توفي الشيخ عثمان الموصلي سنة 1923 عن عمر 69 عاما. [صورة  الشيخ الموصلي من موقع "الوتر السابع"]
توفي الشيخ عثمان الموصلي سنة 1923 عن عمر 69 عاما. [صورة الشيخ الموصلي من موقع "الوتر السابع"]

تحل هذا العام الذكرى المئوية لوفاة الشيخ عثمان الموصلي الشهير باسم "ملا عثمان"، وهو واحد من الرموز الوطنية للعراق الحديث، وأحد أهم مطوري الموسيقى العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين. فنان أدمن الترحال، تاركاً في كل مكان يزوره نغمات خالدة لا يزال يرددها مطربو العرب من المحيط إلى الخليج. بل إن تأثيرات هذا العبقري العراقي وصلت إلى الموسيقى التركية ذاتها في الفترة الطويلة التي سكن فيها إسطنبول.

 

ابن الموصل الضرير

 

ولد الشيخ عثمان في مدينة الموصل لعائلة عربية ذات جذور قبلية عام 1854. توفي والده السقاء حين بلغ السابعة من عمره، وشاء القدر أن يصاب بالجدري في السنة نفسها فيفقد بصره، ولكن أحد أثرياء المدينة، وهو أحمد عزت باشا العمري (1828-1892)، ألحقه بأولاده بعد لمس ملامح العبقرية في سلوك هذا الطفل المعجرة، فخصص له من يحفّظه القرآن، ومقامات التلاوة، والأحاديث النبوية؛ وعين له مدرساً خاصاً بالأنغام والمقامات بعد أن لمس روعة صوته.

بعد أن أنهى الفتى عثمان دروسه، توجه إلى بغداد فحل في بيت مربيه الباشا العمري، وسرعان ما أصبح فاكهة المجالس البغدادية، لما اشتهر به من نظم القصائد، وغناء الموشحات والمقامات، والعزف على أكثر من آلة موسيقية، حتى غدا حديث الناس. وفي خلال تلك الفترة، لم يقصر اهتمامه على الغناء فحسب، بل حفظ صحيح البخاري على الشيخين داود وبهاء الحق الهندي المدرس الثاني في الحضرة العلوية، إضافة إلى أنه كان أفضل قارئ للمولد النبوي في وقته، حيث كان يحصل في بعض المرات على مكافآت تبلغ خمسين ليرة ذهبية لقاء قراءته، وهو مبلغ كبير في تلك الأيام، ولكنه كان ينفق كل ما يصل ليديه على أصحابه الفقراء والمعوزين من الفنانين.

وبعد سنوات أمضاها في بغداد، قرر العودة إلى الموصل لإتمام القراءات السبع على يد الشيخ محمد السيد الحاج حسن. وفي هذه المرحلة، انتظم في الطريقة الصوفية القادرية، وأدى فريضة الحج قبل أن ينتقل إلى عاصمة السلطنة بحثاُ عن آفاق أوسع من تلك التي عاشها في بغداد والموصل.

 

في إسطنبول

 

في إسطنبول نزل الشيخ الموصلي في جامع "نور العثمانية" الكائن بحي شنبرلي طاش، وبدأ يقرأ في جامع أيا صوفيا أجزاءً من القرآن بصوته العذب الشجي، حتى أثار انتباه أدباء وفناني الأتراك، فهرعوا إليه يستطلعون أمره. وسرعان من وصل خبره للمنتديات الأدبية والفنية التركية، إذ كان يجيد نظم الشعر والغناء بالتركية أيضاً، حتى أصبح له تلاميذ ومريدون. وفي هذه المرحلة استدعى عائلته إلى إسطنبول، واستأجر داراً صغيرة بجوار جامع "نور العثمانية"، وقربه كبراء العراق المقيمون في عاصمة السلطنة كنواب في مجلس المبعوثين، أمثال محمد وشاكر وعلاء الدين الألوسي (من عائلة واحدة)، والشـيخ يوسف السويدي، وغيرهم، وأصبحوا يصطحبونه في رحلة سنوية إلى بغداد أطلق عليها اسم رحلة الشتاء والصيف.

