محاولة اغتياله، ولكن الحل يكمن في التسامح ونسيان الماضي أو حتى تعلم التعايش معه. كلنا مخطئون، والفارق في التوقيت، فهناك من أخطأ في الماضي وهناك من يخطىء الآن وربما في المستقبل، فلنجلس ونتحاور لنتخلص من فاقة الانتماءات الخارجية التي تتسلل، في العادة، برداء العون قبل أن تتحول إلى الإملاء، ولنستمع لبعضنا بعضا دون الرجم بحجر الخطيئة.
- كيف يمكن للعراق أن يتخطى الضربات المتكررة والتعقيدات التي تعكسها الشخصيات في رواياتك، وما دور الشباب في ذلك؟
لا شك أن الانشقاقات التي تمزق العراق إنما تعكس عملا ممنهجا منذ زمن بعيد، لذا فالحل كل الحل يكمن في رتق الفرقة ودرء المزيد من الاختلاف والتخاصم. وهذا لا يأتي بجلسة حوار مصطنع أو عقد شرف صوري، بل بخطة ومنهج يكفل إصلاح ما تهشم كالتعليم الذي بات عاجزا عن المنافسة من حيث الجودة. أما شبابنا فأراهم يعانون من "فوبيا" الانتماء، ولعل هذا ناتج عن خيبة أملهم في التغيير الذي كلما أحدثوه، تلاشى وعادت السلطة النهمة لتقاسم الكعكة من جديد. لكن الأمر ليس بالمستحيل، سيما ونحن نتحدث عن فئة عمرية لا تعترف بالمستحيل، فالإيمان بأهمية التعليم الرصين والعمل المؤسساتي المنظم، والتعرف على ماهية المواطنة والانتماء، أمور من شأنها إعادة الثقة بالتغيير الذي، مهما طال الوقت، أراه واقعاً.
- ما هي أكثر الذكريات التي تطبع حياة أزهر في رحلة الابتعاد عن الوطن؟
تجربة الهجرة بالنسبة لي تجربة ثقيلة ومؤلمة، تنتقل وطأتها العاطفية لشخصياتي التي تعاني. لقد غادرت بغداد قسرا. تعذبت كثيرا قبل الوصول إلى النرويج وحتى حين وصلت، لم أعمل بمؤهلاتي العلمية فورا، وهذا مما لا يُنسى. فأنا العراقي الذي يتبجّح بالتاريخ والحضارة ويفتخر بأن "بابل" تُدرّس لطلبة المدارس الثانوية لبلاد الغرب، وجدتني ذات يوم مصطفًا مع مجموعة من المهاجرين القادمين من بلدان في غاية الفقر والأمية، نستمع لمحاضرة من موظفة في دائرة الهجرة حول استخدام المرحاض بسبب إهمال أو قلة إدراك بعض ممن كانوا يشاطروني السكن في "كامب" اللاجئين. لم يكن هذا الموقف الوحيد، لقد اختبرت الكثير من الانكسارات، لكنها مرّت ولم تنتقص من فخري بهويتي، لا بل وأغنت مجموعاتي القصصية مثل "فوق بلاد السواد" و "صانع الحلوى".
- انطلاقا من ذلك، هل تؤمن بالمفعول العلاجي للكتابة؟
أرى بأن الكتابة الصادقة والنابعة من الوجدان تشفي الوجدان، لكن هذا لا يعني، على أية حال، أن يُفرغ الكاتب مشاعره السامة كلها أمام القراء. كل ما في الأمر أن الكتابة تضعنا أمام المصالحة مع الذات، والأمر سيان بالنسبة لباقي الفنون. لقد تصالح "كيمو" مع نفسه حين أمسك بالكاميرا أخيراً وصار مصوراً فوتوغرافياً.
- خلف هجرتك وخلف شخصياتك ميليشيا تهدد وتنفذ.. ماذا عن ميليشيا الأفكار والرقابة عليها؟
ربما الحسنة الوحيدة لكل الميليشيات في العالم هي أنها لا تقرأ. لقد سُئل الكاتب التركي، عزيز نيسين، ذات يوم عن تعرّضه للسلطة بأسلوبه الساخر وعن مصدر تلك الشجاعة، فأجاب ببساطة أنه ليس شجاعا كما يعتقدون، بل محظوظاً بسلطة أمّيّة. أعتقد بأن الكتابة لا قيمة لها حين لا تكون مشاكسة، سيما وأن لائحة الممنوعات صارت أكثر من حبات الرمل في صحراء البادية، أما الحياة، فبعد كل ما جرى، لم تعد تؤخذ على محمل الجد.
- كيف ترى العراق اليوم وما هي الرسالة التي توجهها للقراء؟
لست متشائما كما أني لست مفرطا بالتفاؤل، هنالك واقع ووقائع، ومن يرى بعينين لن ينكر الضوء في آخر النفق. على أنه سيبقى محض بصيص ما لم نركن إلى حقيقة تفيد بأن العراق أهم من كل انتماء، وبأننا مهما شرّقنا أو غرّبنا لن يكون لنا سواه. المتتبع للحكاية من أولها، سيقر بأن أسّ الخراب يكمن في اختلال سلّم الأولويّات والمفاضلة في الانتماء، وأن قائمة لن تقوم لنا ما لم نغادر حلبة الانتماءات هذه، ونكتفي بالمواطنة. ولعلها مهمة الشباب، الذي أتمنى عليهم ألا يتوقفوا عن طرح الأفكار وتنظيمها في قالب يجنبهم الحاجة الى الغير، ويكسبهم المزيد من الاستقلالية مما لا يجعلهم في النهاية مطية لسلاطين الدين والسياسة. يبقى أن نتمسك بالشجاعة والبحث عن المساواة على جميع المستويات، في مجتمع لا يترك مكانا للتنمر مثلا، ويصنع من المرأة والرجل بناة مستقبل صالحين من خلال المساواة التي يتعلمها الرجل مع المرأة ورفض هذه الأخيرة الركون للعنصرية ضد بنات جنسها. هذه حقيقة وما دون ذلك سراب.