كان عزف عثمان الموصلي على آلة القانون من أكثر الأشياء لفتاً للأنظار في تلك المرحلة، كما يقول المؤرخ أدهم الجندي، الذي ذكر في ترجمته له ما يلي: "لقد صدق المثل القائل: كل ذي عاهة جبار، فقد تعلق هذا النابغة الضرير بالفن الموسيقي، فتعلم من تلقاء نفسه العزف على آله القانون، وهي كثيرة الأوتار صعبة المنال في ضبط مقاماتها، ثم تعلم العزف على الناي، فأتى بغرائب الإعجاز، فكان لا يستعمل في قانونه العربات التي تستعمل عادة لإخراج أنصاف الأرباع، بل كان يتلاعب بأنامله وأطراف أظافره، فيخرج النغمات سليمة شجية مما لم يسبق لغيره أن أتى بمثله، وتطاولت عبقريته على فناني الأتراك اللامعين، فكانوا يرون أنفسهم لا شيء بالنسبة لفنون هذا الضرير الجبارة، ويتسابقون لزيارته ويستقون من ورده الصافي أعذب الموشحات والألحان، ويشهدون بأنه تحفة عجيبة وهبها الدهر للناس لينعم بعبقريته البشر. ولما كان الفقيد النابغة شاعراً ضليعاً باللغتين التركية والفارسية فقد شهد له شعراء الأتراك والعجم بأنه أعجوبة الدهر".

 

إلى القاهرة وحلب

 

كان الدهر يخبئ لملا عثمان مصيبة أذهلت عقله، فقد توفي نجله الوحيد يونس في عاصمة السلطنة، وهو في ريعان شبابه، فرثاه بالمراثي الحزينة المبكية، ومنذ تلك المرحلة باتت ألحانه تجنح نحو الشجن. وبعد أن استبد به الحزن، دعاه صديقه المطرب المصري الكبير عبده الحمولي للذهاب معه إلى مصر، كي يرفه عن نفسه، ويلتقي أساطين النغم العربي، فيأخذ عنهم ويعطيهم ما عنده. وقد أعجبته الفكرة والتحق بحلقة الفنان السوري الكبير الشيخ أبو خليل القباني الفنية، ونشأت بينهما علاقة وشيجة، كتب عنها الممثل والمخرج المصري عمر وصفي (1874- 1945) في مذكراته.

وتشير بعض صحف تلك الفترة إلى نشاط كبير للشيخ عثمان الموصلي في القاهرة، إذ كان كثيراً من يُقرِّضُ بعض العروض المسرحية التي يحضرها، رغم أنه ضرير، بقصائد تنتقل على ألسن الناس. ومن القاهرة تنقل الشيخ الموصلي بعد وفاة صديقيه بين بيروت ودمشق وحلب السورية التي أمضى فيها وقتاً أطول حتى عده البعض حلبياً، فأخذ عن الموسيقيين الحلبيين وأعطاهم.

 

تأثيره على الأتراك

 

أثر الشيخ عثمان الموصلي تأثيرات عميقة في الموسيقى الشرقية، فكان تأثيره على الأتراك لا يقل عن تأثيره على العرب. وفي ذلك يقول المؤرخ الجندي: "لقد أكد الذين عاشروا هذا الجبار المارد في الأستانة أن الوسط الفني فيها كان أوج عظمته في عهده، وقد تطاول هذا الضرير الغريب بعبقريته على فطاحل الفنانين الأتراك.. وكانت آيات صوته الشجي الرخيم وبلاغة نظمه وقوة ألحانه وبراعة إنشاده وعزفه على القانون والناي مضرب الأمثال. وقد التف حوله مشاهير الفنانين الأتراك، وفي طليعتهم سامي بك، صاحب أكبر جوقة تركية شهيرة في وقته، والمغنية الذائعة الصيت بصوتها وفنها المسماة نصيب، وأخذوا عنه الكثير من الموشحات والغزل التركي، وافتتن الأتراك بفنونه، فدانت لعبقريته المواهب. وقد رأيت للذكرى والتاريخ إثبات بعض موشحاته وألحانه التركية ليطلع عليها عشاق الفن، وهي أشهر من أن تذكر، ويكفي الاستدلال على عظمة فنونه أن أبا خليل القباني الفنان الشرقي الأعظم والفنان المصري عبده الحمولي أخذا عنه الموشحات والنغمات التركية في استنبول، ومزجاها بالموشحات والأدوار العربية، فقد كانت نغمات الحجازكار والنهاوند وفروعهما مجهولة في مصر والبلاد العربية".

 

مع سيد درويش

 

من أشهر تلاميذ الشيخ عثمان الموصلي الموسيقار المصري المجدد سيد درويش (1892 - 1923)، والذي تعرف على شيخنا أثناء إقامته في حلب، عام 1912. وكان سيد درويش قد قصد المدينة صحبة فرقة الأخوين عطا الله، ولكنه حين تعرف إلى الشيخ عثمان الموصلي قرر أن يبقى في حلب ليأخذ عنه أصول النغم العراقي والشامي والتركي، فلازمه عامين حتى عام 1914، وقد اقتبس درويش بعض ألحان أستاذه فيما بعد، ووضع لها كلمات مصرية مناسبة.

أثار هذا الموضوع، ومازال، الكثير من الجدل، حيث تُظهر وثائق بين فترة وأخرى صحة هذا الرأي ومنها وثيقة نشرها المؤرخ العراقي سيار الجميل في إحدى دراساته حول أصل لحن الشيخ الموصلي لقصيدة "زر قبر الحبيب مرة"، والتي حولها سيد درويش إلى "زوروني كل سنة مرة". وثمة من ينسب أغنية "طلعت يا محلا نورها" أيضاً للشيخ الموصلي، ولكن الثابت أن أغنيات مثل: "عالروزنة عالروزنة"، و"آه يا حلو يا مسليني"، و"قدك المياس ياعمري"، و"فوق النخل"، و"البنت الشلبية" و"يا أم العيون السود" و"طالعة من بيت أبوها" التي اشتهر بها ناظم الغزالي، كلها من إبداعات الشيخ عثمان الموصلي.

أما موشحات الشيخ الموصلي فقد وثقها وأثبتها المؤرخ الموسيقي المصري المعروف محمد كامل الخلعي في كتبه الكثيرة عن الموسيقى الشرقية، وكذلك المؤرخ أدهم الجندي الذي وثق له أكثر من عشرين موشحاً وأغنية بالعربية والتركية. وفي المكتبة الموسيقية المسجلة اليوم عدداً من الأسطوانات بصوته.

 

مؤلفات متنوعة

 

بالإضافة إلى موسيقاه؛ كانت للشيخ عثمان مؤلفات عديدة في فنون مختلفة مثل كتاب "أبيض خواتم الحكم في التصوف"، وكتاب "نباتي"، وكتاب "الطراز المذهب في الأدب"، وديوان "الأبكار الحسان في مدح سيد الأكوان "، وديوان "المراثى الموصلية في العلماء المصرية "، ورسالة "التوجع الأكبر بحادثة الأزهر"، ورسالة "تخميس لامية الإمام البوصيري الشهيرة"، كما قام بجمع وتنقيح ديوان الشعر المسمى "الترياق الفاروقي"، وهو نظم أستاذه ومربيه عبد الباقي الفاروقي الموصلي شاعر العراق الأكبر، وكذلك "الأجوبة العراقية" لأبي الثناء الالوسي.

 

رمز وطني عراقي

 

غادر الشيخ عثمان الموصلي إسطنبول في الحرب العالمية الأولى عائداً إلى بلده العراق متحمساً للثورة العربية. وفي عام 1920 اتخذ من جامع الحيدرخانة مقراً له، وهو الجامع الذي أنطلقت منه مظاهرات ثورة العشرين، حيث كان الشيخ يبث خطبه هناك ويدعو الناس للثورة. وفي الثلاثين من نوفمبر 1923 توفي عبقري النغم العربي، فدفن في جامع الخفاقين في بغداد، وخرجت بغداد كلها لتوديعه بمأتم عظيم، ومنذ ذلك التاريخ أصبح واحداً من رموز العراق الوطنية، وأطلق اسمه على المدارس والشوارع والمرافق العامة.

وقد احتفل العراق عام 1973 احتفالات كبرى في ذكرى وفاته الخمسين، وقام النحات الشهير فوزي إسماعيل (1935-1986) بإنجاز تمثال تم نصبه في المنطقة التي حملت اسمه وتقع قبالة محطة قطار الموصل. ولكن تنظيم داعش الإرهابي حطمه حين احتل المدينة عام 2014، الأمر الذي أثار غضب العراقيين يومها، واللافت أن أول عمل قامت به بلدية الموصل بعد تحرير المدينة إعادة نحت للتمثال وتثبيته في مكانه القديم نظراً لرمزيته، كما صدر طابع بهذه المناسبة عليه صورة للشيخ عثمان الموصلي أطلق عليه اسم "المُعلم الثالث"، بعد أرسطو (384-322 ق.م)، والفارابي (874-950م).

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".